تتجه أنظار العالم إلى ما يحدث في غزة منذ أكثر من شهر، مدفوعة بالهجوم المباغت التي قامت به حماس في السابع من أكتوبر الماضي، وخلّف خسائر بشرية إسرائيلية هي الأكبر في تاريخ المواجهات المتكررة منذ أكثر من عشرين عامًا بقطاع غزة، والتي نتج عنها تدمير مهول خلف أعدادًا غير مسبوقة من الضحايا في قطاع غزة، وتدميرًا طال كافة أوجه البنية التحتية الفلسطينية في قطاع غزة. وهو ما أكد على حقيقة كانت قد توارت لصالح مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا، وقبلها ثُلة من الأزمات العالمية الأخرى، كانتشار فيروس كورونا المستجد، والانسحاب الأمريكي من أفغانستان.. إلخ، وهي أهمية وتأثير مجريات ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط على العالم.
وفي ضوء ذلك، ستناقش الورقة أوضاع ما قبل الحرب الأخيرة على غزة، وأثر ذلك على أولوية حل القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية، وما ترتب على الحرب الأخيرة من تغيرات كبيرة على القضية الفلسطينية بشكل خاص، وعلى وضع منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
ما قبل الحرب الأخيرة على غزة
اتسمت المرحلة السابقة على الحرب الأخيرة على غزة، بملمحين أساسيين، هما:
أولًا- محاولات لفك الارتباط الأمريكي بالمنطقة، يقابله تسريع ودعم التطبيع مع إسرائيل:
تم اعتماد استراتيجية الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” عام 2010، لصالح التركيز على آسيا ومواجهة التهديد الصيني المتزايد. ولكن اعتماد تلك الاستراتيجية صحبه تخوفات أمريكية من استغلال الفراغ الأمريكي لصالح تنامي النفوذ الصيني والروسي والإيراني. ومن هنا أتت تحركات الإدارات الأمريكية المتعاقبة بأشكال مختلفة، سواء من حيث توقيع الاتفاق النووي الإيراني في عهد أوباما لتحجيم التهديد الإيراني، أو توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية والسعي لدمج إسرائيل في منظومة الأمن الإقليمي، والذي بدأ في عهد الرئيس السابق ترامب، وعزز هذا الاتجاه الرئيس الأمريكي الحالي، مع إعادة المحاولات للتهدئة مع إيران، بحيث يسهل المضي قدمًا في استراتيجية فك الارتباط، ولكن في خضم كل تلك التطورات كان هناك تصعيد مستمر وتشديد تجاه أي حلول سياسية للقضية الفلسطينية، مع عدم وجود أي ضغط أمريكي يُذكر للوصول لهذا الحل.
هذا التصعيد كان يُنذر بما يحدث حاليًا. ففي أواخر أغسطس الماضي، في حديث مع قناة إخبارية لبنانية، قال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس: إن سياسات الحكومة الإسرائيلية، خصوصًا ما وصفه بسياسة الاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية، ورغبة إسرائيل في التحكم بالمسجد الأقصى في القدس، قد تشعل حربًا إقليمية. وأفاد قائلًا: “إننا نتحضر لحرب شاملة، ونناقش بدقة مع الأطراف المعنية توقعات هذه الحرب”.
إلا أن مثل هذا الإنذار لم يبطئ مخططات التطبيع، وكذلك تعزيز اندماج إسرائيل بشكل أكبر في المنطقة، دون الضغط بشكل كبير حينها عليها للوصول لحل للقضية الفلسطينية. ففي سبتمبر الماضي أي بعد تلك المقابلة، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية بأن المملكة “تحقق تقدمًا” باتجاه التطبيع مع إسرائيل. وأضاف الأمير محمد بن سلمان قائلًا: “هناك دعم من إدارة الرئيس بايدن للوصول إلى تلك النقطة “. وببداية الشهر ذاته، تم توقيع اتفاقًا لمشروع “ممر” اقتصادي، للربط بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، على هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي. الاتفاق الذي وصفه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه “سيغير قواعد اللعبة”، وسيشمل الممر عددًا من المشروعات للسكك الحديدية وربط الموانئ البحرية، إلى جانب خطوط لنقل الكهرباء والهيدروجين، وكابلات نقل البيانات. هذا المشروع الذي كان سيربط الخليج بإسرائيل، بما عزز واقع أن الضغط لحل القضية كان يتوارى بشكل كبير، وسعي الولايات المتحدة لفك ارتباطها بالمنطقة، ولكنها بالوقت ذاته، كانت تؤسس لنظام يضمن مصالحها، ويضمن عدم ملء الصين وروسيا لأي مجال تتركه، مع عدم التركيز على حل القضية، أثناء سعيها لتنفيذ استراتيجيتها لفك الارتباط.
