تزامنًا مع تصاعد حدة الحرب الدائرة في قطاع غزة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل منذ 7 أكتوبر، طرأت بعض التغيرات الملحوظة على لهجة الخطاب السياسي الرسمي التركي، فمن الاكتفاء بإطلاق العبارات الدبلوماسية الروتينية خلال الأيام الأولى من الحرب، إلى المطالبة بالتهدئة ووقف إطلاق والتمرير العاجل والآمن للمساعدات وطرح تركيا كوسيط محتمل ضمن سياسة “التوازن الحذر”، إلى تبني لهجة “متشددة” تتضمن توجيه انتقادات لاذعة لإسرائيل ووصفها بـ”دولة الاحتلال”، مع تأكيد أن حماس هي “حركة مقاومة”، حيث هيمنت حرب غزة على الاحتفالات بقرن تركيا، وأعلن أردوغان إلغاء زيارة مرتقبة إلى إسرائيل، بالتوازي مع ما شهدته العديد من المدن التركية من مسيرات حاشدة داعمة للفلسطينيين، مما حدا بالحكومة الإسرائيلية إلى استدعاء موظفيها الدبلوماسيين من أنقرة للتشاور، الأمر الذي يوجه ضربة قوية للجهود الناشئة التي بذلها الجانبان التركي والإسرائيلي لاستعادة العلاقات السياسية والاقتصادية بعد عقد من العلاقات شبه المجمدة، ويُعيد التوتر إلى صدارة العلاقات التركية الإسرائيلية.
عوامل حاكمة
رغم ما يبدو من تحولات طرأت على عناصر الخطاب السياسي، فإنها لا تعدو كونها تبديلًا للمفردات يخدم النهج البراجماتي الموجه لبوصلة السياسة التركية، إذ اعتادت أنقرة توظيف الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية، واللعب على كافة أطرافها للخروج بأكبر قدر من المكاسب. ونُفند فيما يلي دوافع الموقف التركي بتطوراته:
• ممارسة دور الوسيط الإقليمي: أرادت تركيا ممارسة دور لطالما فضلته وبحثت عنه خلال التعاطي مع الصراعات الدولية والإقليمية وهو “وسيط السلام” القادر على قيادة مبادرات تهدئة وتسوية لإرساء السلام الإقليمي، بهدف تعزيز المكانة الإقليمية ورفع أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لحلفائها الغربيين، لذلك طرحت أنقرة نفسها كوسيط محتمل للتفاوض بشأن تحرير الرهائن، كما اقترح أردوغان “صيغة ضامنة” تعمل بموجبها تركيا كدولة ضامنة لدولة فلسطينية مستقلة تنشأ بموجب تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، استنادًا إلى امتلاكها علاقات إيجابية أو على الأقل مصلحية مع طرفي الصراع. ولذلك، فإن خيبة أمل أردوغان بشأن القيام بدور رئيس في الأزمة وانتقال جهود الوساطة الناجعة بشأن أزمة الرهائن للطرفين القطري والمصري، ربما كان أحد العوامل التي دفعت أردوغان الذي اعتاد إجادة استغلال الأزمات لتحقيق مكاسب على كافة المستويات إلى التصعيد.
• تأمين المكاسب الدبلوماسية الإقليمية: حكمت التصريحات المتوازنة للرئيس التركي في بداية الصراع الحرص على عدم تعريض التطورات الإيجابية على صعيد العلاقات التركية الإسرائيلية في ظل استعادة العلاقات الدبلوماسية منذ ما يربو قليلًا على عام، والسعي لآفاق تعاونية أوسع في المجالات الطاقوية والسياحية والتجارية، وما يحمله التأثير الإيجابي للعلاقات الجيدة مع إسرائيل على العلاقات السياسية مع واشنطن. فضلًا عن الخشية من احتمال توسع النزاع بالمنطقة بشكل من شأنه أن يؤثر سلبًا على التحسن المستمر في علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة، ويهدد بزعزعة استقرار المشهد الأمني الإقليمي الأوسع، ومن ثم ينعكس سلبًا على المصالح التركية بالشرق الأوسط.
