ملاحظات حول سمات التحليلات العربية للتغطية الغربية
تشترك التحليلات العربية لتغطية الإعلام الغربي لحرب غزة في رواية وسرد مشتركين… مفادها أن الآلة الإعلامية الغربية استمرت في الكيل بمكيالين، وروجت بحسن أو سوء نية، خادعة أو مخدوعة أو الاثنين، للرواية الإسرائيلية، ويصفها البعض بالبكائية، وتقول هذه التحليلات العربية أن مجريات الأحداث وتكذيبها المستمر لهذه الرواية وضغوط جماهيرية ودبلوماسية بلغوا قدرًا من الجسامة، أجبروا هذه الآلة على تعديل هذه الرواية لتتكلم عن وحشية الممارسات الإسرائيلية، والكثير من الزملاء يركز على انتقاء غربي –إرادي أم غير إرادي- للمصطلحات والمفردات والموضوعات، وهو انتقاء يلعب دائمًا أو غالبًا ضد الأطراف العربية، وعلى سبيل المثال ما سمعته من زميلة جليلة: “المواطن العربي مقتول والمواطن الإسرائيلي مذبوح”. والضحايا العربية لا تنال الاهتمام نفسه ومساحة الضحية الإسرائيلية نفسها. ولهذه التحليلات آلاف وملايين من الأسانيد.
بيد أننا نرى أن الواجب إلقاء ضوء آخر –إضافي في جوانب ومناقض في جوانب أخرى- على المشهد. أولًا: اتهام الكيل بمكيالين هو اتهام صحيح، ولكنه من ناحية نسبية، ومن ناحية أخرى وأهم يعرض صاحبه لتذكيره أنه أيضًا يكيل بمكيالين. وتحديدًا نقول مقرين أن الضحية الفلسطينية لا تنال عناية واهتمام الضحية الإسرائيلية نفسها، لا شك في هذا، ولكنها تنال اهتمامًا أكبر بكثير من الضحايا من أصحاب البشرة السمراء (السودان/ إثيوبيا/رواندا/ الكونغو/مسلمي بعض الأطراف الآسيوية المهمة، ويمكن أن يضاف إليهم العراقيون والسوريون إلخ)، ذلك أن الفلسطيني يعاني في شق بالغ الأهمية من مركزية مظلومية اليهود ورحلة آلامهم في أوروبا في المخيال الغربي، ولكنه يستفيد منها أيضًا لأن الاهتمام بالقضايا اليهودية يولد حتمًا اهتمامًا بالقضايا الفلسطينية، والجلاد الإسرائيلي ينال قدحًا أكبر مما يناله غيره –والإسرائيليون واليهود دائمو الشكوى من هذا الوضع غير منتبهين لكونه “ضريبة” الاهتمام بآلامهم وبمصيرهم ومسيرهم. أما فيما يتعلق بالكيل بمكيالين نكتفي ببعض الأمثلة والملاحظات… انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقولة منسوبة لإدوارد سعيد… وهي قطعًا معبرة عن حقيقة أخلاقية… “كونك ضحية لا يعطيك الحق في أن تفعل كل شيء وأي شيء”، وهذا مؤكد، ولكن الكلام يمكن أن يقال في نقد الفلسطينيين والعرب كما يقال في نقد الإسرائيليين. وقطعًا يتسبب انتماء أغلب جماعة السياسة الخارجية المصرية إلى مدرسة الواقعية في العلاقات الدولية إلى تقليل الاهتمام بممارسات بعض الأنظمة ضد شعوبها وضد غيرها.
ونريد أن ننبه دون رغبة في السجال إلى أن الانتقاء العربي لبعض المصطلحات يخونه التوفيق، ويضر بمصالحنا وبخطابنا الموجه إلى الغرب، منها الحديث عن “البكائية الإسرائيلية”. أقول -أولًا ولكيلا يساء فهمي-: أن هناك أمورًا تثير الغيظ والاشمئزاز، على سبيل المثال في الساعات الأولى للتغطية الفرنسية لاجتياح الجيش الإسرائيلي لغزة سمعنا على بعض القنوات كلامًا كثيرًا كله تعاطف مع معاناة الإسرائيليين الذين لم يناموا لقلقهم على ذويهم المشتركين في العملية، ولم نسمع كلمة واحدة عن الضحايا الفلسطينية وعن التدمير في غزة! وأستطيع أن أكثر من الأمثلة المستفزة، ولكن تسفيه كل الروايات الإسرائيلية واختزالها في “بكائية” أمر يعرض الطرف العربي لانتقادات تضرنا أبلغ الضرر، منها أننا لا نهتم بالبعد البشري وبقيمة الحياة البشرية، ونتجاهل تبعات ما نفعل وما يفعله أهلنا ونتفادى توصيفه، وأن من لا يهتم بحياة “الغير” لا تجوز لها مطالبة الغير بالاهتمام بحياة ذويه… وسمعت فعلًا هذا الرد أو ما يشبهه على لسان بعض المعلقين الفرنسيين من ذوي النفوذ الكبير مثل كارولين فورست. هي تحديدًا قالت إنها: “تسمع العربي الذي يخاطب الضمير الإنساني ولكنه هو لا يتقيد به ومن حقي أن أطالبه بما يطالبه هو”. الأحرى أن نذكر في عرض مآخذنا وانتقاداتنا والظلم الذي نتعرض له وقائع محددة –وتعد بالآلاف-، وأن نتجنب التعميم والاتهامات والكلام المحقّر الذي يمكن أن يُستخدم ضدنا كبرهان أو قرينة على عدم إنسانيتنا.
