منذ توليه رئاسة الوزراء، في أبريل 2018، مثلت علاقة أبيي أحمد بالمؤسسة العسكرية أحد أكثر الملفات صعوبة. فتاريخيًّا تلعب المؤسسة العسكرية في إثيوبيا دورًا رئيسيًّا في الحياة السياسية، إما بتثبيت الحكم القائم، أو بإزاحته. وخلال حكم الجبهة الديمقراطية الثورية EPRDF ترسّخت بعض التقاليد المحدِّدة لعلاقة السياسي بالعسكري في إثيوبيا، تمثّلت في أربعة تقاليد أساسية.
الأول- سيطرة جماعة تيجراي على المناصب العسكرية القيادية في البلاد لأسباب تتعلق بالظرف التاريخي لسقوط منجستو، ووصول “ميليس زيناوي” للحكم، وبما يفوق حجمها العددي، وبما يفوق سيطرتها على المناصب السياسية.
الثاني- تمتع الجيش بقاعدة اقتصادية ضخمة، مثلت أحد أسباب الطفرة التي حققتها إثيوبيا في معدلات النمو الاقتصادي في ظل تبني سياسات الاقتصاد المركزي. كما مُنحت المؤسسة العسكرية قدرًا من الاستقلالية في مواجهة القيادة السياسية، خاصة بعد رحيل “ميليس زيناوي”.
الثالث- هو الدور الرئيسي للمؤسسة العسكرية في احتواء المشكلات الداخلية. ظهر ذلك في عهد “ميليس زيناوي” بعد انتخابات 2005، وفي عهد “ديسالين” بالإعلان المتكرر عن حالة الطوارئ في مواجهة الاحتجاجات الشعبية.
الرابع- اعتماد إثيوبيا المفرط على الأداة العسكرية في تنفيذ سياساتها الإقليمية، سواء عبر صراعاتها المتكررة مع إريتريا، أو حملتها العسكرية على الصومال.
وبينما أحدثت الكثير من القرارات السياسية لـ”أبيي أحمد” قطيعةً مع ممارسات تقليدية سابقة؛ تُظهر سياساته تجاه المؤسسة العسكرية منذ توليه الحكم موقفًا أقلّ “ثورية”، بما يجعل من تقييم هذه السياسات مفتاحًا لاستشراف مستقبل إثيوبيا على نحوٍ أكثر موضوعية.
وبشكل عام، نطرح هنا خمسة محاور أساسية لسياسات “أبيي أحمد” تجاه المؤسسة العسكرية الإثيوبية، نناقشها فيما يلي.
أولًا: التدخل الحذر لتغيير القيادات العسكرية
كان اجتماع اللجنة التنفيذية للجبهة الديمقراطية الثورية، في الخامس من يونيو 2018، بداية انخراط “أبيي أحمد” في معالجة قضايا المؤسسة العسكرية، حيث أعقب هذا الاجتماع الإعلان عن تغييرات في القيادات العليا للمؤسسة. ففي حضور رئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية، تم تكريم الجنرال “سامورا محمد يونس” الذي شغل منصب رئيس أركان قوات الدفاع الوطني الإثيوبية منذ عام 2001، والإعلان عن خلافة الجنرال “سياري ميكونين” له الذي سبق وأن شغل منصب قائد المنطقة العسكرية الشمالية ورئيس هيئة التدريب بالقوات المسلحة الإثيوبية. كما أُعلن عن إنهاء رئاسة “جيتاشيو أسيفا” لجهاز الأمن والاستخبارات الوطني الذي شغل منصبه منذ عام 2001 ليحل محله الجنرال “آدم محمد” نائب رئيس الأركان، في إجراء يعكس ارتباط الجهاز بالمؤسسة العسكرية، وهو ما يؤكده تعاقب القيادات العسكرية حصرًا على رئاسة الجهاز.
وعكست عملية تغيير القيادات العسكرية الكثير من الحذر من جانب “أبيي أحمد”، حيث لم تعنِ هذه التغييرات تخليه عن ضمان التوازنات التقليدية التي تتبناها “الجبهة الديمقراطية الثورية” بين الجماعات الإثنية، والتي تمنح جماعة تيجراي العديد من المزايا التي تفوق وزنها العددي بكثير. بل جاءت في الكثير من جوانبها معززة لهذه التوازنات. فمنذ عام 1991، سيطرت جماعة التيجراي على المناصب العسكرية العليا، وفي مقدمتها منصب رئيس الأركان. وبعد أن تولّى اللواء “تسادكان جبريتينساي” المنصب منذ سقوط “منجستو” عام 1991 وحتى عام 2001، جاء خلفه “سامورا محمد يونس” ليستمر في المنصب حتى عام 2018. وجاء تغيير القيادة العسكرية في عهد “أبيي أحمد” استمرارًا لذات التوجه، بعد أن تولى “سياري ميكونين” رئاسة الأركان ليصبح ثالث رئيس أركان على التوالي ينتمي لجماعة تيجراي.
