تعد فجوة التمويل المحلية الناجمة من عدم توفر الحجم الكافي من المدخرات المحلية لتمويل الاستثمارات الوطنية واحدة من المشاكل الاقتصادية الرئيسية التي تواجه الدول النامية، حيث زاد الاهتمام بالاستثمار الأجنبي والتنافس على جذبه؛ لكونه أحد محركات النمو الرئيسية وزيادة الإنتاجية الكلية، والإسراع بالاندماج في الأسواق العالمية. وتعتبر مصر واحدة من الوجهات الاستثمارية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي السنوات الأخيرة قامت الحكومة المصرية بتبني سلسلة من الإصلاحات والتحسينات لتعزيز مناخ الاستثمار وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى البلاد. ، فقد سعت الحكومة المصرية للعمل على تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد المصري، من خلال إصلاح وتحسين وتقوية الإطار التنظيمي والمؤسسات ذات الصلة بمجال الاستثمار المحلي والأجنبي، من خلال الاستفادة من الممارسات والسياسات الدولية الناجحة لتعزيز وإصلاح نظام الاستثمار المصري.
المحددات الاقتصادية للاستثمار الأجنبي المباشر في مصر
تتعدد العوامل التي من شأنها أن تحدد قدرة الدولة المضيفة على جذب الاستثمارات المباشرة منها حجم السوق وهو لا يعتمد على عدد السكان وإنما أيضاً على القدرة الشرائية للمستهلكين يصل تعداد السكان في مصر إلى حوالي 102.8 مليون نسمة عام 2022 ويمثل الشباب منهم حوالي 41.4 % الأمر الذي يعكس ارتفاع نسبة الشباب القادرين على العمل، وارتفاع مستويات الاستهلاك الخاصة بهم ومن ثم زيادة الميزة السوقية المصرية مقارنة بالعديد من الدول الأخرى. يعد الناتج المحلي الإجمالي ومدى استقراره من بين المحددات المؤثرة على قرارات المستثمرين الأجانب. وقد شهد الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية ارتفاعًا بقيمة 4.1 تريليون جنيه حيث بلغ 7.8 تريليون جنيه عام 2021/2022 مقارنة بـــــ 3.7 تريليون جنيه عام 2016/2017. يلعب ارتفاع معدل التضخم في الدول المضيفة للاستثمار الأجنبي دوراً سلبياً في جذب الاستثمارات الأجنبية وقد انخفض معدل التضخم في مصر إلى 9.7% عام 2021/2022 مقارنة بـــ 24.6% عام 2016/2017 الاستقرار السياسي والأمن يعد أمرًا حاسمًا للمستثمرين الأجانب فوفقًا لمؤشر أكثر الدول أمانًا الـصادر عن مجلة جلوبال فاينانس قفزت مصر 38 مركزًا في مؤشر أكثر دول العالم أمانًا عام 2023. البنية التحتية والخدمات اللوجستية وتمتلك مصر 15 ميناء تجاري لخدمة المصدرين والمستوردين على حد سواء و26 مطار مدني حتى عام 2022 بالإضافة إلى 101.6 ألف كيلو متر طرق مرصوفة عام 2019/2020 و9.6 آلاف كيلو متر من شبكات السكك الحديد كما تقدمت مصر 17 مركزًا في مؤشر جودة الطرق الفرعي من مؤشر التنافسية العالمي الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي لتأتي في المرتبة 28 من بين 141 دولة عام 2019 مقارنة بالمرتبة 45 عام 2018، على إثر جهود وسياسات الدولة الداعمة للبنية التحتية. المناخ والموقع الجغرافي وعبقرية المكان حيث ساهم الموقع الاستراتيجي لمصر في جعلها مركزًا وسطا بين حركة التجارة عالميًا، لقربها من الأسواق العالمية؛ بالإضافة إلى موقعها المتميز في طرق الخدمات اللوجستية بما يؤدي لخفض الوقت والتكلفة والجهد اللازم لنقل الركاب والبضائع بين مصر والعديد من الدول. وجود قناة السويس التي تعتبر أهم ممر ملاحي في العالم يربط بين الشرق والغرب، وتمتلك روابط مع شبكة الطرق السريعة العابرة لإفريقيا. مشروع طريق القاهرة – كيب تاون أطول طريق بري في إفريقيا بطول 10.3 ألاف كيلومتر، والمستهدف الانتهاء منه عام 2024، لدعم حركة التبادل التجاري بين مصر ودول القارة الإفريقية. سهولة ممارسة الأعمال يُعد هذا أحد أهم المؤشرات التي يعتمد عليها المستثمرون حول العالم لاتخاذ قراراهم الاستثماري.