ثانيًا- الحرب على أوكرانيا والجدل حول النظام الدولي القائم على القواعد:
بالرغم من أغلب الدول صوتت على مشروعات قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تدين الحرب الروسية على أوكرانيا، وتؤكد على سيادة أوكرانيا على أراضيها، وتطالب روسيا بسحب قواتها من الأراضي الأوكرانية، وتحقيق سلام شامل وعادل وفقًا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة. فقد حظيت القرارات الثلاثة السابقة المتعلقة بالعدوان الروسي، التي صوّتت عليها الجمعية العامة بعدد أصوات يتراوح ما بين 140 و143 صوتًا، فيما صوّتت خمس دول بشكل دائم ضدها، هي: “روسيا، بيلاروسيا، سوريا، كوريا الشمالية، وأريتريا”، وامتنعت أقل من 40 دولة عن التصويت.
إلا أن الدول الغربية جادلت بأن اتجاه أغلب الدول للحياد وعدم دعمهم العقوبات الغربية على روسيا، يُعد أمرًا مهددًا للنظام الدولي القائم على القواعد المُستقاة من القانون الدولي، الذي أسس أعمال الكثير من المنظمات الدولية على رأسها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وتم اعتبار أن هذا الحياد دليل على تراجع مكانة الغرب لدى تلك الدول، ودعمهم للمحاولات الروسية الصينية لخلق نظام جديد تحدى تلك القواعد المتعارف عليها، والتي نظمت أعمال النظام الدولي بخاصة منذ انتهاء الحرب الباردة.
وخلّفت الحرب على أوكرانيا هذا الجدل من جهة، ومن جهة أخرى ساهمت في إضعاف الضغوط الغربية وبخاصة الأمريكية على أغلب القضايا ذات محل النزاع، وبخاصة الإقليمية مثل التهديدات الإيرانية أو انسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية، حيث سعت الولايات المتحدة ومن بعدها الدول الأوروبية للتركيز على التهديد الروسي على أوروبا، ومجابهته في أوكرانيا. وكذلك تعزيز القوى الأسيوية وكذلك الوجود الأمريكي في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، لمنع الصين من السعي لتكرار ما فعلته روسيا في أوكرانيا، ومحاولة تغيير الأوضاع والمصالح القائمة بالقوة. وفي ظل تلك التهديدات توارى -إن لم يكن انزوى تمامًا- الاهتمام بحل القضية الفلسطينية.