وقد قوبلت هذه التغييرات بقدر كبير من الارتياح، خاصة أنها تُحقق شكلًا آخر من التوازن بين المكونات الإثيوبية؛ ففي ظل وجود “أبيي أحمد” في رئاسة الوزراء، تأتي إزاحة الجنرال “سامورا يونس” المسلم أيضًا، والقدوم برئيس للأركان من المكون المسيحي الأرثوذكسي للحفاظ على قدر من التوازن في توزيع المناصب بين الجماعات الدينية الرئيسية في إثيوبيا.
وجاء اختيار “أبيي أحمد” لـ”عائشة محمد موسى” لمنصب وزير الدفاع ليمثل صورة من صور الاستمرارية في سياسات “الجبهة الديمقراطية الثورية”. وبجانب كونها أول وزيرة للدفاع في تاريخ البلاد، تنتمي “عائشة محمد موسى” لجماعة العفر، كي يستمر إسناد منصب وزير الدفاع لساسة لا ينتمون لجماعة تيجراي التي تخلت عن هذا المنصب منذ عام 2000 ليتعاقب أربعة وزراء على المنصب، من بينهم ثلاثة أوروميين، وآخر ينتمي للجماعات الجنوبية. ويرجع هذا “الانفتاح” في اختيار وزراء الدفاع من خلفيات مدنية ومن خارج التيجراي نتيجة لطبيعة المنصب التي يغلب عليها الطابع السياسي بعيدًا عن الجوانب العسكرية، وليظل منصب رئيس الأركان هو مركز الثقل الحقيقي في المؤسسة العسكرية الإثيوبية.
ثانيًا: الإصلاح المؤسسي
شهدت الشهور الأخيرة عددًا من المؤشرات كونت لدى “أبيي أحمد” دافعًا كبيرًا لإطلاق سلسلة من التغييرات المؤسسية في القوات المسلحة، كان هدفها الرئيسي استعادة سيطرته على المؤسسة العسكرية التي بدت محلًّا للصراع بين حرس قديم وآخر جديد.
وقد كان التمرد المحدود للقوات الخاصة هو الدافع الأكبر وراء سياسات إعادة الهيكلة تلك. ففي العاشر من أكتوبر 2018، حاصر أكثر من 200 عنصر من قوات أجازي الخاصة (فرع القوات الخاصة الرئيسي في الجيش الإثيوبي) مقر رئيس الوزراء الإثيوبي، مرتدين زيهم الرسمي ومسلحين بأسلحتهم المعتادة، ومن بينها رشاشات آلية وبنادق قنص، مطالبين بعقد لقاء فوري مع “أبيي أحمد” للتعبير عن سخطهم بشأن عدد من المشكلات المتعلقة بإدارة العمليات العسكرية، وأخرى تتعلق بالمطالب المالية، قبل أن يتمكن “أبيي أحمد” من احتواء الموقف بعد خروجه للقاء الجنود.
وبعد أسبوع من هذه الواقعة، ألقى “أبيي أحمد” خطابًا في البرلمان الإثيوبي علق فيه على تحرك القوات الخاصة، واصفًا إياه بأنه “غير دستوري وغير قانوني”، وأنه كان بغرض “إجهاض الإصلاحات في إثيوبيا”، معتبرًا أن هذه الأحداث كانت بهدف اغتياله على يد بعض المشاركين في التحرك، متهمًا مجموعة من بضع قادة عسكريين بالتخطيط للتمرد. كما أعلن رئيس الأركان “سياري ميكونين” أن الضباط المسئولين عن تحريك هذه المسيرة “غير الدستورية وغير الأخلاقية” تم إلقاء القبض عليهم لينالوا العقوبات القانونية القصوى، قبل أن تصدر ضدهم أحكام مشددة في يناير من عام 2019.
