تتبع الحكومة الموريتانية مسارًا منفتحًا على المعارضة الحزبية في إطار مساعيها لخلق مساحة مشتركة من التفاعل بين الحزب الحاكم وبين الأحزاب المعارضة؛ إذ إنها وقعت في الثالث والعشرين من سبتمبر 2023 وثيقة تُعرف باسم “الميثاق الجمهوري” عقب جولات من الحوار بين حزب “الإنصاف الحاكم” وحزبي “اتحاد قوى التقدم” و”تكتل القوى الديمقراطية” المعارضين امتدت لنحو تسعة أشهر، متضمنًا عدة بنود تُمثل خارطة طريق نحو مشاركة فعالة للمعارضة الموريتانية في المشاركة مع الحكومة.
وجاء التوقيع على هذا الميثاق من جانب وزارة الداخلية واللا مركزية والأحزاب الثلاثة، عقب موافقة الرئيس الموريتاني “محمد ولد الغزواني” على هذا التقارب، بالتزامن مع اشتعال الوضع السياسي الداخلي على خلفية الانتخابات التشريعية والجهورية والنيابية التي أُجريت في مايو 2023 وحقق خلالها حزب الإنصاف “الحزب الحاكم” انتصارًا كبيرًا بها، في مقابل تراجع أقدم حزبين معارضين في موريتانيا وهما: حزب “اتحاد قوى التقدم” و”تكتل القوى الديمقراطية”.
استباق الأزمة
في ضوء الانتخابات التشريعية التي شهدتها موريتانيا في مايو 2023 والتي شهدت فوز حزب الإنصاف الحاكم بالأغلبية المطلقة في مقابل تراجع الأحزاب المعارضة التقليدية وتراجع رمزية تلك الأحزاب، وما تبعها من تشكيك في نتائج الانتخابات، وسعيًا من حرص تلك الأحزاب لعدم افتقاد تأثيرها السياسي؛ فقد تبنت نهج الاصطفاف والتقارب مع الحزب الحاكم، وهو ما لاقى استحسان النظام الموريتاني خاصةً في إطار جملة من المتغيرات التي تؤطر لاحتمالية حدوث أزمة سياسية كالتالي:
- ضغوطات الحرس القديم: واحد من بين دوافع توجه النظام الموريتاني للانفتاح على المعارضة التقليدية هو مساعي الرئيس الموريتاني السابق “محمد ولد عبد العزيز” –عقب إنهاء ترؤسه لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية “الإنصاف حاليًا”- للبحث عن مجال للتأثير السياسي من خلال الانضمام إلى حزب “الرباط الوطني” المعارض، علاوة على الالتفاف على الأحزاب المعارضة ذات الصبغة الإسلامية وأبرزها “حزب تواصل” الإخواني؛ لخلق أرضية حزبية داعمة له وإعادة لتأثيره السياسي، واتضحت معالم ذلك في عقد اجتماع ضم المعارضة الحزبية في مقر حزب تواصل بمشاركة (حزب الرباط الوطني – تحالف العيش المشترك – حركة أفلام- حركة إيرا الحقوقية) في ديسمبر 2022، بل والدفع في مسار تشكيل إطار سياسي وصياغة “ميثاق الوحدة الوطنية والسلم الأهلي”، بما يؤشر إلى مساعيه لتشكيل مظلة جامعة للقوى المعارضة في إطار منافسة الحزب الحاكم، ومزاحمة أحزاب المولاة في البرلمان بما يدعم خطة عودته للحياة السياسية.
- تهدئة الوضع السياسي وإفساح مجال أوسع لأحزاب المعارضة المعتدلة: باتت هناك حالة من الغضب السياسي خاصةً بين التكتلات الحزبية المعارضة بعد الانتخابات التشريعية والجهوية والنيابية التي شهدتها موريتانيا في مايو 2023، تراجعت على إثرها المعارضة التاريخية والتي تتجه نحو الاعتزال السياسي مع بروز معارضة جديدة من الشباب انشقت عن حزبي (التكتل واتحاد قوى التقدم) أبرزها النائية اليسارية “كادياتا مالك جالو” التي وصفت الميثاق بأنه طعنة في ظهر المعارضة، ومحاولة لخداع الرأي العام، هذا الأمر ليس من مصلحة النظام الموريتاني الذي يشهد العام المقبل انتخابات رئاسية مما يتطلب تواجد ما يمكن تسميته بالمعارضة المألوفة أو المستأنسة في مساعٍ لمعالجة أزمة السلطات الموريتانية المتعاقبة.