• مغازلة القاعدة المحافظة: تشكل المشاعر العامة وموقف النخب السياسية المحلية عاملًا رئيسًا لتوجيه سياسة أنقرة، حيث تكتسب القضية الفلسطينية مكانة مركزية في وجدان المواطنين الأتراك انطلاقًا من الروابط الدينية والتاريخية بين البلدين، وقد تولت التيارات اليمينية والإسلامية المحافظة مسألة تنظيم مسيرات مؤيدة للفلسطينيين في إسطنبول وغيرها من المدن التركية الكبرى، وهذه التيارات تُعد الحاضنة الشعبية الرئيسية لأردوغان وللأحزاب اليمينة والقومية المحافظة التي تمتلك مقاعد برلمانية مثل حزب العدالة والتنمية. كما أظهرت جميع الأحزاب السياسية المكونة للبرلمان التركي موقفًا وحدويًا نادرًا عندما أصدرت بيانًا مشتركًا يدين بشدة “الجريمة ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل”. وكان لافتًا أن الأحزاب المشكلة لتحالف الشعب الحاكم اتخذت مواقف متشددة تجاه التصعيد الإسرائيلي في غزة، حيث نظم حزب “الهدى بار” الإسلامي مسيرة مؤيدة لحماس خارج القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول. وفي 22 أكتوبر، قال دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية، إنه يمهل إسرائيل 24 ساعة لوقف إطلاق النار، معتبرًا أنه يجب أن تتدخل تركيا عسكريًا إذا لم يكن هناك وقف لإطلاق النار.
بالإضافة إلى ذلك، وجهت الصحافة المعارضة انتقادات لاذعة لنتنياهو. فعلى سبيل المثال، وضعت صحيفة “سوزكو” المعارضة صورة لنتنياهو تصوره كـ”مصاص دماء” على صدر صفحتها الأولى. كذلك، تصاعدت التصريحات المتشددة من قادة أحزاب المعارضة الرئيسة مثل كمال كيليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وميرال أكشنار زعيمة حزب الجيد التي شبهت نتنياهو بهتلر، علاوة على الانتقادات التي وجهها رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو لرد فعل أردوغان على حرب غزة حيث اعتبره “ضعيفًا”، وشاركه الرأي الأحزاب اليسارية التركية. لذلك، أراد أردوغان الالتقاء مع مشاعر الشارع الذي يُعطي الأولوية للقضية الفلسطينية على المكاسب السياسية والاقتصادية الناتجة عن تحسين العلاقات التركية الإسرائيلية، بغرض تعزيز شرعيته السياسية، ولعل مشاركة نجله “بلال” في مسيرة مؤيدة لفلسطين بإسطنبول تنطوي على رسالة تلاحمية مع الجمهور، حيث يسعى لتصوير نفسه باعتباره امتدادًا عضويًا للشعب.
• تأكيد الزعامة السياسية: اتصالًا بالنقطة السابقة، فإن الاصطفاف الداخلي التركي العابر للأيديولوجيات بشأن دعم الحقوق الفلسطينية من قِبل جميع عناصر الطيف السياسي، بما في ذلك العلمانيون والإسلاميون والأحزاب الكردية والقوميون الأتراك والوسطيون والراديكاليون والجماعات اليسارية المتطرفة واليمين المتطرف، إضافة إلى مركزية القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية والإسلامية، يجعلها عنصرًا مثاليًا للخطاب السياسي والرسائل الإعلامية للرئيس التركي بغرض ترسيخ صورته باعتباره زعيمًا سياسيًا إقليميًا يستمد مكانته من الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية، ويتلاءم هذا الخطاب أيضًا مع تفضيله الخطاب الشعبوي لتعزيز نفوذه في العالمين العربي والإسلامي، وترسيخ صورته محليًا كقائد كاريزمي وخارجيًا كزعيم إقليمي.
