في خضم اليوم الدامي، 27 أكتوبر 2023، الذي قامت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي بقطع الاتصالات والإنترنت عن غزة من أجل تكثيف عملياتها الدامية ضد المدنيين من النساء والأطفال بالقطاع، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي “جون كيربي” إن واشنطن “لا ترسم خطوطًا حمراء” لإسرائيل، مضيفًا “نحن مستمرون في دعم احتياجاتها الأمنية”. وهو ما يتطابق مع ما أكد عليه الرئيس “جو بايدن”، في أعقاب تصعيد 7 أكتوبر، بأن الولايات المتحدة على استعداد تام “لتقديم جميع وسائل الدعم المناسبة لحكومة وشعب إسرائيل”، مشددًا على أن دعم الحكومة الأمريكية لأمن إسرائيل “قوي للغاية ولا يتزعزع”. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن استمرار قدرة واشنطن على تقديم الدعم “اللا محدود” لإسرائيل، لا سيما في ضوء ارتكاب إسرائيل للمجازر والتجاوزات اللا إنسانية.
المعضلات التي تواجه الدعم الأمريكي لإسرائيل
ردًا على تصعيد يوم 7 أكتوبر، جاءت الاستجابة السريعة لواشنطن عبر تقديم تأكيد جديد على دعم إسرائيل من خلال التخطيط لتوفير مساعدات عسكرية تعزز قوتها في وجه حماس. وهو ما عكس تجاوزًا لكافة مؤشرات الخلاف التي اتضحت بين البلدين خلال الشهور الأخيرة، ومن بينها: قيام “بايدن”، في مارس الماضي، بحثّ رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” على التراجع عن المساعي التشريعية الخاصة بالنظام القضائي، معبرًا عن قلقه الشديد بشأن “صحة الديمقراطية الإسرائيلية”. بالإضافة إلى إجابته القاطعة بالنفي حينما سُئل عن دعوة “نتنياهو” إلى البيت الأبيض. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما وصل إلى ظهور دعوات تطالب بوقف المساعدات الأمريكية المقدمة لإسرائيل، ليس فقط من قبل بعض الديمقراطيين؛ ولكن من قبل الجمهوريين أيضًا، في إطار رؤيتهم المتعلقة بإمكانية توظيف المساعدات العسكرية المقدمة لإسرائيل كورقة ضغط لردعها عن التقارب مع الصين.
ومن ثَمّ، يمكن القول إن التصعيد الجاري على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية بات يمثل محفزًا جديدًا من أجل إعادة تأكيد الدعم الأمريكي “اللا محدود” لإسرائيل. تاريخيًا، تصدرت واشنطن مشهد الصراع العربي الإسرائيلي بصفتها راعيًا ووسيطًا، غير أنها لم تتراجع أبدًا عن حماية إسرائيل وضمان أمنها، وهي المعادلة التي لا يبدو أنها قد تشهد تغييرًا واضحًا خلال التطورات الجارية. إلا أن تحليل الموقف والتعاطي الأمريكي الحالي يتطلب تفكيك عدد من المعضلات التي أمست مكونات رئيسة للمشهد الحالي، ومن أبرزها:
- القوة مقابل القيم: على الرغم من قدرة السياسات -في بعض الأوقات– على تحديد وتوجيه الأوضاع على الأرض، إلا أنه في أوقات أخرى تفرض الأوضاع على الأرض شكل السياسات وحدود التحركات. وبالنظر إلى المشهد الحالي، يتضح أنه يمثل جولة جديدة ومختلفة من التصعيد كونه عكس تواضعًا في الأداء الاستخباراتي الإسرائيلي، وشهد تزايدًا واضحًا في قدرات حماس، وهو ما يتطلب وفق الرؤية الإسرائيلية ضرورة القيام بأقوى وأعنف رد لتحسين صورة إسرائيل من جانب، وتحقيق الردع ضد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى من جانب آخر. واستنادًا إلى ذلك جاءت التصريحات الأمريكية التي تؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وعدم فرض خطوط حمراء على ما تقوم به.
وفي مقابل ذلك، فقد أعلنت إدارة “بايدن” منذ وصولها لسدة الحكم عن أهمية استعادة الدور الأخلاقي لواشنطن، والسياسة الأمريكية القائمة على القيم، لا سيما الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن ثَمّ، تدرك واشنطن جيدًا ضرورة التحرك وفقًا لهذا النهج حتى لا يتم الإضرار بصورتها عالميًا. وعليه؛ تواجه واشنطن معضلة تتعلق بالتوفيق بين علاقاتها بحليفها التقليدي (إسرائيل) وبين الدفاع عن “القيم الأمريكية”، وبالأخص في ظل الانتهاكات الدموية التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة.