الحرب الأخيرة على غزة والعلاقة بين العالم والإقليم
أثارت هجمات حماس في غلاف غزة صدمة مدوية لدى العالم وبخاصة الغربي، وهو ما استتبع دعمًا غربيًا هائلًا لإسرائيل، والتأكيد على حقها في الدفاع عن نفسها، وتقديم مساندة دبلوماسية وعسكرية كبيرة لها لتحقيق هذا، إلا أنه ومنذ قامت إسرائيل بالقصف المستمر على قطاع غزة، ثم التدخل بريًا بالقطاع، وتعنتها في إدخال المساعدات له، مع سقوط أعداد هائلة من الضحايا في الجانب الفلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال، أدى لتغير في اتجاه هذا الدعم. ولم تقف نتائج تلك الحرب على غزة، على هذا التغير، بل شمل العديد من الجوانب الأخرى المؤثرة عالميًا، وإقليميًا، أبرزها:
- تأجيل مخططات الدمج الإسرائيلي بالمنطقة:
وفقًا لمارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ( ECFR ) في مقاله الأخير فإنه لسنوات عديدة، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعمل في ظل أوهام تحطمت الآن. وكان أكبرها هو توقع أن تتمكن إسرائيل من تطبيع العلاقات مع العالم العربي دون معالجة القضية الفلسطينية، والتي يعتقد على ما يبدو أنه يمكن ببساطة التخلص منها. وقد ظهرت أولى علامات التراجع عن مسار التطبيع، بعد الحرب على غزة من خلال التصريحات التي تؤكد على تعليق التطبيع الإسرائيلي السعودي على الرغم من جهود إدارة بايدن لتعزيز التقارب. بالإضافة لما قامت به البحرين، حيث أعلن مجلس النواب البحريني، في بيان له، إنه “يؤكد وقف العلاقات الاقتصادية البحرينية الإسرائيلية، ومغادرة السفير الإسرائيلي المنامة وعودة السفير البحريني من إسرائيل”. يأتي هذا في ظل احتجاجات شعبية متصاعدة في أغلب الدول العربية، ستجعل أي تعزيز للتقارب مع إسرائيل وبخاصة لدى الدول المطبعة حديثًا كالمغرب أمرًا في غاية الصعوبة. وبالتبعية فأي مخططات اقتصادية لدمج إسرائيل تتجاهل عدم الاستقرار الذي خلفته الحرب، يُعد أمرًا غير معقول، والمضي قدمًا في تلك المخططات يستلزم استقرارًا وأمنًا، أصبح من الصعب تخيله على المدى القريب والمتوسط في أحسن تقدير.
في الوقت ذاته، تصاعدت الدعوات الدولية لضرورة حل القضية الفلسطينية عن طريق التوصل لمسار سياسي يُحيي حل الدولتين. تلك الدعوات التي ترددت لدى كافة القوى السياسية الدولية على رأسها الولايات المتحدة برغم دعمها الكبير لإسرائيل. وعليه، فقد أعادت تلك الحرب الزخم للقضية الفلسطينية، ولكن المسار الذي ستسلكه مرهون لحد كبير بما ستخلفه الحرب الإسرائيلية على غزة، وكذلك حجم الضغوط الدولية والإقليمية على الجانب الإسرائيلي لإعادته للانخراط مرة أخرى في مسار التسوية السياسية، التي أصبح لا سبيل سواها في ظل التصعيد اللا متناهي بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وبخاصة في غزة.
- العودة الأمريكية للمنطقة:
سارعت الدول الغربية لدعم إسرائيل، ولكن برز التأثير الأكبر لهذا الدعم من قبل الولايات المتحدة. التي قامت في منتصف أكتوبر الماضي بإرسال حاملة الطائرات الهجومية “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور”، وقبلها أرسلت واشنطن أكبر حاملة طائرات في العالم، وهي “يو إس إس جيرالد آر فورد”. وفي 5 نوفمبر الجاري أعلنت القيادة المركزية العسكرية الأمريكية، وصول “غواصة من طراز أوهايو إلى الشرق الأوسط”، وقالت شبكة سي إن إن إنه “من النادر أن تنشر وزارة الدفاع معلومات عن تحركات غواصاتها الباليستية والصواريخ الموجهة، حيث تخضع السفن التي تعمل بالطاقة النووية لسرية شبه كاملة، كجزء من الثالوث النووي الأمريكي، بجانب صوامع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والقاذفات الاستراتيجية”.
هذا الدعم الكبير، أرجعته الولايات المتحدة لردعها أيًا من القوى الإقليمية للتدخل في الحرب على غزة، وبخاصة من قبل إيران ووكلائها، على رأسهم حزب الله. فقد سبق وقال وزير الدفاع لويد أوستن: “لقد وجهت المجموعة الهجومية لحاملة الطائرات “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور” بالبدء في التحرك إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وذلك في إطار جهودنا لردع الأعمال العدائية ضد إسرائيل، أو أي جهود تهدف إلى توسيع نطاق هذه الحرب في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل”.
