عكست رسائل الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في كلمته بحفل تخرج طلبة الكليات العسكرية في 12 أكتوبر الجاري، الرؤية المصرية تجاه التهديدات التي تحيط بالأمن القومي العربي، والثوابت المصرية تجاه حل الأزمات العربية التي تنطلق من إعلاء صوت العقل والحكمة، واللجوء إلى المسار التفاوضى والسياسي لإنهاء الأزمات الحالية، فضلا ً عن استعداد مصر للوساطة والتنسيق مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية لحل القضايا العالقة، ويتسق ذلك مع مكانة ودور مصر التاريخي في حماية الأمن القومي العربي والشواهد التاريخية في ذلك كثيرة سواء عبر دعم مصر لتحرير الكويت أو مساندة العراق أثناء الحرب العراقية –الإيرانية، كذلك مساندة الدول العربية لمصر في حرب أكتوبر، بالإضافة إلى استمرارية هذا الدور المحوري لمصر في الحاضر والمستقبل. وعليه يناقش التحليل مفهوم الأمن القومي العربي وطبيعة التهديدات ودور مصر في حماية هذا الأمن.
أولاً المفهوم في الإدراك العربي
يعد إنشاء منظمة جامعة الدول العربية في مارس 1945 بداية لصياغة مفهوم أمن قومي عربي مشترك وكيان مؤسسي يعبر عن إرادة ورؤية هذه الدول، وقد وقعت الدول العربية على معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي 1950 للتعاون في مجال الدفاع، ومع اندلاع حرب أكتوبر 1973 والتي عكست التنسيق العربي والرؤية المشتركة تجاه هذا الأمن، وحرص هذه الدول على حمايته، وقد تجلي ذلك في تنسيق وتعاون استراتيجي بين مصر وسوريا والاتفاق على بدء الحرب المشتركة ضد إسرائيل لتحرير سيناء والجولان، ودعمهم آنذاك الموقف العربي الموحد بقرار الدول العربية المنتجة للنفط، والتي حظرت تصديره إلى الدول المعادية للعرب والموالية لإسرائيل، فضلاً عن القوات العسكرية العربية التي تمركزت في الأردن وعلى ضفة قناة السويس، والمعدات العسكرية التي قدمتها الدول العربية لدولتي المواجهة (مصر وسوريا).
وقد قدمت الأمانة العامة في القمة العربية لبغداد في 1990 ورقة بعنوان “الأمن القومي العربي عرض للتهديدات والتحديات، في محاولة للاتفاق على مفهوم الأمن القومي العربي، وقامت لجنة الشئون الخارجية بالبرلمان العربي بصياغة تعريف للأمن القومي العربي على أنه ” قدرة الأمة العربية في الدفاع عن نفسها وعن حقوقها وصون استقلالها، وسيادتها على أراضيها، ومواجهة التحديات والمخاطر من خلال تنمية القدرات والإمكانات العربية في المجالات كافة، وفى إطار وحدة عربية شاملة آخذاً في الاعتبار الاحتياجات الأمنية القطرية لكل دولة بما يخدم مصالح الأمة العربية، ويضمن مستقبلاً آمناً، وبما يمكنها من المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية”.
ثانياً- تهديدات الأمن القومي العربي
بدأت ملامح التهديد تتضح مع بروز إسرائيل التي تحتل الأراضي العربية، وأطماع القوى الإقليمية غير العربية وتدخلاتها في شؤون المنطقة بتدخل إيران في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وكذلك تركيا في سوريا وليبيا ورغبتها في فرض مشاريعها للهيمنة الإقليمية، فضلا عن تحدى الإرهاب، وأهداف القوى الدولية في تقسيم الدول العربية فيما عرف “بمشروع الشرق الأوسط الكبير” بحيث تدخل إسرائيل في معادلة النظام الإقليمي العربي، وتوالت الأزمات التي هددت منظومة الأمن القومي العربي لاسيما مع الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 ثم الأزمات اللاحقة عقب الثورات في كل من سوريا وليبيا واليمن ولبنان والسودان، لنتجه بعد ذلك إلى صياغة معادلة أخرى وهى توقيع الدول العربية اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل في 2020 بما يضفى لها شرعية إقليمية، ويغير شكل النظام الإقليمي العربي، يضاف إلى ذلك حالة الاستقطاب بين القوى الدولية تجاه المنطقة سواء محور الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مواجهة محور الصين وروسيا.
