مثّل تاريخُ السابع والعشرين من أكتوبر المنصرم، نقطة تحول مهمة على مستوى التصعيد الإسرائيلي تجاه قطاع غزة، وذلك مع شروع إسرائيل في تنفيذ عملياتها البرية داخل القطاع، وهي العمليات التي أقرت الولايات المتحدة نفسها أنها “غير محددة الأهداف”. ومع مرور نحو 13 يومًا على بدء العمليات البرية الإسرائيلية في غزة، وما تبعها من تداعيات إنسانية كارثية، يتصاعد تساؤل رئيسي حول مدى قدرة إسرائيل على تنفيذ أهدافها المعلنة من جرّاء هذه العمليات، سواءً ما يتعلق بتدمير القدرات العسكرية والبنى التحتية الخاصة بالفصائل الفلسطينية، أو إنهاء النفوذ السياسي لهذه الفصائل داخل غزة، خصوصًا وأن المؤشرات الحالية تشي بأن أيًا من هذه الأهداف لم يتحقق؛ بل إنّ المعطيات الراهنة تعبر عن تنامٍ ملحوظ في الخسائر التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي على الأرض.
محاور العملية الإسرائيلية في قطاع غزة
ركزت العمليات الإسرائيلية التي اندلعت في قطاع غزة ردًا على عملية “طوفان الأقصى” على القصف الجوي العنيف على مناطق القطاع المختلفة ومحافظاته، بما يضمن تهيئة الأوضاع وتوفير غطاء جوي للعملية البرية، التي تم تدشينها بالفعل في 27 أكتوبر، ويمكن تناول أبعاد المقاربة العملياتية الإسرائيلية في قطاع غزة، وذلك على النحو التالي:
1- تكثيف القصف الجوي للقطاع: قامت المقاربة العملياتية الإسرائيلية في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر وحتى اللحظة، على تكثيف القصف الجوي على كافة مناطق القطاع شمالًا ووسطًا وجنوبًا، وقد اتسم القصف الإسرائيلي على قطاع غزة في الفترات الماضية بأنه غير مسبوق ومختلف عن ما شهدته أي مواجهات سابقة بين الجانبين، خصوصًا مع استخدام إسرائيل لقنابل ذات أوزان أكبر مما كان يستخدم سابقًا، حتى أن بعض الدوائر تحدثت عن استخدام إسرائيل للقنبلة الأمريكية المعروفة باسم “أم القنابل”، وهي القنبلة ذات التأثير التدميري الضخم، فضلًا عن استخدام قنابل ارتجاجية، في مسعى لاستهداف البنى التحتية لفصائل المقاومة وأنفاقها.
وبشكل عام سعت إسرائيل عبر هذا القصف العنيف على قطاع غزة، تحقيق جملة من الأهداف ومنها: تدمير أكبر قدر ممكن من البنى التحتية للفصائل الفلسطينية أو المراكز اللوجستية التي تستخدمها، كذلك سعت إسرائيل عبر هذا القصف العنيف إلى تمهيد الأجواء لوجستيًا على الأرض للعمليات البرية، سواءً على مستوى الدفع باتجاه نزوح الفلسطينيين قسرًا نحو الجنوب، أو توفير غطاء جوي للعمليات البرية، فضلًا عن تمهيد هذا القصف لتوسيع العمليات البرية لتشمل مناطق الوسط والجنوب، أيضًا يبدو أن إسرائيل سعت عبر القصف العنيف على غزة إلى حرمان المقاتلين الفلسطينيين من أي قدرة على القتال والحركة، وإجبارهم على التمترس.
2- القطع “الجزئي” لمنظومة الاتصالات: اعتمدت إسرائيل في إطار مقاربتها العملياتية داخل قطاع غزة، على القطع “الجزئي” لمنظومة الاتصالات والإنترنت داخل القطاع، بمعنى قطع الاتصالات في بعض الأوقات وإعادتها لاحقًا، وقد كان آخر هذه المرات في 5 نوفمبر، حيث قطعت إسرائيل خدمات الاتصال عن القطاع للمرة الثالثة، ويبدو أن قطع منظومة الاتصالات كان يرتبط على الأرجح بتنفيذ بعض عمليات القصف العنيفة داخل غزة، في مسعى للتغطية على الجرائم الإسرائيلية داخل القطاع، فضلًا عن ارتباط عمليات قطع منظومة الاتصالات في بعض الأوقات بالسعي للتعتيم على الخسائر الإسرائيلية، لكن الواضح أن إسرائيل تعتمد على القطع الجزئي لمنظومة الاتصالات وليس الكامل، فيما يبدو أنه رهان على توظيف هذه المنظومة التي تسيطر عليها بشكل كامل، من أجل تنفيذ أهداف تجسسية واستخباراتية، من خلال جمع المعلومات عبر البصمات الصوتية والتتبع الجغرافي، إضافة إلى التنصت على المكالمات بشكل أوتوماتيكي ومحاولة التعرف إلى أي محتوى أمني أو عسكري أو حتى اجتماعي.
