قررت الولايات المتحدة تخفيف العقوبات المفروضة على قطاعات النفط والغاز والذهب على فنزويلا لمدة ستة أشهر، عقب عقد اتفاق بين حكومة الرئيس “نيكولاس مادورو” والمعارضة على إجراء انتخابات العام المقبل تحت مراقبة دولية، وجاءت تلك الانفراجة عقب مدة تزيد عن عام من زيارة وفد أمريكي لفنزويلا منذ سنوات من المقاطعة لإجراء محادثات شملت مناقشة إمدادات الطاقة، لتتخذ واشنطن عقب ذلك قرارًا في نوفمبر 2022 بمنح شركة “شيفرون” تصريحًا باستئناف إنتاج النفط في فنزويلا بشرط أن تذهب جميع الصادرات إلى الولايات المتحدة.
ويسعى أكبر اقتصاد في العالم بزيادة الإنتاج والصادرات الفنزويلية إلى تخفيف الضغط على إمدادات النفط العالمية المحدودة، بينما تستهدف فنزويلا التقليل من وطأة العقوبات على اقتصادها الذي يعاني من أزمات هيكلية مزمنة.
ماذا تعني فنزويلا لأسواق النفط العالمية؟
تعد فنزويلا من الدول المؤسسة لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ورغم امتلاكها أكبر احتياطي نفطي في العالم يُقدر بأكثر من 303 مليارات برميل، بما يمثل أكثر من 19% من حجم الاحتياطي العالمي، رغم تراجع أهميتها في سوق النفط العالمي، إضافة إلى امتلاكها موارد طبيعية ثمينة؛ كالغاز الطبيعي، وخام الحديد، والذهب، والألماس، ومعادن أخرى، ولهذا اعتمدت الدولة على القطاع في العديد من الأنشطة الاقتصادية حيث يمثل النفط نحو 95% من عائدات صادرتها. كما يبين الشكل الآتي:
الشكل 1- احتياطي فنزويلا من النفط (مليار برميل)

Source: OPEC, Annual Statistical Bulletin 2023.
ورغم امتلاك فنزويلا أكبر احتياطات نفطية عالمية، إلا أنها عانت من انخفاض شديد في إنتاج النفط على مدار السنوات الماضية، حيث وقع الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” عام 2019 مجموعة من العقوبات الاقتصادية على البلاد لتستهدف قطاع النفط، وحظر واردات النفط الفنزويلي، والتعامل مع الديون والأوراق المالية التي تصدرها الحكومة وشركة النفط الوطنية، في محاولة لحرمان الحكومة من عوائد النفط بسبب “عدم شرعية الانتخابات”، مع فرض عقوبات جديدة على شركة النفط الحكومية “بدفسا”، وتجميد كل موجوداتها في الخارج، كما وسعت الولايات المتحدة نطاق العقوبات لتشمل الشركات الأمريكية والأجنبية التي تتعامل مع قطاعي الخدمات الأمنية والدفاعية. ويُبين الشكل التالي تطور إنتاج البلاد من النفط:
الشكل 2- إنتاج النفط في فنزويلا (ألف برميل يوميًا)
Source: OPEC, Annual Statistical Bulletin 2023.
يتبين من الشكل السابق أن إنتاج النفط الفنزويلي قد تراجع من 2.8 مليون برميل يوميًا عام 2011 إلى 716 ألف برميل يوميًا بحلول عام 2022، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 75.1%، ولا يُمكن إرجاع ذلك إلى العقوبات المفروضة على صناعة النفط فحسب؛ بل إلى سوء الإدارة، ونقص الاستثمار، ومشكلات التدفق النقدي، والبنية التحتية المتداعية، وكذلك نقص الصيانة الكلية، وضعف طاقة التكرير، فضلًا عن هروب الموظفين التقنيين إلى الدول الأخرى، مما نتج عنه هبوط الإنتاج.
وبطبيعة الحال أثر تراجع حجم الإنتاج على تراجع حجم صادرات فنزويلا من النفط من 1.7 مليون برميل يوميًا عام 2012 إلى 438 ألف برميل بحلول نهاية العام الماضي، كما يتبين من الشكل أدناه:
الشكل 3- الصادرات الفنزويلية من النفط (ألف برميل يوميًا)
Source: OPEC, Annual Statistical Bulletin 2023.
وتعتبر الصين من أكبر مشتري النفط الفنزويلي بنسبة تبلغ نحو 23% حتى 2022 بواقع 100 ألف برميل يوميًا، لتستحوذ بذلك على النسبة الأكبر من صادرات النفط الفنزويلي بعدما كانت النسبة الأكبر منه تذهب إلى الهند والولايات المتحدة قبل فرض العقوبات.
