نتيجة نجاح جهود مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، اتجهت العناصر الإرهابية إلى التمركز في أماكن أخرى، وكانت إفريقيا على قائمة هذه الأماكن. ولا يعني هذا خلو إفريقيا من التنظيمات والعمليات الإرهابية قبل هذا التحول، فواقع الأمر أنها تحتل المرتبة الثالثة بين الأقاليم التي ينشط وينتشر بها الإرهاب خلال السنوات السبع الأخيرة وفقًا للتقرير العالمي للإرهاب الصادر عن مؤسسة السلام والاقتصاد خلال الفترة (2012-2019). ووفقًا للتقرير الأخير لرصد حالة الإرهاب لعام 2018، كانت ثلاث دول إفريقية في قائمة أكثر 10 دول تعاني من الإرهاب (هي: نيجيريا، والصومال، وليبيا).

ووفقًا للإحصاءات والبيانات الصادرة عن تقارير رسمية صادرة عن عدد من المنظمات الدولية، يمكن توضيح مدى انتشار الإرهاب وضراوته في إفريقيا.
بداية هناك عدد من التنظيمات الإرهابية النشطة في القارة، ومن أبرزها: تنظيم القاعدة بفروعه المختلفة، وداعش بولاياته المختلفة، وتنظيم أنصار الشريعة في ليبيا وتونس، و”أجناد مصر” وحركة “حسم” و”أنصار بيت المقدس” في مصر، وحركة “الشباب” في الصومال، وتنظيم “الموقعون بالدم” في النيجر، و”حركة التوحيد والجهاد” و”أنصار الدين” في غرب إفريقيا، و”بوكو حرام” و”الفيلاني” في نيجيريا والكاميرون، وجماعة “الهجرة” في كينيا. والأعضاء النشطون لهذه التنظيمات كثيرون ومتعددون، فعلى سبيل المثال، اعتبارًا من شهر مارس 2018، كان هناك أكثر من 9000 عضو يتركزون في شمال إفريقيا ما بين ليبيا والجزائر. ولعل تقديرات أعداد ضحايا الإرهاب في إفريقيا تعكس مدى العنف المفرط المستخدم من جانب هذه التنظيمات. فمنذ عام 2002 بلغ إجمالي عدد الضحايا 60101 حالة وفاة نتيجة أنشطة الإرهاب في إفريقيا جنوب الصحراء فقط، وذلك على الرغم من التراجع النسبي لإجمالي عدد حالات الوفاة نتيجة تلك الأنشطة خلال العامين السابقين. وقد نتج هذا التراجع عن عاملين بالأساس، هما: نجاح بعض الإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها مالي وتشاد والنيجر، بالإضافة إلى انخفاض نشاط بوكو حرام نسبيًّا لانشغاله مع منافسه الجديد التنظيم الفيلاني الذي يُظهر عنفًا أكبر ويسعى لاستيعاب بوكو حرام في نيجيريا وتخومها. وتكفي الإشارة إلى أن الفيلاني قد قتل 1700 شخص خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2018. وبصفة عامة، تضاعف عدد القتلى ضحايا الإرهاب في إفريقيا جنوب الصحراء وحدها خلال السنوات العشر الأخيرة؛ فبعد أن كان 1020 قتيلًا خلال الفترة (2003-2007) ارتفع إلى 3159 قتيلًا خلال الفترة (2013-2018).
التنظيمات الإرهابية في إفريقيا
هناك عدد من العوامل التي تزيد من خطورة انتشار التنظيمات الإرهابية في إفريقيا، نوجزها فيما يلي:
1- المشكلات الحادة التي تواجه القارة، بدءًا من ارتفاع معدلات الفقر، وتدني معدلات التنمية رغم ثراء القارة بالموارد الطبيعية، وارتفاع مستوى الصراعات كمًّا وكيفًا داخل دول القارة نتيجة الصراعات القبلية أو الصراعات على السلطة. وقد تصاعدت العمليات الإرهابية لجماعات بعينها، وغيرت جماعات إرهابية أخرى من استراتيجيات عملها، سواء من حيث الأهداف أو المناطق الجغرافية، حيث انضمت مناطق جديدة في القارة إلى حزام الأزمات، والعمليات الإرهابية، فلم تعد الجماعات الإرهابية تُنسب إلى دولة بعينها، حيث خرجت العمليات الإرهابية لعدد من الجماعات عن محيطها الإقليمي المباشر.
2- تنامي الدعم بين الجماعات الإرهابية الإقليمية بعضها وبعض، سواء بتقديم المقاتلين أو التدريب أو الأموال، أو تزايد التنسيق بين بعض التنظيمات الإرهابية. ورغم زيادة جهود المكافحة فإن محدودية التنسيق بين الدول يسمح بوجود مراكز ملتهبة للإرهاب. فعلى سبيل المثال، بدأ تأثير الإرهاب يتزايد في مناطق المغرب العربي ومنطقة الساحل، فإذا كان المغرب العربي يشمل دول شمال إفريقيا مثل الجزائر وليبيا والمغرب وتونس، ويشير الساحل إلى المنطقة مباشرة أسفل الصحراء في إفريقيا، فإن الحدود المشتركة بين هاتين المنطقتين، ولا سيما بين الجزائر وبوركينافاسو ومالي والنيجر، أصبحت نقطة ساخنة ناشئة في مجال الإرهاب، نتيجة عدم تنسيق جهود المكافحة بين دول الشمال ودول منطقة الساحل.