• خدمة الرؤية التركية لضرورة إصلاح مجلس الأمن وتعديل النظام الدولي: وجد أردوغان في فشل منظومة الأمم المتحدة بشأن إصدار قرار دولي بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، الفرصة لإعادة توجيه الانتقادات للنظام العالمي والمجتمع الدولي، خاصة هيكل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إذ اعتبر أن الفشل في معالجة محنة المدنيين بغزة يقوض مصداقية النظام العالمي وسلطته الأخلاقية، وقال إنه “حزين لعدم قدرة الأمم المتحدة على الاتفاق على قرار بشأن القصف الإسرائيلي”، مؤكدًا “أن مجلس الأمن يحتاج إلى إصلاح ليكون أكثر شمولًا”، الأمر الذي يتفق والنقاشات المتكررة التي تعالت داخل دوائر النخبة التركية بشأن ضرورة إصلاح مجلس الأمن تحت شعار “العالم أكبر من خمسة”. وفي السياق ذاته، حمل المسئولون الأتراك الولايات المتحدة مسئولية استمرار الممارسات الإسرائيلية غير المشروعة بحق الفلسطينيين نظرًا لعدم ممارستها ضغوطًا كافية على إسرائيل لوقف إطلاق النار، لتأكيد السردية التركية القائلة بأن هيكل النظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في ظل الأحادية القطبية يبتعد بشكل كبير عن التوازن، ولا يستطيع أن يحقق السلام والاستقرار والعدالة لجزء كبير من العالم.
• الانزعاج من تعزيز الحضور العسكري الأمريكي: أثار قرار الولايات المتحدة برفع مستوى حضورها العسكري في الشرق الأوسط قلق أنقرة على مصالحها الإقليمية، بما في ذلك تكثيف الانتشار العسكري شرق المتوسط بالقرب من مناطق التنقيب عن الهيدروكربونات، حيث نشرت واشنطن حاملتي الطائرات جيرالد وفورد وآيزنهاور بطواقمهما في مياه المتوسط، وأرسلت تعزيزات عسكرية إضافية إلى دول المنطقة، بما يتعارض مع مساعي أنقرة لتقليص الوجود الأمريكي، مما حدا بأردوغان إلى القول بأن الولايات المتحدة ليس من شأنها إرسال حاملات الطائرات أو لعب دور في هذا الصراع، واعتبر أن وجود الحاملات يتعارض مع جهود تركيا لحل الأزمة.
تداعيات محتملة
ينطوي تشدد الموقف التركي من مجريات حرب غزة على مخاطر بشأن علاقاتها بأطراف الصراع وحلفائهم الدوليين، وهو ما نستعرضه كالتالي:
• تعميق الصدع بين تركيا وإسرائيل: كانت حرب غزة بمثابة اختبار لعمق ومتانة العلاقات التركية الإسرائيلية، وقد جاءت كاشفة لحقيقة أن التقارب خلال المرحلة الفائتة لم ينطوِ على تصفية القضايا الخلافية وإزالة مسبباتها، وإنما كان بمثابة إعادة ترتيب لأولويات السياسة الخارجية أسفر عن تنحية عناصر الخلاف جانبًا وإعطاء المساحة الأكبر للملفات التعاونية المحتملة، لكن مع أول اختبار للعلاقات الثنائية صعدت الخلافات الأيديولوجية مرة أخرى، وبدا أن القضية الفلسطينية ستظل عاملًا حاسمًا في إدارة العلاقات التركية الإسرائيلية نظرًا لحساسيتها بالنسبة للرأي العام التركي ومكونات الطيف السياسي مما ينعكس بالتبعية على السياسات الحكومية.