ومع بروز هذه المتغيرات الجديدة؛ شهدنا تحولاً في المنظور العربي للأمن باختلاف مصالح الدول وأولوياتها، إذ واجهت الدول العربية إشكالية في تبنى مفهوم موحد للأمن، حيث أن كل دولة لها اعتبارات مختلفة للأمن، فأحياناً ما تنادى بعض الدول بأهمية الشرق أوسطية عندما لا يكون ميزان القوى في غير صالحها داخل المنظومة العربية، فتبدأ في الدفع بروابط المذهب والدين كما البعض مع إيران وتركيا. أو تدفع بروابط التجارة والأمن والمال والتقارب مع قوى دولية أو إقليمية غير عربية مثل علاقات التطبيع مع إسرائيل أو بروابط الجوار المشترك كما مع إثيوبيا، وهو ما أطلقت عليه الأدبيات العربية صراع ما بين القومية العربية والجيواستراجية الشرق أوسطية
مهد هذا الاختلاف إلى بروز تحديات جسيمة أمام هذه الدول خاصة أن الأمن له أبعاد عديدة، بالإضافة إلى تفاقم الأزمات الدولية سواء جائحة كورونا أو الأزمة الأوكرانية أو التغير المناخي، فلم يعد الأمن يقتصر على البعد التقليدي والعسكري، وإنما يرتكز على أبعاد أخرى غير تقليدية مثل الأمن البيئي والأمن المائي وأمن الطاقة والأمن الغذائي، وأمن المناخ كذلك.
هذا بالإضافة إلى أن الأمن والنظام العربي شهد تدهوراً في مفهوم الدولة فقد تحول العراق إلى دولة فيدرالية، وتم تقسيم السودان إلى شمال وجنوب بهدف التجزئة، فضلاً عن تنازع السلطات والانقسام في ليبيا بين الشرق والغرب، والأزمات في اليمن وسوريا، والصراع على الحدود الشرقية لمصر وسياسة الاستيطان التي تتبعها إسرائيل، فضلاً عن أطماعها التقليدية تجاه سيناء بالرغبة في أن تكون امتداد لها أو مكان لإيواء الفلسطينيين، فضلاً عن استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وجنوب لبنان، والجولان بما يقود بشكل مستمر لعدم الاستقرار في المنطقة، فضلا عن الفشل الذي أصاب أكثر من دولة عربية في مؤسساتها وفقدان السيطرة على مواردها مما ممهد لتدخل خارجي واسع النطاق في شؤونها.
ثالثاً-دور مصر في استعادة مفهوم القومي العربي
تعددت التهديدات والمخاطر التي واجهت الأمن القومي المصري خاصة والأمن القومي العربي عامة، إذ واجهت مصر تهديد من قوى الإسلام السياسي التي وظفت الدين وعملت على زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي، مع مساعدة قوى خارجية لها بتمويلها ودعمها، ومارست عمليات إرهابية عديدة بهدف تشتيت قدرات وطاقات وموارد الدولة المصرية، وخلق حالة من عدم الأمان والاستقرار على كافة المستويات سواء بتهديد السياحة وأمان الأجانب أو منع تدفق الاستثمار الأجنبي، لكن كان حائط الصد في ذلك هو الانتباه إلى هذه التهديدات والتعويل على صناعة القرار المصري الرشيدة في طرح رؤى استراتيجية وتنموية على كافة المستويات خاصة في ضوء المخاطر التي تتعرض لها حدود مصر وما أصاب الأمن القومي العربي من الهزل على مدار السنوات الماضية، لذلك عملت الدولة المصرية على تحديث منظومتها العسكرية وتنويع مصادر السلاح وتطوير قواعد عسكرية واستحداث أخرى ورفع الكفاءة القتالية لأفراد القوات المسلحة عبر التدريبات والمناورات العسكرية.
كذلك تبنت مصر مقاربة رصينة، قوامها الرئيسي دعم وحدة الدول الوطنية، ودفع مسارات التسوية السليمة للصراعات، ورفض التدخلات الخارجية المعرقلة لجهود تحقيق الاستقرار. كما حاولت مصر تفعيل الدور العربي وتعزيز التعاون المشترك عبر طرح صياغات للتنمية العربية المشتركة مثل مشروع المشرق الجديد بين مصر والعراق والأردن واستحداث آلية التنسيق الثلاثي بين هذه الدول ليستعيد العراق مكانته ومحاولة إعادته مرة أخرى إلى المحيط العربي.
