تزايد الحديث في الأسابيع الأخيرة عن مواقف مختلفة لكلٍّ من الولايات المتحدة وتركيا، وكذلك روسيا وإيران. فبعد تناقض التصريحات الأمريكية حول الانسحاب العسكري، انتهى الأمر بعد مفاوضات بين واشنطن وأنقرة إلى الإبقاء على 200 جندى أمريكي في شمال سوريا، وكذلك 200 جندي في قاعدة التنف قرب مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية.
إن قراءة دقيقة للتحولات الجارية في سوريا، تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف، نوجزها فيما يلي:
1- توفير نوع من الحماية للأكراد، يحول دون اجتياح تركيا لمنطقة منبج والوصول إلى دير الزور وغرب الفرات، وذلك من خلال الفصل بين مناطق تمركز تركيا ومناطق تمركز القوات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الكردي والتي تمثل أغلب ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية الحليفة للولايات المتحدة، والتي تولت محاربة “داعش”. وإن كان الاتفاق بهذا الخصوص قد تضمن انسحاب تلك القوات من جزء كبير من شمال سوريا لصالح قوى سياسية كردية ذات صلة بتركيا، وقيام قوات عسكرية كردية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني العراقي (بارزاني) بتأمين المنطقة.
2- طمأنة الدول الغربية المشاركة فيما يسمى بقوات التحالف (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا..) بما يسمح ببقاء قواتها العسكرية في شمال وشرق سوريا، وهو ما يعني استمرار حوالي 1200 جندي ضمن هذه القوات خلال الفترة القادمة.
3- استثمار هذا الموقف الإيجابي الأمريكي على مستوى العلاقة مع الأكراد بهدف منع التقارب الذي تصاعد في الفترة الأخيرة بينهم وبين الحكومة السورية، ومطالبتهم بدخول قوات سورية للمنطقة، وهو الأمر الذي سعت روسيا لتحقيقه لاستكمال سيطرة دمشق على الأراضي السورية، وملء الفراغ الذي سيسببه الانسحاب الأمريكي.
4- التأثير بقدر الإمكان على التقارب والتفاهمات التي تتم بين تركيا وروسيا وإيران، والتي رتبت تداعيات بينهم، ليس فقط فيما يتعلق بتطورات الأزمة السورية، ولكن على مستوى العلاقات الثنائية، ويمكن أن تؤثر على طبيعة التوازنات الدولية والإقليمية في المنطقة، خاصةً على استراتيجية المواجهة الأمريكية مع إيران.
ولا شك أن دوائر صنع القرار الاستراتيجية في واشنطن قد نجحت في إقناع الرئيس الأمريكي بضرورة استمرار امتلاك أدوات للحركة وأدوات ضغط في الأزمة السورية تسمح بممارسة تأثير أمريكي على تطوراتها، ولا تترك المجال مفتوحًا أمام الحضور الروسي والإيراني.
ومن الواضح أن الرؤية الأمريكية لتحقيق ذلك سوف تتبنى عددًا من المسارات، من أهمها التأكيد على مسئولية دول المنطقة -خاصةً العربية الغنية- في تحمل تكاليف الوجود العسكري الأمريكي، وهو ما يحرص الرئيس الأمريكي على الإلحاح عليه. وقد وافقت بعض هذه الدول بالفعل على تحمل هذه التكاليف، ولا يزال الحوار جاريًا بين واشنطن وبعض هذه العواصم حول مشاركة بعض قواتها في ملء الفراغ العسكري الأمريكي في شمال وشرق سوريا تحت مسمى “قوات حفظ سلام” أو “فصل بين القوات” لمحاصرة التمدد العسكري السوري المدعوم من إيران وحلفائها، الأمر الذي سوف يزيد من تعقيدات الأزمة السورية، وصعوبة الوصول إلى تسوية لا تتوافق مع المصالح الأمريكية، وهو ما يعني -من ناحية أخرى- أن تظل الولايات المتحدة والدول التي قدمت مليارات الدولارات للتنظيمات العسكرية والتي بلغت بشهادة رئيس وزراء قطر السابق أكثر من 200 مليار دولار لإسقاط وتغيير النظام السوري، تواصل مساعيها للضغط على دمشق تحت دعاوى جديدة بعد القضاء على “داعش” من بينها محاصرة النفوذ الإيراني الذي تمدد بصورة كبيرة، وتغيير توجهات النظام.
