بذلت الدولة المصرية خلال الشهور الماضية الأخيرة جهودًا حثيثة لتوسيع قاعدة احتياطاتها من السلع الاستراتيجية للسيطرة على ارتفاع أسعارها من ناحية ولتحقيق الاكتفاء الذاتي، ومنها رفع معدلات الأمن الغذائي من ناحية أخرى، لتبني استراتيجيتها على أسس مكافحة التحديات المرتبطة بالغذاء والتغذية والفقر والبطالة، وفي الوقت نفسه تعزيز سبل العيش وحماية الفئات الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي، وذلك في ظل عالم يواجه عدة تحديات على رأسها استمرار أزمة الغذاء واضطراب سلاسل التوريد، وبالتالي ارتفاع أسعارها لمستويات غير مسبوقة، وما كان لذلك من مآلات على الاقتصاد المصري.
أولًا: واردات مصر من أهم السلع الاستراتيجية
أثرت الحرب الروسية الأوكرانية بشكل مباشر على إمدادات القمح والذرة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بما في ذلك مصر، بل عطلتها في بعض الفترات، كما دفعت بأسعارها إلى مستويات غير مسبوقة، فضلًا عن أن الحرب خلقت أزمة عملة أجنبية ضرورية لتعزيز الواردات والإفراج عن شحنات السلع، وهو ما تسبب في انخفاض واردات القمح وتراجع كبير في واردات الذرة خلال العام الحالي في كثير من الدول، وفيما يتعلق بالواردات المصرية من أهم السلع الغذائية، فحتى أكتوبر 2023 تمكنت مصر من تعزيز وارداتها من القمح والدقيق والحبوب الخشنة والذرة لترتفع مقارنة بالعام الماضي 2022/2023، بحسب التقرير الصادر في أكتوبر 2023 عن وزارة الزراعة الأمريكية، ويمكن متابعة تطور الواردات المصرية من أهم السلع الغذائية من خلال الشكل التالي:
وتشير آخر التوقعات إلى أن مصر ستوسع وارداتها من القمح خلال العام 2023/2024 بنسبة 2.9% مقارنة بالعام المالي السابق، وذلك بعد تراجع وارداتها في العام المالي 2022/2023، والتي وصلت إلى ثاني أدنى مستوى لها خلال السنوات العشر الماضية منذ واردات 2013/2014 البالغة 10.15 ملايين طن متري، وذلك على أثر التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، والتي ولَّدت تحديًا مستمرًا للعملة الأجنبية، مما تسبب في تعطيل تجارة القمح في مصر، وفي أكتوبر الجاري 2023 حجزت مصر ثماني شحنات من القمح الروسي بنحو 480 ألف طن، أو حوالي 4% من وارداتها السنوية لشحنها في نوفمبر وديسمبر، وتجدر الإشارة إلى أن 80% من واردات مصر من القمح تأتي من روسيا، نظرًا لقصر المسافة بين البلدين، والتي تستغرق من ثلاثة إلى خمسة أيام، فضلًا عن الأسعار التنافسية التي تقدمها روسيا لمصر.
كما تشير التوقعات إلى أن واردات مصر من الذرة سترتفع مقارنة بالعام الماضي والتي بلغت 6 ملايين طن متري، وهي السنة التي تراجعت فيها الواردات المصرية من الذرة بنسبة 38.5% مقارنة بالعام 2021/2022 بسبب تأثيرات وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
وأظهرت التوقعات إلى أن واردات مصر من الأرز ستتراجع في السنة المالية 2023/2024 إلى 250 ألف طن متري بسبب ارتفاع الإنتاج المحلي المتوقع، وذلك بحسب التقرير الصادر عن وزارة الزراعة الأمريكية الصادر في إبريل 2023.
ثانيًا: إنتاج واستهلاك مصر من أهم السلع الغذائية
ارتفع إنتاج مصر من الذرة والأرز على حساب تراجع إنتاجها من القمح خلال العام الحالي 2023/2024، وحتى الآن بلغت نسبة التغير في إنتاج مصر من القمح -2% مقارنة بالعام الماضي 2022/2023، وفي المقابل بلغت نسبة التغير في إنتاج مصر من الأرز 7% ومن الذرة 10%، بحسب آخر بيانات نشرت على موقع وزارة الزراعة الأمريكية، ويمكن متابعة تطور إنتاج مصر من أهم السلع الغذائية من خلال الشكل التالي:
وكانت توقعات سابقة تشير إلى بقاء إنتاج القمح في مصر دون تغيير مقارنة بالعام الماضي، لتصل إلى نحو 9.8 ملايين طن متري، وستظل المساحة المحصودة عند 1.53 مليون هكتار، وهو مستوى أعلى قليلًا من المتوسط، وساعد على ذلك الاستخدام الأوسع لأصناف البذور المحسنة التي تتكيف مع الظروف المحلية.
وفي المقابل سيرتفع إنتاج الذرة في مصر خلال العام المالي 2023/2024 بنسبة 2.1% مقارنة بالعام 2022/2023 على أثر زيادة المساحة المزروعة بمقدار 20 ألف هكتار (الهكتار يعادل نحو 2.47 فدان)، إذ سيشجع ارتفاع أسعار الذرة في السوق المحلية العديد من المزارعين على زراعة المزيد من الذرة خلال صيف عام 2023.
أما إنتاج الأرز فمن المتوقع أيضًا أن يرتفع بنسبة 5% مقارنة بالعام الماضي مع توقع زيادة المساحة المزروعة في مصر، وتُعزى هذه الزيادة إلى ارتفاع أسعار الأرز الخشن والمطحون الموجود حاليًا بالأسواق، وهو ما قد يحفز المزارعين على زيادة مساحات المحصول.
وفيما يتعلق باستهلاك مصر من تلك السلع فقد ارتفع استهلاك مصر من القمح حتى أكتوبر 2023 ليصل إلى حوالي 20.6 مليون طن مقارنة بحوالي 20.5 مليون طن في عام 2022/2023، كما ارتفع أيضًا استهلاك مصر من الأرز ليصل إلى 4.1 ملايين طن في مقابل 4 ملايين طن العام الماضي، ومن الحبوب الخشنة فقد ارتفع الاستهلاك المحلي ليصل إلى حوالي 16.1 مليون طن مقارنة بنحو 14.4 مليون طن عام 2022/2023، ومن الذرة فقد ارتفع الاستهلاك ليبلغ 15.2 مليون طن مقابل 13.5 مليون طن العام الماضي، وذلك وفقًا لوزارة الزراعة الأمريكية.
ثالثًا: جهود مصر لتحقيق الاكتفاء الذاتي والسيطرة على الأسعار
قامت رؤية مصر 2030 على تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال دعم الفئات التي تأثرت بتداعيات الأزمات العالمية المتعاقبة، وتأثيراتها على الاقتصاد المصري، وتوفير السلع الاستراتيجية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي منها، فضلًا عن تعزيز القدرات والبرامج والأنظمة التي تضمن استفادة الفئات الأكثر احتياجًا من الوصول إلى خدمات الغذاء والتغذية والصحة والتعليم وجودتها بحلول عام 2028.
وانطلاقًا من ذلك نفذت مصر عدة مشاريع قومية زراعية، ومنها مشروع المليون ونصف فدان، ومشروع 100 ألف فدان من الصوب الزراعي، ومشروع شرق العوينات، ومشروع توشكى الخير، ومشروع الدلتا الجديدة، ومشروع تنمية شمال سيناء، ومشروع تنمية الريف المصري الجديد، والمشروع القومي لإنتاج الشتلات، وجهود تحسين أصناف المحاصيل ودعم المزارعين، وذلك بهدف التوسع في المساحة المزروعة والمحصودة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الاستراتيجية وعلى رأسها القمح، والأرز، والذرة، والدواجن، واللحوم الحمراء، وزيادة تلك النسب لتصل إلى 49% من القمح، و30% من الفول، و70% من اللحوم الحمراء، وزيادة نسبة الاكتفاء الذاتي من الأسماك لتتراوح بين 85 إلى 90%، فضلًا عن التوسع في زراعة الفاكهة والخضراوات لتغطية الطلب المحلي، وتحقيق فائض تصديري منها.
وفي ظل تعطل الإمدادات العالمية من السلع الغذائية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي ارتفاع أسعارها لمستويات لم تشهدها من قبل، انعكس ذلك على أسعار السلع الاستراتيجية في الداخل المصري، ويمكن متابعة تضخم أسعار السلع الغذائية في مصر بحسب تقرير البنك الدولي من خلال الشكل التالي:
وهو ما دفع الدولة المصرية بالإعلان عن حزمة إجراءات طارئة للسيطرة على ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية، ووضعتها كأولوية على رأس أجندة الحكومة في الفترة الحالية والمقبلة، وقامت الحكومة بتحديد سبع سلع أساسية يجري العمل على خفض أسعارها إلى ما بين 15 إلى 25%، وهي الفول، والعدس، والألبان، والجبن الأبيض، والمكرونة، والسكر، وزيت الطعام، والأرز، والدواجن والبيض، كما علقت الحكومة الرسوم والجمارك لمدة ستة أشهر على بعض مستلزمات إنتاج تلك السلع، بجانب التحرك للتنسيق مع البنوك لتوفير العملة الأجنبية لمستوردي مستلزمات الإنتاج لتلك السلع المخفض سعرها.
ومن هنا فقد عملت الدولة جاهدة على التوسع في وارداتها من السلع الأساسية لتأمينها في الأسواق المحلية من ناحية، ومن ناحية أخرى توسعت في زراعة المحاصيل الزراعية المهمة، وزيادة الإنتاج لتحقيق نسبة أعلى من الاكتفاء الذاتي منها، وفي الوقت نفسه سعت للسيطرة على ارتفاع أسعارها في الداخل من خلال عدة جهود ومبادرات تهدف إلى تخفيض أسعارها وتأمينها للمواطنين.