أيضاً انخرطت مصر بكافة جهودها وإمكانياتها في صياغة حلول لقضايا وأزمات الأمن القومي العربي سواء في مواجهة تطورات الأوضاع في السودان في 15 أبريل الماضي، وطرحها لضرورة وقف إطلاق النار وتوفير مجالات إغاثية للشعب السوداني، بالإضافة إلى استضافة نحو أكثر من ربع مليون سوداني في مصر، وفى الأزمة الليبية أكدت ثوابت الدولة المصرية على الحفاظ على الدولة الوطنية وضرورة انسحاب الميليشيات والمرتزقة من الأراضي الليبية، وعقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وردع التهديدات الخارجية بعدم تجاوز خط سرت -الجفرة لكونه خط أحمر بالنسبة للدولة المصرية لن تسمح لأحد بتخطيه، كما أطلقت “إعلان القاهرة” 2020 الذي ساهم بشكل حاسم في وضع حد لدائرة العنف في ليبيا.
ولا يغفل في ذلك الدور المصري في دعم استقرار لبنان، وتقديم مساعدات في الكارثة التي تعرضت لها عقب حادث مرفأ بيروت، ومن ناحية ثانية محاولة فتح آفق للتعاون الاقتصادي عبر إمداد لبنان بالغاز الطبيعي المصري من خلال خط أنابيب يمر عبر الأراضي الأردنية والسورية.
ولم يختلف الموقف في الأزمة اليمنية إذ تبلور في الحفاظ على سيادة الدولة اليمنية، وضمان سلامة مؤسساتها الوطنية، بالإضافة إلى دعم الحل السياسي للأزمة، مع الدعوة إلى ضرورة وقف استغلال الأراضي اليمنية لاستهداف دول الجوار، أو لعرقلة حرية الملاحة في مضيق باب المندب؛ على خلفية الارتباط العضوي بالأمن القومي المصري، وذلك في إطار حماية أمن منطقة البحر الأحمر، في مواجهة الهجمات الإرهابية للتأثير على حركة الملاحة بافتتاح مصر قاعدة “برنيس” العسكرية في يناير 2021 بهدف حماية السواحل الجنوبية المصرية وكذا حماية الاستثمارات الاقتصادية والموارد الطبيعية في هذه المنطقة، وانضمام مصر لمجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تم تأسيسه في الرياض في يناير عام 2020.
كذلك أكدت مصر على الحل السياسي للأزمة السورية وضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سوريا وخروج المرتزقة والمليشيات منها وعودتها إلى الصف العربي، فنجحت مصر بالتنسيق مع الدول العربية في عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية ومشاركتها في القمة العربية الثانية والثلاثون في مدينة جدة في 19 مايو الماضي.
يضاف إلى ذلك؛ دور مصر في دعم القضية الفلسطينية وفقا لمقررات الشرعية الدولية وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، فضلا عن تحملها واستضافة اللاجئين الفلسطينيين والمساهمة في إعادة إعمار غزة بقيمة نصف مليار دولار، فضلا عن دورها في إنجاز صفقة تبادل أسرى شاليت في 2011، إضافة إلى الجهود الناجحة التي تقوم بها مصر بالنسبة للتهدئة وعدم تصعيد الموقف الأمني والعسكري بين إسرائيل والقطاع في الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 2008-2023. كذلك نجاح الدور المصري في تأسيس منتدى شرق المتوسط في يناير2019، بهدف التعاون واستثمار اكتشافات الغاز من أجل تدعيم مبادئ التعاون الإقليمي وبما يحقق المكاسب لكافة الدول، وقد تم تحويل المنتدى لمنظمة دولية للطاقة منذ سبتمبر 2020 لتضم كل من (مصر، فلسطين، الأردن، إسرائيل، إيطاليا، اليونان، قبرص) ومنح صفة المراقب لكل من فرنسا والولايات المتحدة والإمارات.
ومن ثم لم تتوانى مصر عن دورها الإقليمي بالرغم من التحديات في ملف أمنها المائي، وأكدت وفقا للثوابت القانونية والدولية على ضرورة التوصل لاتفاق قانوني ملزم يحقق مصالح الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا)، واستجابت الدولة المصرية للدخول في مفاوضات لعدة سنوات سواء ثنائية أو متعددة الأطراف لحل قضية السد الإثيوبي، لكن لم يسهم التعنت الإثيوبي في التوصل لنتيجة مرضية لكافة الأطراف.
في الختام؛ يعد الأمن القومي العربي محصلة أمن كل دولة عربية، ولاستعادة قدرة الدول ومؤسساتها على مواجهة مصادر التهديد، يجب إعلاء مستوي الأمن القومي العربي على حساب المصالح الخاصة، الأمر الذي يقتضي معه إعادة صياغة المفهوم مرة أخرى عبر تحديد مصادر التهديد وكيفية مواجهتها، وإعادة النظر في أسس وقواعد التنسيق العربي خاصة أن أي تهديد في أمن الخليج أو البحر الأحمر أو أمن الشام والمغرب العربي يعد تهديداً للأمن القومي العربي برمته.