يشهد عام 2019 اهتمامًا أوروبيًّا ملحوظًا بقضايا المنطقة العربية، فخلال شهر فبراير الجاري استضافت العاصمة البولندية وارسو خلال يومي (13 – 14) فبراير مؤتمرًا دوليًّا لمناقشة قضايا الشرق الأوسط، والتي دارت أغلبها -إن لم يكن جميعها- حول القضايا الأمنية المرتبطة بالدول العربية، سواء القضية الفلسطينية، أو الصراعات الحادة التي تشهدها بعض دول المنطقة، أو التركيز على التهديدات الناتجة عن السياسات الإيرانية في المنطقة العربية. وبعد ذلك بأيام انطلق مؤتمر ميونخ للأمن، حيث كانت المنطقة العربية حاضرة بوضوح على أجندة عمل المؤتمر، خاصة القضايا الأمنية وعلى رأسها الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وحاليًّا تستضيف مصر القمة “العربية-الأوروبية” الأولى، تحت شعار “الاستثمار في الاستقرار”، يومي (24 – 25) فبراير 2019، وذلك بحضور رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية 50 دولة عربية وأوروبية برئاسة الرئيس “عبدالفتاح السيسي”، و”دونالد توسك” رئيس المجلس الأوروبي؛ بهدف البحث في سبل تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأمنية.
وتشمل قائمة القضايا التي تناقشها القمة قائمة واسعة، مثل: التعددية، والنظام القائم على القانون، وتغير المناخ، وأجندة 2030 للتنمية، والهجرة، ومكافحة الإرهاب، والتطرف، بالإضافة إلى القضايا الإقليمية مثل سوريا واليمن وليبيا، والقضية الفلسطينية.
أولوية قضايا الأمن غير التقليدي
تمثل الأجندة الأمنية محورًا أساسيًّا في أعمال القمة. كذلك، فإن قضايا الأمن غير التقليدي (الهجرة غير الشرعية، اللاجئين، الإرهاب) هي القضايا التي يمكن البناء عليها في حوار مثمر بين الطرفين العربي والأوروبي بدرجة أكبر من القضايا الإقليمية الأخرى (الصراعات الإقليمية المختلفة)، وذلك لاعتبار أساسي هو أن الأطراف الأكثر فاعلية في هذه الصراعات غير حاضرة في القمة؛ حيث يصعب مناقشة القضية السورية، على سبيل المثال، في ظل غياب النظام السوري أو روسيا أو الولايات المتحدة. كما أن قدرة الاتحاد الأوروبي على الفعل منفردًا في مثل هذه الصراعات لا تزال محدودة نسبيًّا.
من ناحية أخرى، فإن مواجهة الإرهاب، وفي القلب منه “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، لم يعطِ الاتحاد الأوروبي خيارًا سوى توثيق التعاون مع دول المنطقة، وبالأخص مصر، لمواجهة هذا التحدي، وهو تحدٍّ يشهد تطورات متسارعة، لم يكن من الممكن التنبؤ بها وفقًا لما صرح به “جيل دو كورتوف” (المنسق العام لمكافحة الإرهاب بالاتحاد الأوروبي) خلال زيارته الأخيرة لمصر. من هنا جاءت ضرورة دراسة الاتحاد الأوروبي لأهمية التعاون مع دول المنطقة للقضاء على هذا الخطر في منبعه، أي في المنطقة، خاصة في سوريا والعراق، قبل أن يتوغل أكثر من ذلك ويزداد التهديد الموجه للقارة الأوروبية.
وبالإضافة إلى تحدي الإرهاب، هناك تساؤل مهم أيضًا يتعلق بمدى وجود توافق في الرؤى العربية والأوروبية حول التهديدات الأمنية الناتجة عن الهجرة غير الشرعية من المنطقة العربية (من دول تسلل أو ممر)، أو التداعيات الناتجة عن قدوم اللاجئين من المنطقة العربية إلى أوروبا، أو كيفية مكافحة التنظيمات الإرهابية النشطة في المنطقة.
ولا شك أن الطرف الأوروبي يَعتبر المنطقة العربية مصدرًا للعديد من التهديدات الأمنية القادمة إلى أوروبا، خاصة في خضم ما تمر به أوروبا من تحديات أمنية، سواء الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي انطلقت من فرنسا إلى دول أوروبية أخرى فيما عُرف إعلاميًّا باسم احتجاجات “السترات الصفراء”، أو ما شهدته بعض الدول الأوروبية من عمليات إرهابية خلال الأعوام القليلة الماضية نُسِبَت إلى عناصر إسلامية وعربية. فوفقًا للتقرير الدولي عن الإرهاب لعام 2018، أسفرت الأنشطة الإرهابية عن 96 قتيلًا و81 جريحًا خلال الفترة من عام 2002 إلى عام 2017. أضف إلى ذلك الجدال المحتدم داخل الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين السوريين النازحين من مناطق الصراع في سوريا، ما بين مؤيد لاستقبالهم ومعارض لذلك. ويوضح الشكل رقم (2) تقديرات المفوضية الأوروبية لشئون اللاجئين السوريين فقط على سبيل المثال.
شكل رقم (1): تقديرات المفوضية الأوروبية لشئون اللاجئين لحجم اللاجئين السوريين
وتثير مشكلة المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا تهديدات أمنية، تتعلق باحتمالات ارتباطهم بتنظيمات إرهابية أو عصابات دولية، أو على أقل تقدير قد يؤثرون على سوق العمل الداخلي. ففي بعض التقديرات، تجاوز حجم المهاجرين مليون شخص في عام 2015. ويوضح الشكل التالي تطور أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا خلال الفترة من عام 2008 إلى عام 2017. ويلاحظ فيه انخفاض أعداد أولئك المهاجرين بدءًا من عام 2016. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجهود المصرية في هذا الصدد كان لها الدور الأكبر في هذا الانخفاض.