3- عمليات برية على أكثر من مستوى: عقب عمليات قصف عنيفة طالت كافة مناطق قطاع غزة، شرعت إسرائيل منذ 27 أكتوبر في تنفيذ عمليات برية تجاه قطاع غزة، وقد اتسمت هذه العمليات بالتدرج، بمعنى أنها اتخذت منحى تصاعديًا تدريجيًا، حيث بدأت العمليات البرية من مناطق الشمال، سواءً الشمالي الغربي من ناحية بيت لاهيا، أو الشمال الشرقي من ناحية بيت حانون، ولاحقًا بدأت إسرائيل في تركيز عملياتها البرية على منطقة الوسط جنوب مدينة غزة شمال جحر الديك وشمال وادي غزة، ووصلت القوات الإسرائيلية في أكثر من مرة إلى محور صلاح الدين، وسعت من خلاله إلى الوصول إلى طريق الرشيد الساحلي، وعلى مدار الأيام الماضية كثفت إسرائيل من مساعي التوغل البري عبر الجنوب.
ويبدو أن التحركات البرية الإسرائيلية اعتمدت على الغطاء الجوي الذي يوفره القصف العنيف لقطاع غزة، وسعت إسرائيل من خلالها إلى تطويق القطاع، فضلًا عن الدخول إلى عمق القطاع، وفصل شمال القطاع عن جنوبه، وهو ما أكدته تصريحات المسئولين الإسرائيليين أنفسهم، لكن مدى نجاح هذه المساعي على مستوى تثبيت تمركز القوات الإسرائيلية داخل عمق القطاع، لم يتأكد حتى اللحظة، خصوصًا في ضوء المعارك الضارية التي تجري بين القوات المتوغلة وبين الفصائل الفلسطينية.
4- تبني سياسات التهجير القسري: لعل الاختلاف الرئيسي في نمط التصعيد الإسرائيلي الراهن تجاه قطاع غزة، يرتبط في أحد أبعاده بطبيعة الأهداف التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها، وخصوصًا ما يتعلق بتهجير الفلسطينيين نحو الجنوب ومنه إلى مصر، كجزء من مساعي إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية، وفي هذا السياق عمدت إسرائيل منذ اليوم الأول إلى تبني مخططات تهجير للفلسطينيين، تقوم على توجيه التحذيرات المتكررة لهم للتوجه نحو مناطق الجنوب، وقد كانت التحذيرات الإسرائيلية في البداية تركز على توجيه الفلسطينيين نحو جنوب وادي غزة، إلا أن التحذيرات الإسرائيلية في الأيام الماضية كانت تدعو الفلسطينيين للتوجه نحو منطقة “المواصي” والتي تبعد 6 كم فقط عن الحدود المصرية، كذلك اعتمدت إسرائيل على تكثيف القصف في مناطق الشمال والوسط من أجل دفع الفلسطينيين بالقوة نحو النزوح.
5- سياسة استهداف المستشفيات: ركزت إسرائيل في إطار عملياتها داخل قطاع غزة على قصف المستشفيات، وهو ما تجسد في المجازر التي ارتُكبت نتيجة قصف مستشفيات كالأهلي المعمداني، والمستشفى الإندونيسي، ومجمع الشفاء الطبي، والعديد من المستشفيات داخل القطاع، وقد قامت السردية الإسرائيلية في هذا الصدد على ادعاء أن الفصائل الفلسطينية أقامت أنفاقًا تحت هذه المستشفيات، لكن هذا القصف الإسرائيلي ضد المستشفيات استهدف ما هو أبعد من ذلك، إذ أن هذه المستشفيات كانت تأوي إلى جانب الجرحى آلاف النازحين الفلسطينيين الذين احتموا بالمستشفيات اعتقادًا بأنه لن يتم قصفها، ما دفع هؤلاء إلى النزوح نحو المناطق الجنوبية من القطاع، فضلًا عن أن استهداف المستشفيات يأتي في إطار سياسة الضغوط القصوى التي تتبناها إسرائيل تجاه الفلسطينيين في غزة.