القيود التي تضبط خطاب السياسيين وتلك التي تؤثر سلبًا على الخطاب الإعلامي
وفي هذا الإطار، نلفت النظر إلى أن الإعلام وقطاعات واسعة من الخبراء والصحفيين والسياسيين لا يلتفتون بما فيه الكفاية إلى حقيقة مفادها أن أي كلمة حق يمكن أن تُوظف في خدمة باطل، وأن هذا يفرض قيودًا على خطاب المسئولين والرسميين في كل دولة، ويرى الكثيرون من الإعلاميين في الغرب أنهم ليسوا مسئولين عن توظيف الناس لكلامهم وأن واجبهم نقل الصورة و/أو توعية الجمهور (مع اختلاف بينهم حول مفهوم التوعية اختلافًا يؤدي أحيانًا ليست قليلة إلى إخفاء متعمد للحقيقة) وليس الدفاع عن خط الدولة، وطبعًا هناك في كل مكان من يدرك صواب المعنى الذي أذهب إليه عن القيود المؤثرة لخطاب وتصريحات المسئولين… فيما يخص فقط كوادر الدولة التي ينتمي إليها أو التي يتعاطف معها وينسى هذا فيما يخص غيرها. وإلى جانب تبعات هذا التعريف لمهمة الإعلامي هناك معوقات ومحددات أخرى تؤثر سلبًا على الأداء الإعلامي، منها أن القنوات الخاصة تستهدف الربح وبالتالي تسعى إلى الاحتفاظ بالجمهور، وأن هذا يلعب دورًا في صياغة الخطاب، شأنه شأن توجهات أصحاب القناة، ومن ناحية أخرى كما قال صحفي مرموق… كلب يعض إنسانًا… هذا ليس خبرًا، إنسان يعض كلبًا… هذا هو الخبر، ويعني هذا أن التغطية الإعلامية تميل دائمًا إلى إهمال المألوف والتركيز على الشاذ؛ مما يزرع انطباعات خاطئة لدى الجمهور.
ونذكر القارئ ببعض المحددات وليست كلها التي لا يدًا للإعلاميين فيها، لا يمكن لخبر تلفزيوني أن يعرض لكل جوانب موضوع، لا سيما إن كان معقدًا في تقرير لا يستمر إلا دقيقتين أو ثلاثة، وبالتالي عليه أن يختار زاوية محددة، وهنا يلعب تحيز الصحفي وأفكاره المسبقة دورًا كبيرًا، ويلاحظ أن الخيارات الأيديولوجية للشباب غير خيارات الشيوخ والقادة وكبار المذيعين، ولا تتفق إلا نادرًا خيارات هذه المجموعات وخيارات الدولة التي تنتمي إليها القناة. إضافة إلى هذا فإن بنية الخبر التلفزيوني تحبذ الروايات البسيطة والثنائيات السطحية فيها الخيِّر والشرير ولا تحب الروايات المعقدة ولا المناطق الرمادية، ويجد كبار الرموز للقناة صعوبة (يمكن التغلب عليها) لتغيير التوصيف الذي ألحقوه بطرف أو غيره، فمن تم وصفه بالشرير في بداية الرواية يصعب تغيير وصفه بعد ذلك، ويبدو من الصعب قبول فكرة تحول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية. وأخيرًا وليس آخرًا فإن القنوات والجرائد باتت تواجه صعوبات تمنع إرسال مراسلين على الأرض بصفة عامة، وفي مناطق الصراع بصفة خاصة، لا سيما إن كان المتصارعون لا يريدون وجودًا إعلاميًا، وبالتالي فإنها مضطرة إلى تصديق روايات لا يمكن التحقق منها، والاختيار بينها، وهنا تلعب الخيارات الفكرية والتحيزات دورًا لا يستهان به.