بيئة تنظيمية وتشريعية ومؤسسية داعمة للاستثمار
مع تبني مصر لسياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1974 قامت مصر بتهيئة مناخ استثماري ملائم وتم إصدار قانون استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة رقم 43 لسنة 1974؛ وهو من أهم التشريعات التي شجعت الاستثمار الأجنبي المباشر، وفى عام 1989 تم إصدار قانون الاستثمار رقم 230 ثم إصدار قانون ضمانات وحوافز الاستثمار رقم 8 لسنة 1998، واستكمالًا لهذه المنظومة التشريعية صدر قانون تعديل ضمانات وحوافز الاستثمار رقم 13 لسنة 2004 وتعديلاته الجديدة. لم تكن التدابير السابقة ذات جدوى في جذب المستثمرين الأجانب حيث انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة تفوق ال 60% خلال الفترة من يونيو 1990 حتى يونيو 2002.
ثم تم تعديل القانون المنظم للاستثمار في مصر في عام 2017 بإصدار قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017. مع ضمان تقديم خدمات استثمار متطورة لتحقيق التنمية المستدامة. وتوفير طرق جديدة لحل نزاعات الاستثمار. بالإضافة إلى تشكيل المجلس الأعلى للاستثمار وإنشاء وحدة دائمة بمجلس الوزراء تختص بحل مشكلات المستثمرين. كما تم إطلاق منصة إلكترونية تابعة لمجلس الوزراء لتسجيل شكاوى المستثمرين. وتدشين موقع إلكتروني لتلقِّي طلبات المستثمرين الراغبين في الحصول على “الرخصة الذهبية”، تم خفض مدة إصدار التصاريح والموافقات الخاصة بإنشاء وتشغيل المشروعات الاستثمارية إلى 20 يومًا. وتقليل تكلفة تأسيس شركات الشخص الواحد وعدد الإجراءات اللازمة لإنشاء الشركات. ونتيجة لتلك الجهود شهدت مصر زيادة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إليها حيث شهد العام المالي 2021/2022 أكبر زيادة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر بعدما زادت بنسبة 71.4% لتسجل نحو 8.9 مليار دولار كما سجل 10 % زيادة بنهاية العام المالي 2022/2023.
أبرز القطاعات الاقتصادية الواعدة
وضعت مصر خطة طموحة للتركيز على زيادة الاستثمارات في قطاعات التنمية الحقيقية، كبديل الاستثمار في القطاعات الاستخراجية، بما له من أهمية حيث أن العبرة ليست بحجم التدفقات ولكن بنوعيتها، وهو ما يتحدد بناء عليه مدى الاستفادة والمنافع الحقيقية التي تعود على التنمية الاقتصادية للدولة ورفع مستوى معيشة المواطنين.
94.4 % من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للداخل في مصر عام 2021/2022 تتركز في
4 قطاعات فقط، وهي: الخدمات، والصناعة، والبترول، والقطاع الإنشائي. القطاع الخدمي هو الأعلى بين القطاعات الاقتصادية في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للداخل عام 2021/2022، بقيمة 8.9 مليارات دولار، بنسبة بلغت 40.2% من اجمالي التدفقات، يليه القطاع الصناعي بواقع 5.9 مليارات دولار بنسبة 26.5%، ثم يأتي البترول 4.7 مليارات دولار بنسبة 21.1%.
أعطت مصر أولوية لعدة قطاعات اقتصادية وذلك في ضوء التوجه لتركيز الاستثمارات في قطاعات التنمية الحقيقية، والمتمثلة في: قطاع الصناعات التحويلية كثيفة التكنولوجيا، وقطاع الزراعة، وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقطاع التشييد والنقل.