- المعركة السياسية الداخلية: في خضم حالة الانقسام السياسي التي تشهدها الولايات المتحدة، يجري توجيه وتوظيف كل القضايا في الصراع بين المعسكرين، وهو ما طال أيضًا التطورات الجارية على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية. فقد اتجه عدد من الجمهوريين بمن فيهم الرئيس السابق “دونالد ترامب” وحاكم فلوريدا “رون ديسانتيس” إلى توجيه اللوم والانتقاد لإدارة “بايدن”، معتبرين أن السبب الأساسي خلف الهجمات التي شنتها حماس هي سياسة الإدارة تجاه إيران، وتوقيع صفقة إطلاق سراح الرهائن. وهو ما يمكن النظر إليه باعتباره دافعًا قويًا خلف الدعم الضخم الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل.
ومن ناحية أخرى، وكنتيجة لحرص واشنطن على تقديم الدعم “اللا محدود” لإسرائيل، اتجه عدد من المسئولين إلى تقديم استقالتهم، وفي مقدمتهم “جوش بول”، مدير مكتب الشئون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية، كما أفادت بعض الأنباء بقيام أكثر من 400 مسئول بتوقيع رسالة تنتقد إدارة “بايدن” بسبب “إهمال دعم الفلسطينيين”. وهو ما يمكن اعتباره أحد أسباب التأكيدات المتكررة التي قدمها “بايدن” مؤخرًا بشأن ضرورة حماية المدنيين وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية. الأمر الذي يعني أن حالة الانقسام السياسة والمعركة الحزبية الدائرة تمثل إحدى أهم المعضلات التي تؤثر على تعامل واشنطن مع التطورات الجارية، لا سيما أنها على أعتاب سباق رئاسي جديد.
- انقسام الشارع الأمريكي: حتى وقت قريب كانت بعض التحليلات تتعامل مع تعاطف الشارع الأمريكي مع إسرائيل بوصفه معطى رئيسيًا، إلا أنه خلال السنوات الأخيرة قد طرأت بعض التغييرات على هذا المشهد، لا سيما في ضوء اتجاه بعض الأمريكيين للربط بين موقفهم من إسرائيل وبين النضال الداخلي ضد العنصرية. وخلال التصعيد الجاري، شهدت الساحة الأمريكية عددًا من التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية، منها: التظاهرات التي شهدتها واشنطن ونيويورك ونيوجيرسي، والتظاهرات والانقسامات التي شهدتها الجامعات كـ: (هارفارد وإنديانا)، وأيضًا التظاهرات التي تشهدها المدارس كطلاب المدارس الثانوية في مقاطعة فيرفاكس بولاية فيرجينيا.
وفي ذات السياق، فقد اتخذ بعض اليهود الأمريكيين موقفًا داعمًا للقضية الفلسطينية ورافضًا للانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال، وهو ما انعكس في المسيرة التي نظمتها اثنتان من كبرى المنظمات اليهودية (الصوت اليهودي من أجل السلامJewish Voice for Peace) و(إن لم يكن الآنIfNotNow) وشارك فيها آلاف اليهود في الكابيتول هيل، واعتصم بعضهم داخل المبنى. كما قال زعيم رابطة (جوييم للدفاع عن اليهود Goyim Defense League) إن “الفلسطينيين يقتلون معبد الشيطان. بارك الله في رجال فلسطين الشجعان”. وهو المشهد الذي يعكس معضلة واضحة أمام تعاطي واشنطن انطلاقًا من الحاجة إلى المواءمة بين التيارات المحافظة والإيفانجيليكية التي تدعم إسرائيل بلا حدود أو قيود من جانب، وبين التيارات الأخرى التي ترفض الدعم الأعمى، بل وتدعم حقوق الشعب الفلسطيني.
- أمن إسرائيل مقابل الأمن الإقليمي: يُعتبر التوجه الأمريكي بحماية إسرائيل ودعم أمنها في المنطقة هدفًا محوريًا لواشنطن على اختلاف الإدارات المتعاقبة، بل تنظر إليه واشنطن باعتباره التزامًا أمريكيًا راسخًا يقوم على ضرورة الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري النوعي وتعزيز قدرتها على الدفاع عن نفسها ضد أي تهديد.
