كانت ولا تزال الحرب وستظل أبد الآبدين آفة العالم ومرتعًا للدمار والخسائر على جميع الأصعدة ولا بديل عن السلام لتحقيق ما تصبو إليه الأمم من التقدم والتنمية والرفاهية، ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن استمرار الحرب في غزة قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية وعالمية بشكل أوسع، وبالنظر إلى العواقب الإقليمية والعالمية المحتملة فإن الحرب الحالية ستؤثر بشكل رئيسي على الأسواق العالمية للنفط والغاز الطبيعي، وإن شهدت أسعارها زيادات معتدلة منذ بداية الحرب وحتى الآن، وهو الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل وبالتبعية ارتفاع معدلات التضخم العالمية، كما قد يؤدي التصعيد الإقليمي إلى تعطيل حركة التجارة العالمية مع الاضطرار إلى إغلاق الموانئ والمعابر الحدودية.
أولًا: وضع أسواق الطاقة العالمية
مما لا شك فيه أن للحرب في غزة والاشتباكات مع حزب الله في الشمال تأثيرًا حتميًّا على أسواق الطاقة الإقليمية والعالمية، وتسببت في حالة من عدم اليقين فيما يتعلق بالأسواق في المرحلة القادمة وفيما يتعلق بأسواق النفط، فبالرغم من الارتفاع الطفيف في الأسبوع الأول من الحرب في أسواق النفط العالمية مع ارتفاع العقود الآجلة للنفط العالمي بنسبة 4%، إلا أنه إذا اتسع نطاق القتال ليشمل دولًا أخرى فإنه قد يكون له أثر صادم على أسواق الطاقة العالمية ويعطل خطوط الإمداد الرئيسية ويرفع أسعار الطاقة العالمية.
وتشير التوقعات الواردة في التقرير الصادر في نوفمبر عن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية بارتفاع الإنتاج العالمي من الوقود السائل بمقدار مليون برميل يوميًا في عام 2024 ليصل إلى 4.3 مليون برميل يوميًا، وستؤدي تخفيضات إنتاج أوبك بلس المستمرة إلى تعويض نمو الإنتاج من الدول غير الأعضاء في أوبك؛ مما سيساعد في الحفاظ على سوق نفط عالمي متوازن نسبيًا في العام المقبل، وعلى الرغم من أن الحرب في غزة لم تؤثر على إمدادات النفط الفعلية في هذه المرحلة، فإن الشكوك المحيطة بالصراع وظروف إمدادات النفط العالمية الأخرى يمكن أن تضع ضغوطًا تصاعدية على أسعار النفط الخام في الأشهر المقبلة، وتشير التوقعات إلى ارتفاع سعر خام برنت من متوسط 90 دولارًا للبرميل في الربع الرابع من عام 2023 إلى متوسط 93 دولارًا للبرميل في عام 2024.
أما أسواق الغاز الطبيعي العالمية فخلال الأسبوع الأول من الحرب ارتفعت العقود الآجلة للغاز الطبيعي الأوروبي بنسبة 14%، وبالرغم من أن أسعار الغاز الطبيعي لم ترتفع إلا بشكل هامشي إلا أنه لم يتم إبرام أي صفقات كبرى جديدة وذلك في ظل انتظار وترقب سوق الطاقة العالمية، ويرجع ذلك أساسًا إلى استمرار وجود كميات كبيرة من الغاز المتوفر في السوق العالمي، إذ تمكنت الدول الأوروبية من إيجاد البدائل من وارداتها من الغاز الروسي بالاستعانة بمصادر أخرى من الغاز المسال من الولايات المتحدة ومصر وقطر وأماكن أخرى، كما تمكنت أوروبا من ملء مخازنها من الغاز الطبيعي بالكامل.
ثانيًا: الحرب وسوق الطاقة في الشرق الأوسط
أ/ سوق الطاقة في مصر: تعد مصر أكبر سوق للغاز في المنطقة حتى الآن بحجم طلب محلي على الغاز الطبيعي بكمية تبلغ حوالي 61 مليار متر مكعب، وفي ظل تذبذب الإنتاج المحلي والاحتياطي تتعرض مصر في كثير من الأحيان للتقلب ما بين الفائض أحيانًا والعجز تارة أخرى، وبالتوازي اتسمت صادرات مصر من الغاز الطبيعي مع العالم الخارجي بالتذبذب.