كما أن الرؤية الأمريكية قد بدأت تتحرك أبعد من ذلك، خاصة ضغوطها هي ودول أوروبية -مثل فرنسا- من أجل وقف التقارب الذي تبلور مؤخرًا بين عدد من الدول العربية والحكومة السورية، واستبعاد طرح عودة دمشق للجامعة العربية في القمة القادمة كنوع من الضغط عليها، واستمرار إفقاد النظام السوري شرعيته العربية.
الولايات المتحدة -إذن- تحاول إعادة معادلة التوازن الدولي والإقليمي في تطورات الأزمة السورية والمنطقة بما يكفل نفوذًا أمريكيًّا مؤثرًا. وإذا كانت أدوات التأثير العسكري على النظام قد تلاشت تقريبًا؛ فإن منع الحكومة السورية من فرض سيطرتها على كافة الأراضي السورية يعني أن النظام لن يكون صاحب الكلمة الوحيدة في مستقبل سوريا. كما أن محاولة تسويق بعض التنظيمات العسكرية التي نجح النظام في محاصرتها ونقل قواتها إلى الشمال لتكوين قوات عسكرية جديدة يسمح لها بالمشاركة مستقبلًا في الجيش الوطني السوري؛ هي محاولة لاستعادة بعض النفوذ العسكري الذي نجحت دمشق وموسكو بالتحديد في القضاء عليه. ومن الطبيعي أن تتضمن الرؤية الأمريكية لإعادة القضية إلى مسار جنيف، والتركيز على دور الأمم المتحدة لتحقيق إنجاز فيما يتعلق بتشكيل لجنة إعداد الدستور؛ تجاهل الواقع السياسي والميداني اللذين يحظى فيهما النظام بالغلبة والنفوذ، وإتاحة مساحة أوسع لقوى المعارضة التي تفتقد حاليًّا لأي تأثير للمشاركة المتوازنة معه لصياغة الدستور الجديد، وتكرار النموذج العراقي لدولة سورية لا مركزية.
هكذا، يتضح أن الموقف الأمريكي لم يتعامل مع الموقف التركي إلا بما يتوافق مع رؤيته لمستقبل سوريا، وهو ما سيتيح لتركيا تحقيق أطماعها في ضم عدد من المدن والقرى في شمال سوريا، ومحاولتها إقامة نوع من الحكم الذاتي التابع لها في محافظة إدلب وشمال حلب في منطقة عفرين. ومن الملاحظ أن أنقرة بدأت ذلك بمد شبكات كهرباء ومياه إلى مناطق شمال حلب، وإنشاء مدارس ومعاهد تعليمية هناك، كما وافقت على إمداد ما يسمى بحكومة الإنقاذ في إدلب التابعة لتنظيم فتح الشام (النصرة) بالكهرباء في مناطق سيطرتها لكسب رضاء السكان. وهناك أخبار حول إنشاء تركيا مشروعات خدمية في تلك المنطقة ترتبط بمثيلتها التركية.
إن الضغط الأمريكي لوقف التقارب العربي والخليجي مع سوريا يستهدف استمرار عزلة النظام، وحتى لا تستفيد دمشق من ذلك دوليًّا، ورهن أية مساهمات من تلك الدول في عملية إعمار سوريا باعتبارها أهم أدوات الضغط القادمة لتبقى قضية اللاجئين مثارة دوليًّا، وترتب تداعيات سلبية على التعامل مع النظام، ويزيد من تأثير ذلك القانون الذي أصدره الكونجرس والذي يفرض عقوبات على الدول والشركات التي تشارك في عملية إعادة إعمار سوريا في ظل الأوضاع الحالية.
الأزمة السورية لم تقترب -إذن- من الحل، والصراع الإقليمي والدولي حول سوريا مستمر ومتواصل. والغريب أن الجامعة العربية لم ترَ في كل ذلك ما يستحق أن يُدرج على أعمال قمتها القادمة في تونس، بل إن كثيرًا من الدول العربية لم ترَ أن الوضع قد حان لاستعادة دمشق لمقعدها في الجامعة.