فبالنسبة لقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فهناك أكثر من 600 مليون دولار استثمارات في الشركات التكنولوجية الناشئة كما تقدمت مصر 50 مركزًا في مؤشر القواعد التنظيمية للمحافظ الإلكترونية للهاتف المحمول الذي تصدره الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول، لتاتي في المرتبة 38 عام 2021، مقارنةً بالمرتبة 88 عام 2019. بالإضافة إلى وصول مصر المرتبة 92 من بين 181 دولة حول العالم في مؤشر متوسط سرعة الإنترنت الثابت، وتضاعفت السرعة أكثر من 7 أضعاف، لتصبح مصر الأولى على مستوى القارة الإفريقية في مايو 2023 كما تقدمت مصر في تصنيف مؤشر جاهزية الحكومة الرقمية لعام 2022 الصادر عن البنك الدولي؛ حيث صُنفت مصر ضمن مجموعة الدول الرائدة في الحكومة A وهي أعلى فئة في المؤشر كما بلغت قيمة الصادرات الرقمية 4.9 مليار جنيه عام 2021 /2022.
تكمن أهمية قطاع الزراعة في كونه القطاع الرئيسي لضمان تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي داخل البلاد، ويمُثل المورد الأساسي لمدخلات القطاع الصناعي. وتُحفز الدولة الاستثمار في القطاع الزراعي من خلال تبني مجموعة من الجهود والإجراءات؛ أبرزها: دعم الفلاح وتطوير منظومة الري، وإرساء العديد من المشروعات الزراعية القومية لزيادة وتحسين الرقعة الزراعية وتحسين الإنتاج الزراعي وإصلاح قطاع الحبوب، وخفض الفاقد، وبلغت قيمة الاستثمارات العامة المنفذة بالقطاع 7.8 مليار جنيه عام 2021/2022.
تعطي الدولة أهمية كبيرة لقطاع النقل والتخزين لتوفير بنية أساسية لدعم وتسهيل البيئة الاستثمارية، خاصة مشروعات النقل والمواصلات والكهرباء، لذلك وضعت الدولة استراتيجية لتطوير منظومة النقل والمواصلات ضمن استراتيجية طموحة لتحقيق التنمية الشاملة وجذب الاستثمارات وإعادة رسم خريطة العمران داخل البلاد، تشمل كافة وسائل النقل. وبلغت نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي 5.2% عام 2021/2022.
حققت التجربة المصرية في مجال التشييد والبناء معدلات نمو وتشغيل مُلفتة، حيث تم إطلاق عدة مشروعات ضخمة ومنها المشروع القومي للطرق، ومشروعات عقارية عملاقة، بالإضافة إلى جيل جديد من المدن، أهمها:
العاصمة الإدارية الجديدة، وجنوب القاهرة الجديدة، ومدينة السادس من أكتوبر الجديدة، وتوشكي، ومدينة الجلالة بمنطقة العين السخنة وبلغ معدل نمو القطاع 6.9% عام 2021/2022.
إجمالًا؛ حققت مصر خلال السنوات القليلة الماضية تقدمًا كبيرا في العديد من محددات الاستثمار الأجنبي المباشر، سواء في مجال البنية التحتية أو في خلق وفتح بيئة الأعمال لتحسين مركزها التنافسي في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وبفضل بيئة الأعمال الإيجابية والمعتدلة نسبيًا في مصر، أصبحت مصر بشكل دوري تقريبًا أكبر متلقٍ للاستثمار الأجنبي المباشر في القارة الأفريقية. كما نفذت الحكومة المصرية إصلاحات هيكلية لتحسين مناخ الأعمال والاستثمار وأرسلت التعديلات المتتالية لقانون الاستثمار في عامي 2015 و2017 إشارات قوية إلى أن تعزيز وتسهيل الاستثمار الخاص يمثل أولوية حكومية وأساسية للنمو الاقتصادي في مصر وتُمثل التعديلات التشريعية علامة فارقة في جهود الدولة لتوفير بيئة تنظيمية أكثر أمانًا واتساقًا للمستثمرين. خاصة وقانون الاستثمار هو النقطة المرجعية الأولى للمستثمر، كما أن مصر أحد أفضل دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مؤشر درجة تقييد الاستثمار، حيث جاءت في المرتبة التاسعة بين 10 دول، كما جاءت ضمن أفضل الدول العربية، حيث جاءت في المرتبة الثامنة بين 9 دول عربية.