صعوبات منهجية وحدود هذه الدراسة
وقبل أن نُبدي ملاحظاتنا وانتقاداتنا للإعلام الغربي علينا أن نذكر بعض الحقائق، من ناحية من الصعب على أي فرد أو أي فريق أن يرصد هذا الإعلام رصدًا علميًا لأنه متنوع ومتشعب، في فرنسا مثلًا هناك ما لا يقل عن ٧ جرائد يومية لها جمهور كبير، إلى جانب الصحافة الإقليمية وبعضها بالغ الأهمية، وإلى جانب المجلات الأسبوعية المهمة، وعددها لا يقل عن سبعة، وهناك عدد كبير من القنوات الإخبارية، لا يقل عن ستة، ومن الإذاعات، ناهيك عن المواقع الإخبارية على الإنترنت، ودور مواقع التواصل الاجتماعي، والأمر نفسه ينطبق على المملكة المتحدة وعلى الولايات المتحدة. وهناك عدد من الجرائد ومن القنوات منحازة بوضوح للفلسطينيين والعرب. ولكن أغلبها طبعًا منحازة لإسرائيل، أو بمعنى أدق للروايات اليسارية الإسرائيلية. ونقر أننا تابعنا أساسًا القنوات الإخبارية الفرنسية وفي مقدمتها ال سي أي، وبعض الصحف الفرنسية والبريطانية. وسنركز أساسًا على القنوات التلفزيونية لأنها مصدر رئيسي لمعلومات قطاعات كبيرة من الرأي العام.
بعض سمات الأداء الغربي
ننتقل الآن إلى ملاحظات انطباعية عن الأداء الإعلامي للقنوات الغربية بصفة عامة والفرنسية بصفة خاصة.
من ناحية من الواضح أن خطاب أغلب المشاركين في التغطية والتحليل –صحفيين ومقدمي برامج وخبراء- يكشفون عن اعتقاد مفاده أن إسرائيل جزء من العائلة الغربية أو من العائلة الديمقراطية أو من النسيج الحضاري الغربي، في حين أن الطرف الآخر من الأغيار، هذا لا يعني أن إسرائيل فوق النقد أو معصومة من الخطأ، فهناك نقد لها بصفة عامة ونقد لحكومتها الحالية وللحكومات السابقة بصفة خاصة، ولكن هذا النقد مهما كان قاسيًا فهو نقد شقيق لشقيقه، وغالبية المشاركين في النقاش يتكلمون وكأن المعركة ضد حماس وغزة هي معركتهم ومعركة دولتهم، وأن أي نصر لإسرائيل هو نصر لهم. يمكن طبعًا البحث عن تفسيرات تعذر هذا الموقف غير الواعي بنفسه وبتوابعه، على سبيل المثال يمكن القول إن شكل هجوم ٧ أكتوبر ذكّر عددًا من العواصم الغربية لا سيما باريس بالحوادث الإرهابية التي استهدفت أوروبا في هذه الألفية، فنتج تعاطف بين مجتمعات مرت بالتجربة نفسها، ومن ناحية أخرى يؤثر المشهد الداخلي على المدركات وعلى قراءة المشهد الخارجي، في الداخل الأوروبي يعيش المواطنون اليهود في حالة رعب لأن الإرهاب السلفي الجهادي استهدفهم في الماضي، ولأن عدد حوادث الاعتداءات ضدهم تضاعف مرات ومرات بعد ٧ أكتوبر (وعدد الاعتداءات ضد المسلمين زاد أيضًا ولكن بمعدلات أقل)، وباختصار يرى القطاع الغالب للرأي العام أن اليهود هم الضحية، ويتم الترويج بنجاح للرواية الإسرائيلية عن شعب متحضر أعداده قليلة يعيش في دولة صغيرة محاطة بأعداء كثيرين وغير متحضرين، فهذه الرواية متسقة مع ما يشاهده الأوروبي في بلده هو: أقلية صغيرة العدد تتعرض لاعتداءات من أقلية عدد أبنائها أكبر… ولكن الصورة بدأت تتغير مع استمرار الحرب في غزة، يمكن ذكر هذه العوامل وغيرها ولكننا نعتقد أن الحقيقة البسيطة هي أن اليهود جزء من نسيج المجتمع الغربي وهم مكون لا يظهر رفضًا لمنظومة القيم والثقافة السائدة في هذا المجتمع، في حين أن الانطباع السائد عند أغلبية الجمهور أن قطاعات كبيرة من المسلمين في حالة رفض جذري لهذه المنظومة –لأسباب لا يتسع المجال لتقييمها ونكتفي بالقول إن بعضها وجيه وبعضها لا- وأن مقاربتهم صدامية وعدوانية وعنيفة، أحداث السنوات الماضية وهيمنة الإخوان والسلفيين والتبليغيين على مكونات كبيرة من الجاليات الإسلامية ساهمت في ترسيخ وتجذر هذا التصور الموجود أصلًا، أشار إليه الرئيس السابق هولاند في مناقشات مع صحفيين.