وفي أعقاب هذه الواقعة، تعددت مبادرات رئيس الوزراء الإثيوبي الرامية لإعادة هيكلة القوات المسلحة الإثيوبية على نحو يؤمّن له السيطرة. كان من بين هذه المبادرات المبكرة تأسيس فرع جديد للقوات الخاصة يحمل اسم “الحرس الجمهوري” يتولى توفير الحماية اللازمة لكبار المسئولين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء. واتساقًا مع توجهه الحذر، حرص “أبيي أحمد” على أن يتم الإعلان عن الإصلاحات المزمع إجراؤها من داخل المؤسسة ذاتها.
وفي مناسبة نادرة، عقد عدد من كبار القادة العسكريين مؤتمرًا صحفيًّا في الثالث عشر من ديسمبر الماضي في نادي ضباط الجيش للإعلان عن إطلاق عملية موسعة لإصلاح المؤسسة العسكرية. وضمت قائمة القادة المشاركين خمسة جنرالات هم: قادة المناطق الشمالية، والغربية، والشرقية، ورئيس الاستخبارات العسكرية، وقائد العمليات الخاصة. وقد ركزت الإصلاحات على عدد من المحاور تضمنت: الالتزام بالدستور والحياد السياسي، وتأكيد الالتزام بالقواعد المؤسسية بعيدًا عن المصالح الشخصية، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وبناء القدرات عبر تطوير التدريب وتعيين الأشخاص الأكثر كفاءة، وتطوير القدرات القتالية من خلال تحديث مستوى التسليح ونوعه.
ثالثًا: انتشار القوات المسلحة داخل إثيوبيا
اعتمد رئيس الوزراء السابق “هايلي ماريام ديسالين” سياسات المواجهة المباشرة مع الحركات الاحتجاجية منذ عام 2015، والتي لعبت المؤسسة العسكرية الدور الأبرز فيها في ظل عجز مؤسسات الأمن الفيدرالية وانحياز أجهزة الشرطة الإقليمية في الكثير من الحالات للتحركات الشعبية. ومنذ وصوله للسلطة، تبنى “أبيي أحمد” سياسات كان من المفترض أن تُخفف من الضغوط الواقعة على المؤسسة العسكرية عبر تقليل حجم المهام الموكلة إليها، سواء بإقرار التهدئة على الحدود الإثيوبية- الإريترية إثر توقيع اتفاق سلام، أو برفع حالة الطوارئ وما كانت تتضمنه من مهام وأعباء إضافية على القوات المسلحة. لكن في مواجهة الأوضاع غير المستقرة في الداخل والخارج، اضطر “أبيي أحمد” إلى إلزام القوات المسلحة بحالة من الانتشار المفرط Overstretch ضاعفت من أعباء المؤسسة العسكرية.
وعلى أرض الواقع، تعددت الصراعات الداخلية، خاصة بين جماعة أورومو وجماعات أخرى، والتي خلّفت في بضعة أشهر أكثر من 2,4 مليون نازح. وتجلت أهمية القوات المسلحة في احتواء الأوضاع الداخلية المعقدة في إعلان وزيرة الدفاع الإثيوبية انخراط القوات المسلحة الإثيوبية في عملية موسعة تشمل مختلف أنحاء البلاد تستهدف إعادة تأهيل النازحين من أجل ضمان السلم والاستقرار منذ مطلع العام الجاري.
وبينما كان من المتوقع أن يتراجع الضغط على المؤسسة العسكرية بعد توقيع الحكومة الإثيوبية عددًا من الاتفاقات مع الحركات المسلحة (مثل: جبهة تحرير أورومو، وجبهة تحرير أوجادين)، مثلت هذه الاتفاقات عبئًا جديدًا على القوات المسلحة في الإشراف على تطبيق بنود نزع السلاح، والتي استدعت تدخلًا مباشرًا في الثالث عشر من يناير 2019، تضمّن توجيه ضربات جوية استهدفت معسكرات الجناح المسلح من جبهة تحرير أورومو في غرب إقليم أوروميا، والتي أسسها مؤخرًا عدد من المقاتلين العائدين من منفاهم في إريتريا والمتهمين بالضلوع في عدد من الأنشطة الإجرامية، من بينها السطو على 18 فرعًا لعدد من البنوك في إقليم أوروميا. وقد أعقبت الضربات الجوية إطلاق القوات المسلحة حملة أمنية موسعة أسفرت عن إلقاء القبض على 835 مقاتلًا تابعًا للجبهة في غياب واضح للشرطة الفيدرالية وشرطة الإقليم.