هذا الدعم الذي طرح تساؤلات حول إعادة الوجود الأمريكي بالمنطقة مرة أخرى، وبالرغم من أننا لا نستطيع التوصل بشكل حازم لاستقرار تلك العودة. إلا أن هناك أصواتًا وكتابات غربية أكدت على ضرورة تلك العودة. فقد جادلت على سبيل المثال، سوزان مالوني، نائبة رئيس “برنامج السياسة الخارجية” ومديرة البرنامج في “معهد بروكينغز”، بمقال لها في فورين أفيرز أكتوبر الماضي. بأن هجوم “حماس” الصادم على إسرائيل آذن ببداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، ويجب أن تقوم على إنهاء الوهم بأن الولايات المتحدة قادرة على الانسحاب من منطقة هيمنت على أجندة الأمن القومي الأميركي طوال نصف القرن الماضي.
- تصاعد التساؤلات حول مصداقية الغرب فيما يخص النظام القائم على القواعد:
كان أبرز ما خلفته تلك الحرب على النظام الدولي، يخص ما طرحته من تساؤلات حول مصداقية الغرب في دعمهم لنظام قائم على القواعد، وكانت أبرز تلك التساؤلات، وللنقل بشكل أدق الاتهامات موجهة للجانب الأوروبي، الذي كان يتبع مسارًا أكثر دعمًا لحل القضية الفلسطينية قبل التصعيد الأخير على غزة، عن الجانب الأمريكي المنحاز بطبيعته لإسرائيل. وكذلك كان يُصّدر خطابًا عالميًا يؤكد على أهمية الحفاظ على النظام القائم على القواعد والقانون الدولي، وإنه من يحافظ على الأمن العالمي، واعتبره الأساس في دعمه لأوكرانيا. فلقد تحدث القادة الأوروبيون بصوت عالٍ دعمًا للقانون الدولي ردًا على العدوان الروسي على أوكرانيا. حيث اتهمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين روسيا بارتكاب “جرائم حرب” لمهاجمتها البنية التحتية الأوكرانية وقطع المياه والكهرباء عن سكانها المدنيين. ولكن كان هناك تردد في إعلان هذه المبادئ نفسها تجاه إسرائيل – كما كان واضحًا في رحلة فون دير لاين إلى لإسرائيل، حيث أعربت عن تضامنها الكامل، ولم تشر إلى الحاجة إلى الحفاظ على القانون الدولي.
وهو ما عزز النظر لأوروبا على أنها تطبق القانون الدولي فقط على من تعتبرهم أعدائها. وعزز هذا الانحياز الغربي، من المطالب الروسية والصينية بضرورة وجود نظام دولي متعدد الأقطاب، يواجه النظام الغربي المتحيز. ووجدوا في تلك الحرب فرصة، لتعزيز صورتهم الدولية على حساب التخاذل الغربي. فنجد أن الصين التي لم تسع للتعبير عن دعمها بشكل كبير لروسيا في حربها على أوكرانيا، وحاولت أن تبدو محايدة، قد سارعت إلى التعبير عن دعمها للفلسطينيين، وأبرزت حجم ازدواجية المعايير الغربية، وتبنت روسيا بالطبع خطابًا أقوى في هذا المضمار.
- بروز الانقسام في المعسكر الغربي:
وفقًا لتقرير لمجلة بوليتكو، فإنه في مختلف أنحاء الغرب، أن السياسيين الذين ينتمون إلى يسار الطيف السياسي هم الذين يعانون أكثر من غيرهم. موضحين بأنه حتى الآن كانت هناك نقطتان حاسمتان من نقاط التوتر التي تقسم اليسار، الأولى: الحاجة لوقف إطلاق النار للسماح بدخول المساعدات إلى غزة وخروج المدنيين، وثانيهما: إلى أي مدى ينبغي للقادة أن يذهبوا في انتقاد إسرائيل. وبينما يحاول زعماء الأحزاب اليسارية السير على خط رفيع، فإن الكثيرين في صفوفهم أكثر قسوة في انتقادهم للعمليات العسكرية التي يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في غزة، وأكثر حدة في المطالبة بوقف إطلاق النار.