لا يعني ما سبق أن الخطاب العربي أو المؤيد للفلسطينيين غائب، فالقنوات تدعو فلسطينيين، وخبراء في الشئون العربية، ومسئولين أمميين، وسفراء متعاطفين مع العرب، وكوادر منظمات إنسانية، إلى الاشتراك في حلقات نقاشية، وتفسح لهم المجال، ولكن وجودهم أقل بكثير من وجود المؤيدين لإسرائيل، ومهارات أغلبهم متوسطة أو متواضعة، وبعضهم يضر بالقضية الفلسطينية وهو متصور أنه يخدمها، وخطاب الكثيرين منهم يلقى رفضًا من الجمهور ومن المشتركين الآخرين في الحلقات، هناك استثناءات ولكن هذا هو المشهد، ويمكن القول إن أغلب أصحاب التأثير القوي على النخب وعلى الطبقات الوسطى منحازون لإسرائيل، مع اختلافات واسعة بينهم في مواقفهم من الحكومة الإسرائيلية الحالية ومن خطتها، ومن موقفها من حل الدولتين، وسنعود إليها في مقال لاحق. نكتفي هنا بالقول إن أغلب الحاضرين من المؤيدين لإسرائيل يتعاطفون مع روايات وخطاب اليسار الإسرائيلي؛ وليس مع خطاب نتنياهو وحكومته. ويلومونه لومًا شديدًا لممارساته هو وحلفاءه من اليمين الديني في الضفة الغربية ولإدارته الكارثية للملف الأمني، ولقيامه بقتل مسيرة السلام ولردود فعله ولخطابه. ونشير على سبيل المثال إلى مقال لصحيفة النيو يورك تايمز تحلل فيه مفردات خطاب اليمين الإسرائيلي، وتنتقد عنفها، والدعوات الصريحة أو المبطنة لإبادة الفلسطينيين، أو لإنكار آدميتهم أو إلى تحليل الجريدة نفسها لدلالة بعض الصور الفاضحة لأكاذيب الحكومة أو الجيش الإسرائيلي (ولصور أخرى تكذب مزاعم حركة حماس)، وباختصار لا يعني ما سبق أن هناك تجاهلًا للمأساة التي يعيشها سكان غزة، وللتبعات المحتملة لهذه المأساة فيما يخص مستقبل المسألة العربية الإسرائيلية، ومع مرور الأيام خفّ الميل إلى التهوين منها، أو إلى تحميل حماس وحدها المسئولية كما كان سائدًا في الأول.
أوهام عن الموضوعية
ومن ناحية أخرى هناك قناعة حقيقة غير مبنية على أسس تؤثر على انتقاء المادة وعمليات التفضيل بين الروايات، هذه القناعة مفادها أن إعلامًا غير موجه يقول دائمًا الحقيقة ولا يكذب، في حين أن الإعلام الموجه دائم الكذب، وأن تكلفة الكذب في الديمقراطيات أعلى بكثير في حين أن لا تكلفة له في الأنظمة السلطوية؛ وبالتالي فالكذب أقل والأخطاء في التغطية أقل. ودون دخول في جدل حول مدى استقلالية الإعلام في الدول الغربية أو في إسرائيل، ودون إنكار أن تنوع الإعلام الغربي وتعدد مشاربه وتعدد الروايات الإسرائيلية واليهودية من عناصر قوة هذا الإعلام وخطابه وقدرته على التأثير؛ لأن هذا التعدد ينفي أو يخفي شبهة التلقين، ونلاحظ في هذا الصدد أن أي رواية عليها إجماع إعلامي تثير دائمًا الشكوك لدى قطاعات كبيرة من الجمهور، إلا أنه من الواضح أن التعددية والحرية لا تكفيان في حد ذاتهما لضمان الموضوعية والحيادية والاحترافية، ولا تكفيان لمنع الوقوع في أخطاء جسيمة. كما أنه من الواضح أن الإعلام الموجه يقول في أحوال عديدة وليس دائمًا الحقيقة، ما نقصده أن هناك ميلًا شبه عام فيما رصدناه إلى اعتبار أن الرواية الإسرائيلية صادقة إلى أن يثبت العكس، (يحد من هذا الميل عدم معقولية بعض الروايات وكراهية الكثيرين بما فيهم عدد معتبر من اليهود للحكومة الحالية)، وإلى اعتبار أن أي إعلام عربي كاذب إلى أن يثبت العكس.