حتى السلام مع إريتريا لم يخفف من أعباء القوات المسلحة الإثيوبية، بل أكسبها مزيدًا من التعقيد. فبينما تنفذ الوحدات الحدودية انسحابها المتفق عليه مع إريتريا كشرط لفتح الحدود وإقرار السلام بين الطرفين، قامت العديد من المجموعات الشبابية في ولاية تيجراي بقطع طريق العودة على شاحنات الجيش الناقلة للجنود لتنوب القوات المسلحة عن المؤسسات السياسية في تلقي احتجاجات جماعة تيجراي على شروط اتفاقية السلام مع إريتريا.
رابعًا: الاعتماد على الأداة العسكرية في السياسة الخارجية
بالإضافة إلى كلِّ ما سبق، فقد زاد من ضغط الانتشار المفرط في الداخل تأثر القوات المسلحة الإثيوبية بالتصاعد الملحوظ في نشاط جماعة شباب المجاهدين في الصومال، حيث تنتشر قوات إثيوبية في إطار بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم). ففي أكتوبر الماضي، أعلن تنظيم الشباب عن تمكنه من قتل نحو 30 جنديًّا إثيوبيًّا، أعقبها إعلان إثيوبي عن استهداف مقاتلي الجماعة بضربة جوية أوقعت 70 قتيلًا. وفي يناير الجاري (2019) أعلنت جماعة الشباب عن تمكنها من قتل عدد من الجنود الإثيوبيين في كمين نصبته في جنوب الصومال، أعقبه إعلان القوات المسلحة الإثيوبية الاستعداد لتوجيه هجوم “هائل” على معاقل جماعة الشباب. وفي ظل ما تتمتع به جماعة الشباب من قدرات قتالية في الوقت الراهن، ينتظر أن يمثل تصاعد المواجهة مع الجيش الإثيوبي ضغطًا إضافيًّا عليه في المستقبل.
وإذا كان قرار التوسع في عمليات الجيش الإثيوبي في الصومال قرارًا اضطراريًّا فرضه تصاعد نشاط جماعة شباب المجاهدين، فإن مؤشرات أخرى تؤكد تبني أبيي أحمد استراتيجية العودة لعسكرة السياسة الخارجية الإثيوبية. ففي خطابها أمام مجلس نواب الشعب أعلنت وزيرة الدفاع “عائشة محمد موسى”، في الثامن من يناير 2019، إطلاق عملية إعادة هيكلة للقوات المسلحة تتضمن عددًا من الإجراءات، من بينها تقليص عدد القيادات الإقليمية من ست قيادات إلى أربع، واستحداث قوتين جديدتين في القوات المسلحة الإثيوبية، إحداهما القوات البحرية، والأخرى قوات الحرب السيبرانية والفضاء.
ويأتي مشروع “إحياء” القوات البحرية الإثيوبية نتيجة للتطورات الإقليمية في البحر الأحمر؛ فمنذ عام 1991 تم إيقاف عمل القوات البحرية الإثيوبية بعد الاستقلال الفعلي لإريتريا، قبل أن يُعلن حل هذه القوات رسميًّا في عام 1996. وتبرر إثيوبيا مشروع إعادة تأسيس القوات البحرية بالتواجد العسكري القائم حاليًّا للعديد من القوى الدولية والإقليمية في البحر الأحمر الذي تتعاظم أهميته بالنسبة لإثيوبيا التي أصبحت دولة حبيسة منذ استقلال إريتريا. ووفق تصريحات وزيرة الدفاع الإثيوبية، فإن إثيوبيا شرعت فعلًا في مراجعة هيكل القوات البحرية الفرنسية والكينية كمرجعية للقوات المزمع تأسيسها.
وفي المحصّلة، عكست سياسات “أبيي أحمد” تجاه المؤسسة العسكرية اتصالًا كبيرًا بالتقاليد الإثيوبية، بالرغم من وجود بعض مظاهر التغيير. فباستثناء تقليص القدرات الاقتصادية للمؤسسة العسكرية، حافظ “أبيي أحمد” على “قواعد” اختيار القيادات العسكرية التي ورثها عن سلفيه “زيناوي” و”ديسالين”، كما تزايد اعتماده على المؤسسة العسكرية في معالجة مشكلاته الداخلية السياسية والاجتماعية، فضلًا عن سعيه لاستعادة دور الأداة العسكرية في السياسة الخارجية الإثيوبية بعد تراجع سببته الأزمات الداخلية.