تداعيات محدودة النطاق
من الممكن أن يساهم التقارب المحتمل بين الولايات المتحدة وفنزويلا في تحقيق مكاسب لكل منهما. فعلى الصعيد الأمريكي، قد يئول التحسن في العلاقات إلى تحقيق أهداف إدارة “بايدن” المتمثلة في تخفيف النفوذ الروسي في أمريكا اللاتينية، وعزل موسكو عن شركائها التقليدين، فضلًا عن احتمالية تشجيع تلك الخطوة البلدان الأخرى على أن تجد مصادر بديلة للطاقة الروسية، وأخيرًا الإفراج عن السجناء الأمريكيين في فنزويلا وضمان إجراء انتخابات نزيهة.
أما بالنسبة للمكاسب الفنزويلية، فمن المُرجح أن يؤدي رفع العقوبات الأمريكية أو تخفيفها إلى كسر العزلة الدولية المفروضة على الدولة الواقعة في أمريكا اللاتينية، مما قد يساهم في إنعاش الاقتصاد الفنزويلي بشكل طفيف -الذي انكمش بنحو 30% خلال عام 2020- والتخفيف من وطأة الأزمة الحادة التي يعاني منها، حيث بلغ معدل التضخم السنوي نحو 686.4% في عام 2021، وتجاوزت نسبة الأُسر التي تعيش تحت خط الفقر نسبة 90% منذ عام 2017، بالإضافة إلى ذلك، يعيش 64% من إجمالي الأُسر في ظروف الفقر المدقع بحلول 2020.
ورغم المنفعة المتبادلة التي قد تعود على الجانب الأمريكي والفنزويلي، إلا أن هناك بعض القيود التي يمكن أن تحول دون تحقيق هذه المكاسب، أو تقلل منها، والتي يُمكن استعراضها على النحو الآتي:
• إجراء قصير الأجل: رغم مساعي الولايات المتحدة لزيادة تدفق النفط الفنزويلي، إلا أنه من غير المتوقع أن تساهم تلك الخطوة في خفض أسعار النفط المتأثرة حاليًا بالحرب الدائرة في غزة، لا سيما في ظل تعليق العقوبات لمدة ستة أشهر فقط، وهي مدة غير كافية لتحفيز الإنتاج والاستثمارات في قطاع النفط على المدى الطويل، حيث إنه من الممكن إعادة فرض العقوبات في حالة عدم إحراز تقدمًا في ملف الانتخابات.
• تداعي قطاع النفط الفنزويلي: تشير التقديرات إلى أن فنزويلا لا تستطيع زيادة الإنتاج إلا بحوالي 200 ألف برميل يوميًا نظرًا لتهالك البنية التحتية لقطاع النفط، حيث أنتجت البلاد 770 ألف برميل يوميًا فقط حتى سبتمبر 2023، ورغم أن هذا المستوى يعتبر أعلى من نظيره المسجل في عام 2020 عند حوالي 569 ألف برميل يوميًا، كما يتبين من الشكل 2، إلا أنه لا يزال المستوى منخفض للغاية مقارنة بعام 2011 عند 2.8 مليون برميل يوميًا، لهذا، فإنه من المتوقع أن تحجم الشركات الأجنبية عن ضخ استثمارات في قطاع النفط.
• ضعف الخبرة الفنية: يتطلب زيادة إنتاج النفط الفنزويلي قدرًا كبيرًا من الاستثمارات والخبرة، حيث تعرضت شركة النفط الحكومية “بدفسا” لهروب جماعي للخبرة الفنية، بسبب قيام الرئيس السابق “هوجو شافيز” بطرد 19 ألف موظف في عام 2003 في أعقاب إضراب عام، من بينهم العاملون الفنيون والمهنيون والمهندسون ذوو المهارات العالية في الشركة مما أدى إلى قيامه بملء المناصب الشاغرة بالموالين للنظام.
• تمسك “أوبك+” بسياسة خفض الإنتاج الطوعي: أعلنت السعودية في الخامس من سبتمبر 2023 خطتها لتمديد الخفض التطوعي، البالغ مليون برميل يوميًا، والذي بدأ تطبيقه في شهر يوليو 2023، وتم تمديده ليشمل شهري أغسطس وسبتمبر، لثلاثة شهورٍ أخرى حتى نهاية شهر ديسمبر 2023، كما اتخذت روسيا قرارًا مماثلًا بتمديد الخفض التطوعي الإضافي من إمداداتها البالغة 300 ألف برميل يوميًا، حتى نهاية العام الجاري. وبشكل عام، أعلن أعضاء “أوبك +” يونيو 2023 عن خطط لتمديد خفض إنتاج النفط الخام حتى عام 2024، مما يحد من إمدادات النفط الخام العالمية، وهو ما ألقى بظلاله أيضًا على ارتفاع أسعار النفط العالمية.
ختامًا، يتبين من التحليل السابق أن تعليق العقوبات الأمريكية على قطاع النفط الفنزويلي بشكل مؤقت لن يساهم في زيادة الإمدادات النفطية العالمية وخفض الأسعار، بسبب انهيار قطاع النفط، وعدم قدرته على زيادة قدرته الإنتاجية، ومعاناته من نقص الخبرة الفنية والمهنية.