ومن ناحية أخرى، تطل مسألة استقرار المنطقة كأحد أهم أهداف واشنطن انطلاقًا من حرصها على عدم اضطراب مصادر الطاقة بالمنطقة، وكذا عدم اتساع دور القوى الممانعة فيها، وهو ما يرتبط أيضًا بتزايد محتمل في دور خصوم واشنطن في المنطقة. ومن ثَمّ، فإن ضمان أمن إسرائيل وفق رؤيتها الحالية اليمينية المتطرفة، لا تقف فقط عند حدود كونها لا تدعم أمن واستقرار المنطقة، بل تتجاوز ذلك إلى تحفيز اندلاع حرب إقليمية، وهو ما يمثل معضلة أمام تعاطي واشنطن مع التجاوزات الإسرائيلية الجارية.
- مسار التصعيد مقابل مسار التطبيع: يجري التصعيد الحالي في سياق إقليمي مضطرب يعاني قدرًا من السيولة السياسية والأمنية. بما يعني أن الدعم الأمريكي لإسرائيل وتشجيع استمرارها في المسار الدموي وارتكاب المزيد من المجازر من أجل تأطير صورتها كدولة قوية بالمنطقة، يعني دفع المنطقة إلى حافة الهاوية وتزايد فرص تحول الوضع في غزة إلى حرب متعددة الجبهات، وربما حرب إقليمية.
وهي المسألة التي تتناقض –بشكل واضح – مع مسار الاستقرار الإقليمي القائم على التطبيع الذي أطلقته إدارة “ترامب” واستمرت فيه إدارة “بايدن”، بهدف تعزيز مكانة إسرائيل بالمنطقة. بما يعني خسارة المكاسب التي تم تحقيقها خلال السنوات الأخيرة، والتي تبلورت آخر انعكاساتها في التطبيع السعودي الإسرائيلي، الذي يبدو أنه بات مرشحًا للتعطيل في ضوء صعوبة توقع استمرار السعودية في التقارب مع إسرائيل بالتزامن مع إسالة الدماء الفلسطينية. ومن ثَمّ، يبدو أن واشنطن تواجه معضلة حقيقية تتعلق بصعوبة التوفيق بين دعم توجه إسرائيل في إعلاء لغة العنف والدمار، وبين مسار التطبيع الإقليمي الذي حرصت واشنطن على رعايته بالمنطقة.
- الدور الأمريكي مقابل دور الخصوم: في ضوء التوجه الأمريكي بحماية إسرائيل ودعم أمنها في المنطقة كهدف محوري لواشنطن على اختلاف الإدارات المتعاقبة، وهو ما انعكس –خلال التصعيد الحالي- في انحياز تام وواضح لإسرائيل وتحركاتها، بصرف النظر عن حجم التكلفة البشرية والإنسانية في غزة. فقد تسبب هذا المشهد في ظهور معضلة واضحة أمام واشنطن تمثلت في تصاعد استغلال خصومها (روسيا والصين) للانحياز الأمريكي لإسرائيل من أجل الترويج لدورهما على الساحتين الإقليمية والدولية كأدوار معتدلة تدعم القضية الفلسطينية.
وعلى هذا النحو، تتعارض تصريحات وتحركات موسكو وبكين مع واشنطن، إذ اتجهتا إلى انتقاد إسرائيل بطريقة ظهرت كاستعراض لجهود الدولتين لتعزيز دورهما وقيادتهما كبديل عن القيادة الأمريكية المنحازة. ومن ثَمّ، فقد سعت الدولتان للعب دور دبلوماسي يهدف لخفض التصعيد الإسرائيلي في غزة، وهو ما تبلور – بشكل واضح – في قيامها بإسقاط القرار الأمريكي بمجلس الأمن الذي هدف إلى إدانة عملية “طوفان الأقصى” التي قادتها حماس.
مجمل القول، إن الدعم الأمريكي “اللا محدود” لإسرائيل والالتزام التاريخي بحمايتها، والذي انعكس في انحياز تام وواضح مع ما ترتكبه إسرائيل من جرائم ومجازر بحق المدنيين في قطاع غزة، يواجه مجموعة من المعضلات التي تفرض حدودًا وربما قيودًا بشأنه، وهو ما يعني أن هناك فرصًا –ولو محدودة– لدفعه ليصبح أكثر اعتدالًا، وربما أكثر اتزانًا. ولكن حال تجاهلت واشنطن هذه المعضلات، أو فشلت في التعامل معها، سيعني ذلك أن دور واشنطن لن يتضرر فقط على الساحة الإقليمية، وإنما سيتضرر أيضًا على الساحة الدولية.