هذا وتمتلك مصر مصنعين لإسالة الغاز الطبيعي أحدهما بإدكو بسعة 7.2 مليون طن سنويًا (تديره شركة شل)، والآخر بدمياط بقدرة إنتاجية تبلغ 5 مليون طن سنويًا (تشغله شركة إيني)، وفي عام 2022 بلغ الإنتاج الإجمالي 7.2 ملايين طن وقامت مصر بتوجيه 70% من هذه الصادرات إلى أوروبا وتركيا، لترتفع إمدادات الغاز الطبيعي المسال من مصر إلى الاتحاد الأوروبي من 1.1 مليار متر مكعب في عام 2021 إلى 4.2 مليارات متر مكعب في عام 2022، بحسب التقرير الصادر في أكتوبر عن المفوضية الأوروبية.
وكانت التوقعات بأن تستمر صادرات مصر من الغاز الطبيعي خلال عام 2023 عند الكمية نفسها، إلا أن درجات الحرارة العالية ساهمت في ارتفاع الاستهلاك المحلي من الغاز الطبيعي، وخلال النصف الأول من عام 2023 تراجعت كميات الغاز الطبيعي المصدرة لسد الطلب المحلي من الغاز الطبيعي، وبالتالي تشير التوقعات إلى تراجع نسبة صادرات مصر من الغاز الطبيعي عام 2023 إلى ما دون صادرات عام 2022، ومع بدء الحرب على غزة أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية بوقف إنتاج الغاز مؤقتًا في حقل تمار والذي يعد ثاني أكبر حقل غاز لدى إسرائيل وإن عادت صادراتها لمصر لاحقًا، لتعلن شركة شيفرون المشغلة للحقل بعد ذلك من تعويض النقص في الغاز الموجه لمصر من حقل تمار بحقول أخرى، إلا أنه قد تؤدي استمرار الحرب إلى صعوبة الأوضاع مع توسع ساحات الصراع الإضافية.
ب/ باقي أسواق الشرق الأوسط: أغلقت إسرائيل محطة النفط الإسرائيلية في عسقلان، ومع اتساع الصراع ليشمل حزب الله فإنه سيؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة الحادة بالفعل في لبنان، إذ تواجه الحكومة صعوبات في شراء شحنات المنتجات النفطية لتزويد أربع محطات كهرباء ساحلية بالوقود، ووسط النقص الحاد في الطاقة، قام مستوردو النفط من القطاع الخاص في لبنان بزيادة وارداتهم من الديزل لاستخدامه بشكل أساسي لتشغيل مولدات الطاقة الخاصة، وإذا تفاقمت التوترات بين إسرائيل وحزب الله فلن تتمتع حكومة تصريف الأعمال في لبنان بالقدرة على معالجة حالات الطوارئ الجديدة، ومن شأن توسع نطاق الصراع أن يؤثر أيضًا على حركة الشحن إلى لبنان مما يزيد الضغط على اقتصاده المتعثر.
أما الأردن التي تتلقى من إسرائيل 37% من صادراتها من الغاز الطبيعي فبالرغم من صغر حجم تلك الصادرات مقارنة بحجم صادرات الغاز الطبيعي الإسرائيلي لمصر، إلا أن الدولة ستتأثر بشكل كبير مع توسع الصراع في غزة، وهو الأمر الذي ستقاومه الحكومة الأردنية وذلك في ظل إنتاج محلي ضعيف من الغاز الطبيعي، بجانب توجهها لتلبية الطلب نحو واردات الغاز الطبيعي المسال الباهظ الثمن، الأمر الذي سيتسبب في معاناة اقتصادية للمواطنين وتآكل احتياطيات النقد الأجنبي في وقت تواجه فيه عمان بالفعل مشاكل اقتصادية كبيرة.
ومن هنا نجد أنه مع استمرار الحرب ستظل حالة عدم اليقين بشأن مستقبل أسواق الطاقة في الشرق الأوسط والأسواق العالمية، ولن يؤدي تصعيد الأوضاع إلا إلى مزيد من تذبذب أسواق الطاقة في المنطقة، وما قد يلحق بالبنية التحتية لقطاع الطاقة من أضرار جسيمة، والتداعيات الاقتصادية التي ستنعكس على وضع قطاع النفط والغاز في المنطقة، كما ستؤجل الحكومات الإقليمية أي خطط لمشاريع توسعية في قطاع الطاقة قامت بوضعها في السابق لسنوات قادمة.