وعليه، يُرجَّح أن تشهد العلاقات خلال المرحلة المقبلة مستوى من التراجع والتدهور يتجلى في التوتر اللفظي وخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية، وبما يُفضي إلى “جمود مرحلي” في جهود توسيع وتطوير العلاقات، ويبقى مداه محكومًا بالتطورات المستقبلية للحرب. ومع ذلك، تخبرنا الخبرة التاريخية أن أنقرة تجد مصلحة استراتيجية في الإبقاء على العلاقات مع إسرائيل، لذلك يُتوقع استمرار التشاور والتواصل بشكل يضمن خط رجعة للعلاقات، لا سيمَّا أن هناك مسافة بين التعبير عن المواقف السياسية إعلاميًا ضمن ممارسة السيادة والاستقلالية وبين المسار الفعلي للعلاقات السياسية والاقتصادية على المستوى التنفيذي التي تكون محكومة باعتبارات عديدة.
• توسيع المسافة بين واشنطن وأنقرة: شكلت الحرب عاملًا إضافيًا لعوامل توتر العلاقات التركية-الأمريكية إذ تزامنت مع تصاعد الخلافات بين البلدين ولا سيمَّا بشأن دعم الولايات المتحدة لحلفائها من قوات سوريا الديموقراطية بشمال سوريا، حيث وصلت ذروة التوتر إلى إسقاط طائرة مقاتلة أمريكية من طراز إف-16 طائرة تركية بدون طيار كانت على بعد بضع مئات الياردات من القوات الأمريكية في شمال سوريا. ويُرجح أن يُعقّد الخطاب الهجومي لأردوغان ضد تل أبيب وواشنطن مساعي الحصول على طائرات إف-16، وربما يدفع البرلمان التركي –بإيعاز أردوغان– إلى تأخير التصديق على بروتوكولات انضمام السويد للناتو. وقد تجلت بوادر التوتر المرتبط بحرب غزة في العقوبات الأمريكية على كيانات تركية ترتبط بحماس، حيث فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية ضد ثلاثة مساهمين رئيسيين في صندوق الاستثمار العقاري التركي “Trend GYO”، والجمعية الخيرية التركية، ومؤسسة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية (IHH). وكان لافتًا أن توتر العلاقات الثنائية انتقل إلى الشارع التركي عندما استهدفت المظاهرات منشآت أمريكية وأهمها قاعدة رادار كوريسيك في ملاطية.
• تحديد مستوى العلاقات مع حركة حماس: لا شك أن المحادثات التركية الإسرائيلية بعد أن تضع الحرب الحالية أوزارها ستتضمن إعادة طرح مسألة الدعم التركي لحركة حماس، وتوفير ملاذات آمنة لقاداتها وعناصرها، والتي لطالما شكلت عنصرًا إشكاليًا في العلاقات مع إسرائيل. وغالبًا، لا تتخلى أنقرة عن أوراقها، لذا لا يتوقع اتخاذ قرار بإغلاق المكتب السياسي للحركة أو طرد عناصرها كافة أو إيقاف نشاطاتهم الاقتصادية التي تُشكل أحد مصادر تمويل الحركة، وإنما ربما يتعلق الأمر بفرض قيود جزئية على أنشطة قيادات الحركة.
ختامًا، يتوقع أن تسعى تركيا إلى الحفاظ على مستوى من التوازن الدقيق بين دعم القضية الفلسطينية والاستجابة لضغوط القاعدة الجماهيرية، ومنع انزلاق العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مرحلة خطيرة تهدد المصالح الاقتصادية التركية وتضر بشكل بالغ بعلاقاتها بالأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالصراع، مراعيةً بذلك الحقائق الجيوسياسية المتصلة بالصراع، ويتوقع أن ترمي أنقرة إلى أن تكون لاعبًا رئيسًا في تسويات ما بعد الحرب وعملية إعادة الإعمار، وربما يسعى أردوغان، الذي يتسم بالمرونة دائمًا في السعي لتحقيق أهدافه السياسية، إلى استئناف مساعي التعاون مع إسرائيل في ظل ظروف أكثر ملاءمة عندما تضع الحرب أوزارها.