أنماط تعاطي الفصائل الفلسطينية مع العمليات الإسرائيلية
تبنت الفصائل الفلسطينية في مواجهة التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق تجاه قطاع غزة، مقاربة متعددة المستويات، ركزت من جانب على وقف عمليات التوغل البري الإسرائيلي داخل القطاع، أو منع تثبيت تمركز القوات الإسرائيلية في القطاع، ومن جانب آخر على تشتيت انتباه الجيش الإسرائيلي، واستنزافه عبر بعض العمليات النوعية، ويمكن تناول ملامح المقاربة العملياتية للفصائل الفلسطينية وذلك على النحو التالي:
1- رشقات صاروخية تجاه الأهداف الإسرائيلية: كان تركيز الفصائل الفلسطينية منذ بدء العمليات الإسرائيلية ضد غزة، منصبًا على الاعتماد على إطلاق الرشقات الصاروخية تجاه بعض الأهداف الإسرائيلية، سواءً الواقعة في نطاق غلاف غزة والذي تنتشر فيه المستوطنات الإسرائيلية، أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العمق الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والقبة الحديدية كانت تنجح في صد هذه الهجمات الصاروخية، إلا أن الفصائل الفلسطينية كانت تراهن على تكثيف هذه العمليات بما يساهم في تجاوزها للقبة الحديدية، فضلًا عن الرهان على التكلفة الكبيرة التي تتكبدها إسرائيل جرّاء تشغيل منظومات الدفاع الجوي.
2- الاشتباك من المسافة صفر: يمثل مصطلح “الاشتباك من المسافة صفر” أحد الملامح الرئيسية لاستراتيجية تعامل الفصائل الفلسطينية مع عمليات التوغل البري الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، في إشارة إلى عمليات الاشتباك المباشر مع القوات الإسرائيلية المتوغلة داخل القطاع، وقد اعتمدت الفصائل الفلسطينية على هذا النمط من العمليات كأداة رئيسية لمواجهة القوات الإسرائيلية المتقدمة في قطاع غزة، ويُعتمد في هذا السياق على الأنفاق المنتشرة في قطاع غزة، كآلية رئيسية لتنفيذ هذه الاستراتيجية، خصوصًا فيما يتعلق بنصب الكمائن للقوات المتوغلة.
3- تنفيذ بعض العمليات النوعية: اعتمدت الفصائل الفلسطينية في إطار سياسة الإرباك التي تتبناها تجاه الجانب الإسرائيلي على تنفيذ بعض العمليات النوعية متعددة الأنماط، سواءً ما يتعلق بتدمير الآليات الإسرائيلية المتوغلة عبر قذائف الهاون وصواريخ “كورنيت” الروسية المضادة للدبابات، وأثبتت تلك الصواريخ الموجهة بالليزر فاعليتها ضد دبابات ميركافا الإسرائيلية والتي توصف بـ “دبابة القرن”، فضلًا عن قذائف الياسين 105، وهي قذائف آر بي جي محلية الصنع والمضادة للدروع ذات القدرة التدميرية العالية، والتي استخدمتها حماس في تدمير بعض الآليات والدبابات الإسرائيلية بشكل كلي أو جزئي.
وفي إطار العمليات النوعية ركزت كتائب القسام على تنفيذ عمليات إنزال لبعض مقاتليها خلف الخطوط الإسرائيلية، وهو ما تجسد بشكل واضح في تنفيذ عمليات إنزال أكثر من مرة قرب معبر “إيريز” ناحية غلاف غزة، وهي العمليات التي أدت إلى قتل بعض الجنود الإسرائيليين، ويمكن تفسير تكرر هذه العملية في ضوء فرضيتين رئيسيتين، الأولى أن هذه العمليات تمت عبر أحد الأنفاق التي تصل إلى مستوطنات الغلاف الحدودي، أو أنها تمت عبر مقاتلين كانوا لا يزالون متمركزين في مناطق الغلاف الحدودي منذ 7 أكتوبر.
كذلك نفذت كتائب القسام في 24 أكتوبر عملية إنزال لنحو 15 من مقاتليها من ناحية البحر في قاعدة “زيكيم” العسكرية الإسرائيلية، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة بين الجانبين، أفضت إلى مقتل بعض العناصر من الطرفين، ويبدو أن العمليات النوعية للفصائل الفلسطينية تستهدف بشكل عام تكبيد الجانب الإسرائيلي بعض الخسائر المادية والبشرية، فضلًا عن إحداث حالة ارتباك للقوات الإسرائيلية التي تركز على التوغل في غزة.
وفي الختام، يمكن القول إن المؤشرات الحالية تعكس في ظاهرها أن القوات الإسرائيلية متقدمة عملياتيًا بشكل نسبي داخل قطاع غزة؛ لكن الواقع العملي والحسابات العسكرية تقول إننا أمام جيش نظامي يوصف بأنه واحد من أقوى الجيوش في المنطقة، في مواجهة مجموعات مسلحة غير نظامية، وفي ضوء ذلك لم يستطع الجيش الإسرائيلي حتى اللحظة تحقيق أي أهداف عملياتية كان يضعها، خصوصًا مع عدم قدرته على تحقيق الاجتياح البري الكامل للقطاع، أو حتى تكبيد الفصائل الفلسطينية خسائر كبيرة تقضي على الوجود العسكري والسياسي لها، على اعتبار أن كافة الضحايا الفلسطينيين هم من فئة المدنيين، خصوصًا الأطفال والنساء، وهذا لا يعد إنجازًا عسكريًا، وإنما يدخل في إطار جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
———–
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية