حمَلَ المؤتمر العادي الثامن والثلاثين لحزب الشعب الجمهوري التركي – حزب المعارضة الرئيسي – الذي انعقد يومي 4 و5 نوفمبر الجاري، رياح التغيير التي باتت مطلبًا رئيسيًا يهيمن على التراشقات والسجالات السياسية لنخبة الحزب الذي يُعرف نفسه باعتباره الوريث الشرعي لجمهورية أتاتورك وحامل لواء الأيديولوجية الكمالية، عقب الهزيمة التي مُني بها خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المنعقدة في مايو 2023، وهي انتخابات شكلت فرصة تاريخية ضائعة للمعارضة، وبالوقت نفسه وضعت حدًا للمسيرة والطموحات السياسية لقائده السابق كمال كيليجدار أوغلو الذي حُمِّلَ مسئولية السياسية للهزيمة من قِبل قيادات الحزب وقواعده الشعبية، إذ أسفرت انتخابات رئاسة الحزب عن فوز منافسه أوزغور أوزيل، بعد حصوله على 812 صوتًا مقابل 536 صوتًا لكيليجدار أوغلو خلال الجولة الثانية من الانتخابات.
من هو أوزغور أوزيل؟
أوزغور أوزيل هو سياسي صيدلي من مواليد عام 1974 بمقاطعة مانيسا، ويُعد أحد الأسماء المهمة في السياسة التركية. وعمل في بداية حياته المهنية صيدليًّا حيث تم انتخابه عضوًا باللجنة المركزية لاتحاد الصيادلة الأتراك (TEB) خلال الانتخابات التي أجريت في ديسمبر 2007 و2009، وشغل منصب أمين الصندوق لفترة واحدة، وأمينًا عامًا لفترتين في جمعية الصيادلة الأتراك، واستقال من منصبه في مارس 2011 ليصبح مرشحًا لمجلس النواب.
بدأ أوزيل مسيرته السياسية نائبًا للحزب عن مقاطعة مانيسا في الانتخابات العامة التي أجريت في 12 يونيو 2011، حيث مثَّل المقاطعة في الدورات 24، و25، و26، و27، و28 للجمعية العامة، شغل خلالها عضوية لجنة الصحة والأسرة والعمل والشئون الاجتماعية، ولجنة التحقيق في حوادث الألغام SOMA، ولجنة المراقبة والتحقيق في سجون حزب الشعب الجمهوري، ولجنة التحقيق في مشاكل الطلاب والجامعات التابعة لحزب الشعب الجمهوري، ولجنة أبحاث التعدين، وتولى منصب نائب رئيس مجموعة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري خلال الدورات 25، و26، و27، (24 يونيو 2015 حتى 3 يونيو 2023) قبل أن يصبح رئيسًا للمجموعة البرلمانية للحزب خلال الدورة الحالية الـ 28.
وترشح أوزيل مرتين لعمُودية مقاطعة مانيسا عن حزب الشعب خلال الانتخابات المحلية عامي 2009 و2014 لكنه لم يفز في المرتين، لكن الجدير بالذكر أن الانتخابات البلدية لعام 2009 كانت بوابته للحياة السياسية. أما عن نشاطه داخل حزب الشعب الجمهوري، فقد تم انتخابه عضوًا في مجلس الحزب خلال المؤتمر الاستثنائي الـ 18، وشغل منصب مندوب مقاطعة مانيسا للحزب في المؤتمر العادي الـ 33 والمؤتمر الاستثنائي الـ 15. وخلال انتخابات رئاسة الحزب الأخيرة، حصل أوزيل على 682 صوتًا مقابل 664 صوتًا لكيليجدار أوغلو، بمعنى أنه كان على أعتاب الأصوات اللازمة للفوز بفارق صوتين، حيث يتعين على المرشح إحراز 684 صوتًا للفوز خلال الجولة الأولى، ما تطلب إجراء جولة ثانية حسمها أوزيل بواقع 812 صوتًا مقابل 536 صوتًا لمنافسه.
عوامل التغيير
تضافرت مجموعة من العوامل التي أسهمت في الإطاحة بكمال كيليجدار أوغلو عقب 13 عامًا من زعامة الحزب، ويُمكن استعراضها على النحو التالي:
• خسارة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية: كانت استحقاقات مايو 2023 بداية النهاية لمسيرة كيليجدار أوغلو السياسية حيث جرى تحميله نتائج الهزيمة اتصالًا بإصراره على ترشيح نفسه للرئاسة ممثلًا تحالف الطاولة السداسية رغم عدم أهليته الشخصية والسياسية وضعف فرص فوزه، وقطع الطريق أمام ترشيح شخصيات تمتلك فرصًا حقيقيًا للمنافسة والفوز أمثال منصور يافيش، وأكرم إمام أوغلو، وهو ما استدعى حقيقة أنه يسجل نصرًا انتخابيًا ضد أردوغان منذ أن أصبح رئيسًا لحزب الشعب الجمهوري الذي يمثل ربع الناخبين الأتراك عام 2010، باستثناء الانتصارات في الانتخابات المحلية لعام 2019 التي استولى فيها الحزب على البلديات الأكبر مثل إسطنبول وأنقرة.
• تنامي التيار المعارض: اتسمت المرحلة السابقة على الانتخابات بالتراشقات الحادة بين الفريق الذي يعتقد أنه حان وقت التغيير وإعطاء الفرصة لشخصيات جديدة ذات فكر جديدة تقود الحزب خلال المرحلة الحساسة المقبلة مع اقتراب الانتخابات المحلية الحاسمة، التي ستحدد مكانة الحزب في العملية السياسية خلال السنوات الخمس التالية، في ظل مساعي أردوغان وتحالف الشعب الحاكم إكمال انتصاراتهم الانتخابية باستعادة الولايات الكبرى التي خسروها خلال الانتخابات البلدية 2019 لصالح حزب الشعب الجمهوري، وبين كيليجدار أوغلو المتمسك بمنصبه رغم الإخفاقات العديدة وشعارات قبول التغيير التي يرفعها، ما حدا بالتيار المنادي للتغيير إلى تنظيم صفوفه.
• تغلغلت مطالب التغيير داخل صفوف مؤيدي الحزب: بدا لافتًا حدوث تحول في مزاج القواعد الشعبية والإعلامية لحزب الشعب الجمهوري عقب هزيمة الانتخابات، نتيجة خيبة الأمل التي شعرت بها شريحة كبيرة من المصوتين الذين اعتقدوا في فوز تحالف الأمة بقيادة كيليجدار أوغلو، وتنامي الغضب نتيجة إصرار أوغلو على الاحتفاظ بمنصبه زعيمًا للحزب بدلًا عن الانسحاب من الحياة السياسة، حيث أظهرت استطلاعات رأي ارتفاع المطالب بالتغيير بين الذين صوتوا لكيليجدار أوغلو في انتخابات مايو إلى 80%. كذلك، دعمت قنوات Halk TV وSözcü التلفزيونية محور أوزيل-إمام أوغلو بعدما دعمت علنًا كيليجدار أوغلو خلال الانتخابات السابقة.
• فاعلية الآليات الديمقراطية داخل الحزب: جاء عنوان مؤتمر الحزب الـ 38، “مؤتمر الديمقراطية والوحدة في القرن”، مُعبرًا بحق عن ثقافة سياسية ديمقراطية حقيقية داخل أروقة الحزب والتزامه بآليات الديمقراطية، واستجابته للتطلعات المتطورة لأعضائه ومؤيديه، حيث أُجريت الانتخابات في ظل مناخ ديمقراطي “ناضج” لم يشهد مظاهر للفوضى والعنف؛ فبينما صاحب دخول كيليجدار أوغلو للقاعة الخاصة بالمؤتمر هتافات مؤيدة وتشغيل أغاني داعمة، ردد أنصار أوزيل النداءات الداعية للتغيير. ويشكل التداول السلمي للسلطة داخل الحزب قمة مظاهر الديمقراطية، فهذه ليست المرة الأولى في تاريخ الحزب التي يتغير فيها القائد عبر الانتخابات بعكس الأحزاب الرئيسية التي يغيب عنها التنافسية ويتم انتخاب قادتها بالإجماع، كذلك تشهد مؤتمرات الحزب مناخًا سياسيًا حقيقيًا يتم في ضوئه التعبير عن الآراء والأفكار المتعارضة وتوجيه الانتقادات.
ملفان رئيسيان
بانتخاب أوزغور أوزيل يدخل حزب الشعب الجمهوري حقبة جديدة تتزامن مع مئوية تأسيسه الثانية، وينتظر أوزيل الرئيس الثامن للحزب ملفان رئيسيان يُشكلان أولوية خلال المرحلة المقبلة، نستعرضهما كالتالي:
• إدارة مشهد الانتخابات المحلية: طرح انتخاب أوزيل زعيمًا لحزب الشعب الجمهوري تساؤلات بشأن تداعياته على استراتيجية الحزب للانتخابات المحلية المقبلة المقررة في مارس 2024، كونها ستمثل الاختبار الأول لأوزيل والحزب خلال مئويته الثانية، وهنا يُقاس النجاح بقدرة الحزب –منفردًا أو عبر تشكيل تحالف انتخابي– في الاحتفاظ بالبلدات الكبرى التي يقودها حاليًا، وبالأخص إسطنبول وأنقرة وأزمير، واستقطاب قاعدة جماهيرية واسعة لانتزاع المزيد من البلدات التي يقودها حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم.
ويرتبط بذلك قدرة الحزب على إعادة تنشيط التعاون مع فصائل المعارضة الأخرى بما يُسفر عن إعادة تشكيل محتمل للتحالفات في المشهد الانتخابي المقبل، لا سيمَّا أن الإطاحة بكيليجدار أوغلو تفتح الباب أمام طرح إمكانية خوض حزب الشعب الجمهوري وحزب الجيد وحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد كتحالف على غرار الانتخابات المحلية لعام 2019، وهي الصيغة التي تراجعت احتمالاتها سابقًا نتيجة للاتهامات التي وجهتها ميرال أكشنار وبعض الشخصيات البارزة في الحزب بأن التحالف مع حزب الشعب أدى إلى خسارتهم للأصوات، لكن رسالة التهنئة التي أرسلتها أكشنار إلى أوزيل وتأكيد أوزيل على تبنيه سياسة “الباب المفتوح” والاتصال بأكشنار، ربما يضع الأساس للتعاون، ما يُمهد الطريق لبيئة انتخابية ديناميكية وتنافسية خلال الأشهر المقبلة تُمثل تحديًا حقيقيًا لحزب العدالة والتنمية.
• ترتيب البيت الداخلي: أمام أوزيل مهمة صعبة لرأب الصدع بين صفوف حزب الشعب وتعزيز الديمقراطية والتضامن داخله، وإعادة تنظيم تحالفاته واستراتيجيته الانتخابية، واستعادة ثقة قواعده الشعبية وتعبئتهم للمشاركة في الانتخابات المحلية المقبلة، كما يبدو أنه سيكون أيضًا على جدول الأعمال عودة أولئك الذين استقالوا اعتراضًا على سياسيات كيليجدار أوغلو. إضافة إلى ذلك، تعالت بعض الأصوات المنادية بالتحديد الدقيق لتوجه الحزب، ويجادل أصحابها بغياب التجانس عن الحزب حيث تتصارع مجموعتان رئيسيتان: أقلية ديمقراطية اشتراكية، وأغلبية قومية تتمسك بالأيديولوجية الكمالية القومية وتعارض محاولات تحديد توجه الحزب باليساري، رغم أن الكمالية أيديولوجية غير عالمية ما يصيب الحزب بالجمود المانع لمواكبة التحولات السياسية والاجتماعية العالمية، وكان لهذه الازدواجية تأثير سلبي على الاستراتيجيات الانتخابية –بحسب أصحاب هذا الرأي– فرغم محاولات كيليجدار أوغلو تقديم نموذج أكثر مرونة يشمل التعاون مع أحزاب ذات خلفيات مختلفة والحركة السياسية الكردية بشكل يمكنه من تحقيق نصر انتخابي خلال الانتخابات المحلية 2019، لم يقدم الحزب –خلال الانتخابات الأخيرة مثلًا– برنامجًا ديمقراطيًا اجتماعيًا متسقًا مبنيًا على خطاب أكثر ديمقراطية.
وعليه؛ تُجادل الكتابات الموالية للمعارضة التركية بضرورة إعادة التحديد الدقيق لتوجه الحزب، بحيث يقدم سردية يسارية تتسق مع التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العالمية التي طالت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية، يتم بُناءً عليها بناء برنامج للسياسات الخارجية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، حيث إن استمرار عدم التحديد الواضح لتوجه الحزب يُهدد بانتقال الديمقراطيين الاشتراكيين المتبقين في الحزب إلى حزب الشعب الديمقراطي، أو الأحزاب اليسارية الأخرى، أو إنشاء حزب جديد، وسوف يسود في الحزب النهج الذي يمجد الدولة العميقة والقومية دون الأخذ بالتطورات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع التركي.
ختامًا، لا يُمكن اعتبار تغيير قيادة حزب الشعب الجمهوري شأنًا تنظيميًا داخليًا يخص الحزب كون تأثيراته تمتد لمسار الحياة السياسية التركية، بمعنى أنه يساهم في تحديد توجه الحزب وأيديولوجيته، سواء بالثبات أو التغيير، ويحدد موقع الحزب في العملية السياسية التركية خلال السنوات المقبلة، كما يحمل تداعيات على أدواره داخل النظام السياسي واستراتيجيته خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وكذلك على صياغة تفاعلاته مع المكونات والتيارات السياسية الأخرى، انطلاقًا من ثقله باعتباره حزب المعارضة الرئيسي الذي يأتي تاليًا بعد تحالف الشعب الحاكم، ومن رمزيته التاريخية كونه الحزب المؤسس للجمهورية التركية الحديثة الذي أنشأه زعيمها كمال الدين أتاتورك.