في الوقت الذي تحاول فيه الدول الأفريقية أن تشق طريقها نحو التنمية في ظل التحديات المختلفة، تجرها التصنيفات الائتمانية (غير العادلة) للخلف خطوات مرة أخرى، وفي محاولة لمعالجة مخاوف الدول الأفريقية بشأن عدم عدالة التصنيفات الائتمانية الممنوحة لهم، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الاقتصادات الأفريقية، أعلن الاتحاد الأفريقي عزمه على إطلاق وكالة التصنيف الائتماني الخاصة به بحلول عام 2024.
في هذا السياق، قادت الآلية الأفريقية لمراجعة النظراء (APRM)، التي تم إنشاؤها العام الماضي لتعزيز الحكم في جميع أنحاء القارة، الجهود الرامية إلى إقناع وزراء مالية الاتحاد الأفريقي بالموافقة على اقتراح إنشاء الوكالة الجديدة، ومن المتوقع أن تتم الموافقة على القرار وإعلان الإطلاق الرسمي للوكالة في قمة الاتحاد الأفريقي فبراير 2024، ومن المخطط أن يتم تمويل الوكالة بشكل مستقل من قبل قطاع الأعمال، تحت إشراف الاتحاد الأفريقي.
أهمية تأسيس وكالة أفريقية للتصنيف الائتماني
تلجأ العديد من الدول الأفريقية إلى الاقتراض الخارجي بسبب العجز في موازناتها، لما يوفره من دعم كبير في التنمية الاقتصادية، وخاصة في تمويل تطوير البنية التحتية، ويتم إجراء التصنيفات الائتمانية للدول لتحديد مخاطر التخلف عن سداد القروض، ولمراعاة الشروط التي بموجبها يجوز للبنوك والمقرضين الآخرين تقديم الائتمان لدولة ما، ومن ثَمّ تلعب وكالات التصنيف الائتماني دورًا مهمًا في هذا الشأن، ورغم أن وكالات التصنيف تصر على أن تقييماتها هي مجرد آراء، وليست توصيات لشراء أو بيع أو الاحتفاظ بأوراق مالية، فإن التصنيفات تؤثر على الظروف التي بموجبها يصل المقترضون إلى أسواق الديون، حيث يُنظر إلى التصنيفات الصادرة عن تلك الوكالات على أنها دقيقة، مما يؤثر على تكاليف الاقتراض للبلدان، أي أن الاقتصاد ذا التصنيف المنخفض يُنظر إليه على أنه ذو مخاطر عالية للتخلف عن السداد، وبالتالي تصبح تكلفة الاقتراض له مرتفعة.
وعلى الرغم من وجود أكثر من 70 وكالة تصنيف ائتماني على مستوى العالم، لكن تسيطر ثلاث وكالات فقط على 95% من السوق العالمية لهذه الصناعة، وهم: ستاندرد آند بورز، وموديز، وفيتش، وتعتمد المقاييس المستخدمة في الوكالات الثلاثة على جزأين، أحدهما: كمي يتعلق بقيم الناتج المحلي الإجمالي، وتقلب معدل النمو، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ونسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلى غير ذلك من المقاييس التي يمكن حسابها ومتابعتها بدقة. بينما يتعلق الجزء الثاني: بعوامل نوعية تعطي سلطة تقديرية كبيرة في تعيين التقييم النهائي، وتشكل حوالي 20% من المعايير في حالة البلدان الأفريقية، وتشمل عوامل مثل العوامل الثقافية أو اللغوية على سبيل المثال، والتي لا علاقة لها بالمعايير المستخدمة لقياس الاستقرار الاقتصادي، مما جعل هذه التصنيفات في كثير من الأحيان متحيزة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جنوب أفريقيا كانت هي الدولة الأولى في القارة التي يتم تصنيفها من حيث الجدارة الائتمانية في عام 1994، ثم ارتفع عدد الدول الأفريقية التي تم تصنيفها من قبل وكالات التصنيف الثلاث الكبرى إلى 10 دول في عام 2003، وصولًا إلى 33 دولة في عام 2023.
وتعد الوكالة الأفريقية مهمة بشكل خاص لأنه على مدى السنوات الماضية ادعت الدول الأفريقية أن تصنيفات الائتمان التي تمنحها إياها وكالات التصنيف الثلاثة الكبار (موديز، واستاندرد آند بورز، وفيتش) غير عادلة، ولا تمثل انعكاسًا حقيقيًا لحالة الاقتصاد، بالإضافة إلى ميل هذه الوكالات إلى أن تكون أسرع في خفض تصنيف الدول الأفريقية أثناء الأزمات، مثلما حدث أثناء جائحة كوفيد-19 عندما خفضت تصنيفات بعض الدول الأفريقية خاصة الدول التي أعلنت انضمامها إلى مبادرة تخفيف الديون التي أعلنتها مجموعة العشرين، مما أدى إلى تخوف 27 دولة من الاشتراك في المبادرة، رغم تأهلها، خشية تخفيض تصنيفاتها الائتمانية، هذا إلى جانب تأخير الترقيات في التصنيف عندما تتحسن الظروف، وذلك على عكس نهجها المتبع مع الدول الأوروبية، فضلًا عن أوجه القصور الملحوظة من حيث الاستقلالية والموضوعية، والمنهجيات غير الموثوقة.
علاوة على ذلك، هناك مخاوف تحيط بالطبيعة الاحتكارية لوكالات التصنيف “الثلاث الكبرى”، فضلًا عن أن وجودها المحدود في القارة الأفريقية نتج عنه افتقار إلى فهم حقيقي للاقتصادات الأفريقية نتيجة نقص المعلومات، على سبيل المثال، لدى كل من وكالتي “استاندرد آند بورز” و”موديز” مكتب واحد فقط في القارة الأفريقية في جوهانسبرغ يغطي جميع الدول التي يتم تصنيفها، وليس لدى فيتش مكاتب في أفريقيا.
وتأتي الحاجة لوكالة أفريقية للتصنيف الائتماني في ظل المخاطر الكبيرة المترتبة على تخفيض التصنيف الائتماني للدول الأفريقية من جانب الوكالات الدولية، من بين هذه المخاطر ارتفاع أسعار الفائدة وتراكم الديون، حيث يترتب على تخفيض تصنيفات الدول الأفريقية فوائد أعلى على الديون أكثر مما كان مطلوبًا لو أن التصنيفات تعكس واقع اقتصاداتها، حيث أشارت “ريبيكا جرينسبان” الأمينة العامة للأونكتاد إلى أن الدول الأفريقية تدفع فوائد على القروض ثمانية أضعاف ما تدفعه نظيراتها الأوروبية، وأربعة أضعاف ما تدفعه الولايات المتحدة بسبب التقييم المشوه من قبل وكالات الائتمان العالمية، ويعني هذا الارتفاع في الفوائد أن الحكومات مطالبة بدفع المزيد على المبلغ نفسه من الديون المستحقة عليها.
وتمتد الآثار الناتجة عن تخفيض التصنيف الائتماني للدول الأفريقية إلى ما هو أبعد، حيث تؤدي المخاطر المرتفعة إلى عزوف المستثمرين والبنوك عن شراء السندات الأفريقية في الأسواق العالمية، وبالتالي زيادة عجز الموازنة لتلك الدول، ونقص الأموال اللازمة للمشروعات التنموية، وما يترتب على ذلك من زيادة معدلات البطالة والفقر، بالإضافة لذلك، يسترشد المستثمر الأجنبي بالوضع الائتماني للدول، ضمن عوامل أخرى، قبل الدخول في الأسواق الأفريقية، ومن شأن التصنيفات المنخفضة أن تؤدي إلى تخفيض حجم الاستثمار الاجنبي المباشر المتدفق للدول الأفريقية، فضلًا عن أن الفوائد المرتفعة على الديون، جراء التصنيفات الائتمانية المنخفضة، كان من الممكن توجيهها إلى التنمية وتحفيز النمو الاقتصادي بدلًا عن دفعها لخدمة الدين.
المكاسب والتحديات
أدت المخاوف المرتبطة بالتصنيفات الائتمانية لأفريقيا إلى دعوات من جانب الاتحاد الأفريقي لدراسة جدوى إنشاء وكالة قارية، وهي وكالة التصنيف الائتماني الأفريقية (ACRA)، باعتبارها كيانًا مستقلًا تابعًا للاتحاد الأفريقي لتقديم تصنيفات ائتمانية أكثر موثوقية. ومن ثَمّ ستعمل وكالة التصنيف الائتماني الأفريقية على تقديم تقييماتها المستقلة للمخاطر المرتبطة بإقراض البلدان الأفريقية، من منطلق توسيع نطاق تنوع الآراء في التقييمات الائتمانية، كما ستوفر سياقًا إضافيًا لمساعدة المستثمرين في قراراتهم المتعلقة بالسندات الأفريقية وفرص الإقراض الخاص، مما يسهم في معالجة مخاوف الدول الأفريقية بشأن التحيز، ويعمل في نهاية المطاف على توفير نهج أكثر توازنًا وإنصافًا للتصنيفات الائتمانية للبلدان الأفريقية، بما يتوافق مع الهدف الأوسع للاتحاد الأفريقي المتمثل في تعزيز دمج الدول الأفريقية في الأسواق المالية العالمية.
كما يعد إنشاء وكالة تصنيف ائتماني أفريقية خطوة مهمة نحو استكمال المؤسسات المالية للاتحاد الأفريقي، وتسريع التكامل القاري، وكذا يمثل فرصة للحصول على تصنيف ائتماني لـ 22 دولة أفريقية لم تحصل على تصنيفات ائتمانية من الوكالات “الثلاث الكبرى”. فضلًا عن ذلك، أشارت دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أبريل الماضي إلى أنه من المتوقع أن تؤدي تصنيفات أقل ذاتية وأكثر عدالة ومراعية للظروف الخاصة بطبيعة الدول الأفريقية إلى توفير البلدان الأفريقية ما يصل إلى 74.5 مليار دولار، بما في ذلك، نحو 28.5 مليار دولار أمريكي من مدفوعات الفائدة الزائدة، إلى جانب خسارة تقدر بنحو 46 مليار دولار أمريكي في التمويل المحتمل، وهذا بدوره سيمكنها من تحرير الأموال للاستثمار في رأس المال البشري وتطوير البنية التحتية.
ومع ذلك، لا تهدف الوكالة الأفريقية إلى الاستغناء عن الوكالات الدولية الثلاث لتكون بديلًا عنهم بشكل كامل، على الأقل في الأجل القصير، وإنما لتقديم الدعم لهم، نظرًا للميزة النسبية التي ستتمتع بها من فهم الديناميكيات الحقيقية للنظام الاقتصادي في الدول الأفريقية، بالشكل الذي يساعد الوكالات الكبار في وضع تصنيف أكثر عدالة يعكس الواقع الفعلي للاقتصادات الأفريقية.
من جهة أخرى، على الرغم من التوقعات المتفائلة للفوائد التي قد تعود على الدول الأفريقية من إنشاء وكالة تصنيف ائتماني أفريقية، تبرز العديد من التحديات أمام تحقيق الفوائد المرجوة، ربما كان أبرزها: نقص الموارد، حيث يتطلب إنشاء وكالة تصنيف ائتماني موارد كبيرة، بما في ذلك، الموارد المالية والمهارات في مجالات الاقتصاد والمالية وتحليل البيانات، فضلًا عن المخاوف بشأن التدخل السياسي عندما تكون الوكالة تابعة لمؤسسة معينة أو حكومة معينة، فمن المفترض في هذه الجهات الاستقلالية، واتباعها لأي جهة يقلل من استقلاليتها وموضوعيتها، وبالتالي يجعل مصداقياتها محل شك. وفي الوقت نفسه، ستواجه وكالة التصنيف الائتماني الأفريقية منافسة شديدة، وستحتاج إلى ترسيخ نفسها كبديل موثوق ومستدام للاعبين التقليديين في مجال التصنيف الائتماني الدولي.
في الختام، يعتبر إنشاء الوكالة الأفريقية للتصنيف الائتماني خطوة مهمة إلى الأمام في إعادة تشكيل السرد حول الاقتصادات الأفريقية، وضمان أن التصنيفات الائتمانية تعكس بدقة الحقائق الاقتصادية للقارة، وإتاحة الفرصة للقارة للحصول على التمويل، الذي لا يعزز النمو الاقتصادي فحسب، بل ويعزز رفاهية مواطنيها، وتكون بمثابة وسيلة لتكامل الأسواق المالية للقارة مع الأسواق المالية العالمية، ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الفوائد سيحتاج إلى تضافر جهود الدول الأفريقية للتغلب على التحديات التي تواجه وكالة التصنيف الائتماني الأفريقية، فضلًا عن السنوات التي قد تستغرقها هذه الوكالة لكسب ثقة المستثمرين والبدء في جني ثمارها.