شكل رقم (2): تطور حجم المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا خلال الفترة من عام 2008 إلى عام 2017
توافق في الرؤى
لعل مجمل وجهة النظر الأوروبية حول قضايا الأمن والدفاع قد تبلورت في قول رئيس رومانيا “كلاوس يوهانيس” (الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي) خلال كلمته في افتتاح مؤتمر ميونخ للأمن بأن الأمن والدفاع يتضمن مواجهة التحديات المتواجدة حاليًّا في البيئة العالمية، حيث قال: “أنا أرى تهديدات واضحة من مختلف الاتجاهات الاستراتيجية، وهو أمر لا يهم فقط السياسيين والعسكريين وأصحاب السياسات؛ لكنه أمر يهم كل المواطنين في أوروبا. كما أن النظام الأمني العالمي يواجه الكثير من التحديات. يجب أن يكون هناك رد أوروبي على هذه التحديات، وهو التماسك والترابط لأقصى حد، حيث إن مستقبل أوروبا على أولوية أجندة الاتحاد الأوروبي، فنحن نحتاج إلى نهج متكامل من جانب المؤسسات الأوروبية، والرسالة الخاصة لتحقيق الوحدة هي أمر أساسي”.
لقد تلاقت المساعي الأوروبية للتعامل مع هذه التحديات مع الرؤية المصرية لنفس التحديات، وهو ما تجسد في عقد القمة العربية الأوروبية الأولى لإدارة حوار جماعي حول هذه التحديات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس “السيسي” أكد أمام مؤتمر ميونخ للأمن على عدد من المنطلقات، أهمها: أن أوروبا هي أكبر شريك للمنطقة العربية، وأن التعاون بين المنطقتين العربية والأوروبية أمر مهم، وأن عدم الاستقرار في المنطقة العربية يؤثر على أوروبا، والعكس. كما أكد على كون الإرهاب ظاهرة تحتاج إلى تكاتف المجتمع الدولي، من خلال مقاربة شاملة تشمل الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية، ثم التأكيد على انخراط مصر في تسوية أزمات المنطقة كجزء من أمنها القومي.
هذا التوافق في الرؤى دفع بجهود انعقاد القمة العربية- الأوروبية الأولى، فالاتحاد الأوروبي يعول على الدور المصري كركيزة لجهود عربية أوسع للتعاون في مواجهة تحديات الأمن غير التقليدي، على خلفية نجاح مصر في التصدي للإرهاب في سيناء، وخبرتها الرائدة في هذا الصدد، فضلًا عن خبرتها المهمة في مجال مواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر أراضيها إلى أوروبا خلال العامين الماضيين. ولعل ما يعكس الإدراك الأوروبي الإيجابي لهذه الخبرة ما أكده المستشار النمساوي “سيباستيان كورتس” مؤخرًا بأن “المؤشرات القادمة من مصر مشجعة لتكون بذلك أول دولة في شمال إفريقيا مستعدة لتكثيف المحادثات مع الاتحاد الأوروبي في هذا الملف، خاصة وأن أوروبا في حاجة إلى شريك قوي وصارم كمصر”.
هذا التوافق يظهر بوضوح في الملف الأمني ربما أكثر من الملف السياسي، فهناك توافق حول الحد من الأسلحة، حيث يتعاون الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية معًا في مواجهة تهريب الأسلحة المحظورة من خلال مشروع يُقَدَّر بحوالي 2.7 مليار يورو لبناء القدرات والتدريب في مجالات مراقبة الأسلحة التقليدية لدى الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية. كما تم إنشاء مجموعة عمل للرقابة على أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة والسلاح عام 2015 كجزء من الحوار الاستراتيجي بين الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، حيث تلتقي مجموعة العمل بانتظام لتقييم مدى تقدم عملها.
وفي مجال مكافحة الإرهاب، يلتزم كلٌّ من الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية بالحرب العالمية على الإرهاب من خلال عملهم المُشترك لدعم جهود التحالف العالمي ضد “داعش”، مع الحفاظ على الاحترام الكامل لحقوق الإنسان وسيادة القانون والقانون الدولي الإنساني. كما يعمل الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، عبر إطار عمل الحوار الاستراتيجي بينهما، على تشكيل مجموعات عمل لمكافحة الإرهاب ومحاربة الجريمة المنظمة.
تفاؤل حذر
هذا التوافق في الرؤى العربية والأوروبية حول القضايا الأمنية يدفع للتفاؤل بأن تنتهي هذه القمة بنتائج إيجابية ملموسة لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، لكن لا ينبغي الإفراط في التفاؤل، فهناك بعض الاعتبارات التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، مثل: مدى التوافق بين دول كلٍّ من المؤسستين حول السياسات والأولويات في التعامل مع هذه التحديات، وتوزيع أعباء اتخاذ خطوات تنفيذية لمواجهة مثل هذه التحديات، وأخيرًا القوى الفاعلة الأخرى في القضايا الأمنية التي تناقش في القمة ومدى توافقها مع ما يمكن أن تسفر عنه هذه القمة. ولذلك ربما إذا نجحت القمة في إدارة حوار يتسم بالموضوعية والشفافية بين الطرفين يمكن أن ينتج عنها توافق إطاري حول المبادئ الأساسية، وربما تصور لبعض الآليات التنفيذية.