استثنت حكومة الحرب المصغرة التي تكونت بعد تشكيل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حكومة طوارئ موسعة في 11 أكتوبر 2023 الوزراء الأكثر يمينية وتطرفًا داخل الحكومة، بعدما رفض رئيس حزب “يش عتيد” يائير لابيد الانضمام إليها بسبب وجود وزراء متطرفين فيها، وقبل وزير الدفاع السابق ورئيس “معسكر الدولة” بيني جانتس الانضمام إليها بشرط تشكيل مجلس حرب مصغر لا يكون هؤلاء الوزراء أعضاءً فيه؛ مما حدا بهؤلاء الوزراء وخاصة وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير رئيس حزب “عوتسما يهوديت” ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب “الصهيونية الدينية” إلى اتخاذ منحى معاكسًا لسياسة مجلس الحرب من جهة، والاستعداد للمشهد السياسي الجديد بعد طوفان الأقصى من جهة أخرى.
سياسات معارضة
عمد الوزراء اليمينيون في الحكومة الإسرائيلية وخاصة الوزراء الأكثر تطرفًا مثل “بن جفير” و”سموتريتش” إلى مجموعة من السياسات والإجراءات التي ردوا من خلالها على استبعادهما من حكومة الحرب المصغرة وكمسار موازٍ لعمل هذه الحكومة ودون التنسيق معها، والتي اعتمدوا فيها على ما يلي:
إحراج الحكومة: شكّل إحداث إحراج داخلي ودولي لحكومة الحرب الإسرائيلية هدفًا أساسيًا من أهداف التحركات التي قام بها الوزراء المستبعدون منها، وذلك من خلال مجموعة من المسارات، أولها: ما قام به وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير من بدء حملة لتسهيل استخراج تراخيص الأسلحة للمستوطنين في الضفة الغربية وتسليحهم تحت ذريعة حماية أنفسهم بعد هجوم 7 أكتوبر، وبلغ عدد من تقدموا للحصول على ترخيص سلاح حتى 8 نوفمبر نحو 180 ألف مستوطن. بل وزاد الأمر بحديثه يوم 11 أكتوبر عن أنه أصدر تعليمات بالتحضير لسيناريو عملية “الدرع الواقي 2” –في إشارة إلى عملية “الدرع الواقي” التي نفذتها قوات الاحتلال عام 2002 باجتياح الضفة الغربية؛ بغية إنهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية- وأنه أعاد طرح شن العملية على المجلس الوزاري المصغر (في خطوة استباقية لتشكيل حكومة الطوارئ حيث قال: إنه يؤيد تشكيلها دون إقصاء لأي طرف).
وثاني هذه المسارات: هو قرار وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بوقف تحويل أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية بدعوى أنها تدعم الإرهاب، وهو القرار الذي أيده بن جفير قائلًا: “يجب استئصال مفهوم أن السلطة الفلسطينية مختلفة عن حماس”. أما المسار الثالث: فهو التشكيك في قدرة حكومة الحرب المصغرة على إدارة الحرب بنجاح انطلاقًا من كون أعضائها جميعًا ممن أسماهم بن جفير أسرى “معسكر المفهوم” -في إشارة إلى تأكيدهم أن حركة حماس مرتدعة مما قاد إلى هجوم 7 أكتوبر- ولذلك طالب بن جفير يوم 23 أكتوبر بإضافة وزير آخر إلى حكومة الحرب وألا يكون من حزب الليكود أو معسكر الدولة. والمسار الرابع: هو ما يمكن تسميته بالتغريد خارج السرب بما يتضح في تصريحات بن جفير بشأن ضرورة عدم إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وتصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو -المنتمي إلى حزب بن جفير- بشأن ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية.
وقد حققت هذه المسارات جزءًا من مبتغاها الخاص بإحراج حكومة الحرب وخاصة على المستوى الدولي؛ إذ أسهمت مشاهد ترؤس بن جفير لمراسم توزيع الأسلحة على المستوطنين إلى تعقيد نسبي في مشاورات شراء إسرائيل بنادق أمريكية جديدة من طراز “إم 16″؛ إذ لم توافق واشنطن على هذه الصفقة إلا بعدما تأكدت من أنها لن تذهب إلى المستوطنين حسب مصادر أمريكية وإسرائيلية، وهو أمر غير معتاد على الإطلاق بما يعكس آثار السياسة التي انتهجها بن جفير، لا سيّما وأن السياسة قد تسببت في تصاعد حدة العنف من جانب المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة بشكل كبير وواجهت انتقادات دولية متعددة. يضاف إلى ذلك أن إدارة بايدن قد طلبت توضيحًا من إسرائيل بشأن قرار تعليق تحويل أموال السلطة الفلسطينية لأن من شأنه زيادة حدة التصعيد في الضفة. وصولًا إلى الانتقادات الحادة التي وجهت إلى الحكومة الإسرائيلية جرّاء تصريح القنبلة النووية، ما اضطر “نتنياهو” إلى الإعلان عن تعليق مشاركة “إلياهو” في جلسات الحكومة (الأمر الذي استطاع بن جفير عرقلته). وقد اعترف “نتنياهو” نفسه بأن هذه الممارسات ولا سيّما أعمال عنف المستوطنين في الضفة “تسبب ضررًا دوليًا كبيرًا”.
استغلال الصلاحيات: على الرغم من استبعاد الوزراء المنتمين إلى اليمين المتطرف من حكومة الحرب المصغرة فإنهم يظلون في مناصبهم كوزراء ضمن حكومة الطوارئ الموسعة، سواء من حيث تولي بن جفير وزارة الأمن القومي أو تولي سموتريتش وزارة المالية ومنصب وزير بوزارة الدفاع كمختص بالإدارة المدنية في الضفة وإدارة شئون الاستيطان. ولذلك عمل هؤلاء الوزراء على استغلال الصلاحيات الممنوحة لهم –وإن كانت مقيدة في ظل حالة الحرب- لتحقيق أهداف خاصة بهم ربما ترتبط بمستقبل المشهد السياسي ما بعد انتهاء الحرب.
ويتضح ذلك في مجموعة من الأمور، من أهمها ما يتعلق بتسهيل استخراج تراخيص الأسلحة وتسليح المستوطنين، والبناء على ذلك لتشكيل وحدات احتياطية للأمن بلغ عددها حتى 9 نوفمبر نحو 700 وحدة هدفها تعزيز الأمن الشخصي في حالات الطوارئ وخاصة في المناطق القريبة من الحدود، وهو ما يعد استكمالًا لسعي بن جفير إلى إنشاء قوات “الحرس الوطني” التي وافقت الحكومة على تشكيلها في أبريل 2023 من حيث المبدأ، وواجهت اعتراضات كبيرة في التنفيذ، وربما وجد في الوقت الراهن فرصة مناسبة لتطبيقها على أرض الواقع دون معارضة. ذلك علاوة على مساعي كلا الوزيرين إلى إشعال الضفة الغربية من خلال زيادة وتيرة العنف، ومنع تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية، وكذلك بوقف مصلحة السجون الإسرائيلية لتحويل المدفوعات من السلطة إلى حسابات السجناء الأمنيين الفلسطينيين، في مقابل تعزيز التمويلات للمستوطنين المتطرفين ومستوطناتهم.
الحشد اليميني: إن الآلية الثالثة التي يعمل من خلالها اليمينيون المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية هي استغلال هجوم 7 أكتوبر في حشد الإسرائيليين صوب رؤية أقصى اليمين بأن التعاون بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني لن يحقق السلام للإسرائيليين، وأن السلام حسب منظورهم هو سلام قائم على القوة وخوف الطرف الآخر من رد الفعل الذي يمكن أن يتكبده جراء الهجوم على إسرائيل، وأنه لا يوجد مدنيون فلسطينيون فجميعهم عدوانيون؛ ولذلك تجب مواجهتهم بالعدوانية التي ستقابل برد فلسطيني عنيف تستثمره هذه الأحزاب في الترويج، لأن “الإرهاب” الفلسطيني في الضفة لا يختلف عن نظيره في غزة، بما يخدم الاستراتيجية الرامية إلى إخلاء مدن الضفة والمزيد من التمدد الاستيطاني.
يُضاف إلى ذلك تشديد الملاحقة الأمنية لكل من يُظهر انتقادًا للجرائم الإسرائيلية أو يُظهر تعاطفًا مع المدنيين في غزة، والسعي إلى اكتساب المزيد من الشعبية من خلال الترويج إلى أن لديهم حسًا وطنيًا ربما هو من جعلهم يقبلون بالاستبعاد من حكومة الحرب رغم حيوية مناصبهم ووزاراتهم. فضلًا عن العمل على الترويج لممارساتهم المعارضة لحكومة الحرب بأنها من أجل المواطنين فحسب دون أي اعتبارات أخرى، في أسلوب مشابه لما يفعله رئيس حزب “يش عتيد” يائير لابيد برفضه الانضمام للحكومة ودعمه لتوجهاتها، بما يسهم في تقوية مواقعهم لدى الإسرائيليين.
رهانات مستقبلية
لا يزال من الصعب التكهن بمستقبل الأحزاب اليمينية المتطرفة في إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى واستبعاد قياداتها من الحكومة المصغرة التي تتولى إدارة الحرب على قطاع غزة. ولكن يمكن القول إن هذه الأحزاب تراهن حاليًا على مجموعة من الأمور التي يمكن أن تؤمن لها مستقبلها السياسي في إسرائيل، وهي كالتالي:
يمينية المجتمع: تراهن الأحزاب اليمينية المتطرفة على أن الصدمة التي حدثت للإسرائيليين في هجوم 7 أكتوبر وانهيار العقيدة الأمنية التي تأسست عليها إسرائيل، وشعورهم بالضعف المطلق في هذا اليوم الذي غذى لديهم الرغبة في الانتقام؛ كل ذلك سيدفعهم إلى أقصى اليمين وفقًا للسردية السالف ذكرها بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام مع الفلسطينيين، وأن “الأسلحة تنقذ الأرواح” حسب وصف بن جفير. فتسهم كل السياسات التي يقوم بها اليمينيون الآن في تعزيز هذا المفهوم وتعزيز النظر إلى الفلسطينيين بأنهم “نازيون” تجدر مواجهتهم بكل قوة.
وتشير تقديرات إسرائيلية بالفعل إلى أن المجتمع الإسرائيلي بعد الأحداث الكبيرة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وخاصة على المستوى الأمني مثل انتفاضة الأقصى وربما كذلك عملية “طوفان الأقصى”، يتجه إلى أقصى اليمين أيديولوجيًا فيما يتعلق بالصراع، وربما تسهم في تناسي الخلافات البينية مثل تلك التي شهدتها إسرائيل خلال الشهور السابقة إثر مشروع الإصلاح القضائي والاصطفاف لهدف واحد وهو الحرب. وهو أمر تدركه الأحزاب اليمينية وتعمل من خلال سياساتها على أن يتحول من مجرد اتجاه قصير المدى نتيجة الصدمة إلى انتماء طويل المدى، لا سيّما وأن هذه الحالة من الصدمة ربما تكون لدى المستوطنين أكثر من غيرهم، وهؤلاء هم الكتلة الأكثر تصويتًا للأحزاب اليمينية المتطرفة تقليديًا في كل الانتخابات الأخيرة.
انتهاء مستقبل نتنياهو: ربما أحد الرهانات التي تحكم اتجاهات الأحزاب اليمينية في الوقت الحالي هو الاعتقاد بأن المستقبل السياسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد انتهى جرّاء الفشل غير المسبوق في 7 أكتوبر 2023، ولذلك انضم الوزراء اليمينيون وخاصة بن جفير إلى ركب المهاجمين لمحاولات نتنياهو التنصل عن مسئولية ما حدث وتحميله إياها إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية. ومن ثم ترى هذه الأحزاب أن فرص استمرار الائتلاف الحكومي الذي شكّله معها نتنياهو ما بعد الحرب ستكون ضعيفة، سواء باتجاهها هي إلى الخروج من الائتلاف بعد الحرب كرد فعل على إقصاء نتنياهو لها من حكومة الحرب أو بالاتجاه إلى انتخابات تشريعية جديدة في ضوء الاتجاه العام الذي يميل إلى عدم بقاء نتنياهو على رأس الحكومة بعد الحرب.
وقد أظهرت استطلاعات رأي مختلفة بعد “طوفان الأقصى” أن قسمًا كبيرًا من الإسرائيليين يرون أن نتنياهو عليه الاستقالة من منصب رئيس الوزراء عاجلًا أو آجلًا، وأن رئيس معسكر الدولة عضو حكومة الحرب وزير الدفاع السابق بيني جانتس تتزايد حظوظه في أن يكون رئيسًا للوزراء على حساب نتنياهو. ولذلك ربما تسعى أحزاب أقصى اليمين إلى إفشال حكومة الحرب الحالية لكي تبقى حظوظها الانتخابية قائمة، لا سيّما وأن الحكومة إذا نجحت في أهدافها فسيكون ذلك برهانًا على مسئولية المعسكر اليميني عن الإخفاق وسيحصد بيني جانتس كل المكاسب بوصفه من أدار المعركة لصالحه، وحينها قد يتمكن من تشكيل حكومة جديدة بالتعاون مع أحزاب الوسط والمعارضة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن مستقبل أحزاب أقصى اليمين القومي في إسرائيل التي استبعدت من حكومة الحرب المصغرة أصبح رهنًا بما ستسفر عنه العمليات الحالية في قطاع غزة، ومدى نجاح هذه الحكومة المصغرة في تحقيق أهدافها المعلنة وإشباع الرغبة في الانتقام، التي أصبحت تغلف المجتمع الإسرائيلي بعد طوفان الأقصى. إلا أن نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة والتي تشير إلى تراجع في شعبية الائتلاف الحاكم بوجه عام قد تعطي ملمحًا مستقبليًا بأن هذه الأحزاب رغم ما تقوم به حاليًا من إجراءات لعرقلة الحكومة من جانب وخدمة أهدافها السياسية من جانب آخر فإنها ربما سيكون من الصعب أن تعفيها من مسئولية الإخفاق الذي وقع في 7 أكتوبر، ومن ثم قد تكون غير ممثلة في حكومة ما بعد الحرب، ولكن ستظل سياساتهم وتوجهاتهم حاكمة، وخاصة فيما يتعلق بالتوسع الاستيطاني.