- التحولات المتسارعة في الجوار الإقليمي المباشر: واحد من بين تطلعات النظام الموريتاني هو رغبته في بناء جبهة داخلية قوية دون إفساح المجال للاستقطاب الخارجي وتنفيذ أجندات خارجية في العمق الموريتاني، مستغلة حالة التشرذم الحزبي والسياسي الداخلي بين داعمي النظام السابق وبين نظام “ولد الغزواني”، وفي ضوء الترتيبات الأمنية المستجدة في الإقليم، سواء تلك الخاصة بالدور الأمني الجديد لموريتانيا كشريك استراتيجي لحلف الناتو، أو تلك المتعلقة بتفاقم الصراعات المسلحة والاضطرابات السياسية في دائرة الساحل والصحراء، بما ينذر بجر الدولة إلى حالة من عدم الاستقرار.
المواقف المتباينة من الميثاق
لقد شمل ميثاق الجمهورية عدة بنود قائمة بالأساس على التفاهمات السياسية لكافة الفاعلين السياسيين مع تحقيق الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي انطلاقًا من مبدأ المساواة وتعزيز الحكم الرشيد، مع تكوين لجنة من الأطراف الثلاثية الموقعة على الاتفاق لمتابعة تنفيذ الاتفاق، إلى جانب تضمن الوثيقة تشكيل لجنة للتوجيه والمتابعة تتألف من ممثلين عن الموقعين على الاتفاق لدراسة المنظومة الانتخابية، ورفع التوصيات الخاصة بذلك خلال شهرين لإحداث تعديلات وإصلاحات عليها.
وعلى الرغم من تبني مسار استراتيجية الباب المفتوح لكافة الأحزاب، فإنه تمخض عن تلك الوثيقة حالة من التشرذم الحزبي ولم يحظَ بالإجماع، سواء على صعيد المعارضة الموريتانية أو على مستوى أحزاب المولاة. فالرؤية الأولى الخاصة بالمعارضة الموريتانية استندت إلى فكرة عدم مشاركتها في جلسات الحوار الخاصة بهذه الوثيقة، ولم تُعرض على الأحزاب المعارضة قبل أن تصل الأغلبية أو السلطة، إلى جانب رؤية المعارضة لافتقار تلك الوثيقة لمقترحات ناجعة لحل المشكلات الكبرى ومنها ملف الفساد، ومن بين تلك التكتلات السياسية (تحالف أمل موريتانيا، حزب التجمع، حزب تواصل الإسلامي، حزب الصواب، حزب الفضيلة والإصلاح، حركة “إيرا” المحسوبة على الأقليات العرقية والزنجية). وتعود رؤية الأحزاب المعارضة إلى حالة التصدع والضعف التي باتت تتسم بها مؤخرًا مع عجزها عن إيجاد والاتفاق حول مرشح توافقي يمكنه المنافسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، عوضًا عن فشلها في التأثير على الرأي العام، لذا تستهدف بكل السبل نحو التصعيد على تلك الوثيقة لسد تلك المعضلات.
وعلى صعيد أحزاب المولاة، ثمة نحو سبعة أحزاب موالاة رفضت تلك الوثيقة أبرزها (حزب الإصلاح، حزب الرفاه، الحزب الجمهوري للديمقراطية والتجديد، حزب البناء والتقدم، حزب المسار) والتي رأت أن هذا الميثاق من شأنه أن يهدد الثوابت الوطنية، خاصة ما يتعلق بفتح ملف حقوق الإنسان؛ إذ إن الوثيقة نصت على استحداث آلية ذات مصداقية لحل ملفات حقوق الإنسان والمظالم العالقة، والعمل على تسويتها بصفة نهائية، وهو ما تراه أحزاب الموالاة يفتح المجال أمام تغيرات غير محسوبة تؤدي لانتكاسة المشروع الوطني، إلى جانب تصدع الهوية الموريتانية الوطنية وذلك في ظل ما تضمنه الميثاق في محوره الثالث من تحويل اللغات الوطنية للاعتراف بها كلغات رسمية.
وإجمالًا، فإن الميثاق الجمهوري الصادر مؤخرًا يقدم مؤشرًا إلى مساعي النظام الموريتاني لتدارك تراجع الأحزاب المعارضة التقليدية “التاريخية”، والحد من أي احتماليات لاصطفاف القوى الإسلامية مع النظام السابق “ولد عبد العزيز” بما يُشكل سياقًا ضاغطًا في الانتخابات الرئاسية القادمة المزمع عقدها في 2024.