فنجد أنه بالنسبة للملكة المتحدة، مع تقدم ثابت بفارق 18 نقطة في استطلاعات الرأي، بدا حزب العمال في المملكة المتحدة وكأنه رهان شبه مؤكد للفوز في الانتخابات العامة المقبلة المتوقعة في عام 2024. ولكن الأزمة في الشرق الأوسط خلقت واحدة من أكبر التحديات التي يواجهها زعيم حزب العمال كير ستارمر. حيث ينقسم حزبه حول ما إذا كان سيدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة. والآن يحث ثلث أعضاء البرلمان من حزب العمال وبعض كبار السياسيين في الحزب ــ بما في ذلك الزعيم الأسكتلندي أنس ساروار، وعمدة لندن صادق خان، وعمدة مانشستر الكبرى آندي بورنهام ــ علانية على ذلك.
بينما في الولايات المتحدة، فوفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة جالوب ونشر قبل بدء الحرب، فإن الدعم الأميركي كان يميل للمرة الأولى نحو الفلسطينيين على حساب الإسرائيليين. ويقود هذا الاتجاه الناخبون الشباب، الذين يعرفون في المقام الأول بأنهم ديمقراطيون. ومنذ بداية الحرب، أصبحت الاحتجاجات والصراعات الأخرى في الحرم الجامعي جزءًا من المحادثة الوطنية في أمريكا. كما أصبح الأمريكيون اليهود، الذين يعتبر غالبيتهم من الديمقراطيين، أكثر تشككًا في السياسات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة. وأيضًا يرتبط هذا الاتجاه بالانقسام بين الأجيال. فقد سبق وأن وجد استطلاع أجراه مركز بيو قبل الحرب أن اليهود الأمريكيين من جيل الألفية هم الأقل احتمالًا لتقييم قيادة نتنياهو بشكل إيجابي. وكذلك يهدد الأمريكيون المسلمون، الذين تقول استطلاعات الرأي إنهم يميلون نحو بايدن في عام 2020، بالبقاء في منازلهم في عام 2024 بسبب دعمه المبكر لإسرائيل بعد هجمات حماس في 7 أكتوبر. وقد تحدثت الإدارة منذ ذلك الحين ضد الإسلاموفوبيا وأعربت عن تعاطفها مع المدنيين الفلسطينيين.
ولم تقف حدة الانتقادات للتعامل الغربي عند حدود المظاهرات الواسعة، والانقسامات الحزبية؛ بل امتدت للإدارات الحاكمة نفسها. ففي مذكرة داخلية بوزارة الخارجية الأميركية، اطلعت عليها صحيفة “بوليتيكو” ببداية الشهر الجاري، عبّر موظفون في الوزارة عن غضبهم لطريقة تعامل إدارة بايدن مع الحرب الإسرائيلية، قائلين: إنه يجب على الولايات المتحدة توجيه الانتقادات علنًا للإسرائيليين. وتضم المذكرة طلبين رئيسيين هما: أن تدعم الولايات المتحدة وقف إطلاق النار، وأن توازن بين رسائلها الخاصة والعامة تجاه إسرائيل، بما في ذلك بث انتقادات لتكتيكات إسرائيل العسكرية ومعاملتها للفلسطينيين؛ وهو ما تفضل الولايات المتحدة الإبقاء عليه سرًا. وسبق وأن أقر بلينكن في نهاية أكتوبر الماضي، بـ “الأثر العاطفي” الذي تركته حرب إسرائيل على موظفيه، وسط تقارير إعلامية عن “التخطيط لعصيان داخل الوزارة”، احتجاجًا على طريقة تعامل واشنطن مع هذا النزاع.
تلك التوترات والتي من المحتمل أن تتصاعد كلما استمرت إسرائيل في حربها الوحشية ضد قطاع غزة، تنُذر بمزيد من الانقسام داخل المعسكر الغربي، سيضغط لا محالة على تلك الحكومات للتوقف عن هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل.
أخيرًا، تُعد تلك التغيرات التي خلفتها الحرب الحالية على قطاع غزة، بداية لتغيرات أعمق وأكبر لا محالة على وضع منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وعلى القضية الفلسطينية بشكل خاص بالأجندة الدولية. وإن أكدت على نتيجة واحدة إلا أن غزة على صغر حجمها قد أصبحت نقطة التقاء للاهتمام العالمي والإقليمي.