3- تزايد القدرات القتالية لبعض الجماعات الإرهابية التي أصبحت تفوق قدرات الجيوش الوطنية والدول، خاصة مع تزايد الترابط العالمي بين المنظمات الجهادية والإجرامية.
4- اتجاه بعض الجماعات إلى محاولة توفير أموال للإنفاق على أنشطتها، حيث تراوحت عمليات توفير الموارد المالية ما بين التمويل الذاتي عبر اسـتغلال الأراضي، وجباية الضرائب والزكاة من المناطق التي تسـيطر عليها الجماعة، وهذا ما اتبعته حركة شـباب المجاهدين، حيث قامت بتصدير الفحم عبر ميناء كيسمايو، واعتمدت نظامًا ضريبيًّا، في حين لجأت جماعات إرهابية أخرى إلى اسـتغلال الأموال من التجارة غير المشروعة، مثل تجارة المخدرات والعاج، في تمويل أنشطتها.
5- ضعف تأثير جهود مكافحة الإرهاب في القارة، فقد اقتصرت على اتفاقية الجزائر في ١٩٩٩، والبروتوكول الإضافي لها سنة ٢٠٠٤، وكذلك المركز الإفريقي للدراسات والبحث حول الإرهاب. كما اتجه الاتحاد الإفريقي في مرحلة لاحقة إلى المشاركة العسكرية الفاعلة في مواجهة الجماعات الإرهابية من خلال الاعتماد على قدرات مجلس السلم والأمن. وكانت التجربة الأولى لتعامل القوات الإفريقية مع الجماعات الإرهابية في الصومال وبمواجهة حركة شـباب المجاهدين. وأخيرًا وجه مجلس السلم والأمن اهتمامه لهذه القضية، وتقديم توصيات لمفوضية الاتحاد حول سـبل مواجهتها. وفي عام 2014، ركز المسـئولون الأفارقة مناقشاتهم على المشكلات التي تواجه تفعيل الدور الإفريقي في مكافحة الإرهاب، وقدموا توصيات لمعالجتها، كان أبرزها: تصديق الدول الأعضاء على آليات وقرارات الاتحاد الإفريقي المتعلقة بالارهاب، وإجراءات معالجة نقاط الضعف التي تُعاني منها الدول الإفريقية، وتقوية الأطر القارية والإقليمية لتفعيل التعاون بين الدول الأعضاء، والتنسـيق بين دول الاتحاد فيما يتعلق بتبادل المعلومات.
ما الذي يمكن أن تقوم به مصر؟
يتضح مما سبق أن الإرهاب يمثل مشكلة حادة ضمن مشكلات القارة الإفريقية، وهو تحدٍّ حقيقي أيضًا أمام رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي لا يقل عن تحدي التنمية بالقارة. الجهود الإفريقية السابقة من بينها ما يستحق البناء عليه، لكن هناك خبرة مصرية رائدة في هذا المجال، لا شك ستكون حاضرة في تعامل مصر مع أجندة العمل الإفريقية خلال عام 2019. وتدرك القيادة المصرية أن المهمة ليست سهلة، فقد أكد السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” في كلمته أمام منتدى شباب العالم في نوفمبر 2018 ذلك، عندما قال: “لا يمكن إرجاع ظاهرة الإرهاب في القارة إلى سبب واحد، في ضوء تشابك العوامل الداخلية والإقليمية والدولية بشكل مركب ومتداخل”.
وواقع الأمر أن الرئيس المصري قدم رؤية واضحة للدور المصري، عندما قال: “مفيش تنمية أبدًا يمكن أن تتم دون أن يكون هناك استقرار، وإحنا لما جينا هنا في مصر اتعاملنا مع التحديات الموجودة في الدولة المصرية، وكانت عبارة عن جزء من التحديات الموجودة في إفريقيا، يعني إحنا مش بعيد عن الواقع الإفريقي كتير، لكن إحنا وضعنا الاستقرار والأمن أولوية علينا، لأن المستثمرين الأجانب أو حتى من المصريين القادرين على الاستثمار وكذلك الأفارقة لو وجدوا أن المناخ غير آمن وغير مستقر فلن يستثمروا، فكيف الحال مع المستثمرين الآخرين.. هييجي عندنا إزاي وإذا كان هو بيدينا قروض بضمانات أو بمخاطر عالية التكلفة؟”.
ولعل العمليات الإرهابية في الأيام السابقة تستهدف الإساءة إلى الجهود المصرية القوية في محاربة الإرهاب، وما زالت تلك الجهود مستمرة. وعلى مستوى محاربة الإرهاب إفريقيًّا، قد يكون من المناسب أن تبدأ مصر بتبني سياسات واضحة بجدول زمني لتنفيذ مشروع مكافحة الإرهاب في القارة والمعروف باسم “مشروع مارشال الإفريقي-الأوروبي”. فقد عُقد خلال الفترة (6-8) سبتمبر 2017، في العاصمة البوركينية (واجادوجو) مؤتمر دولي حضره المئات من الخبراء والأكاديميّين والعسكريّين من نحو عشر دول إفريقية وأوروبية، أعلنوا خلاله أن الهدف من هذا المؤتمر هو مواجهة التحدّيات الأمنية في منطقة السّاحل والصحراء، التي تمثّل نقطة انطلاق للتنظيمات الإرهابية في القارة الإفريقية. واعتمد المؤتمر بعض الركائز، مثل: تنفيذ برنامج مخصَّص للديون يُتيح للدول الإفريقية التسلح بالتجهيزات المناسبة من أجل مواجهة التحدّيات الأمنية، وإعداد استراتيجية لمكافحة الإرهاب على مستوى الدول الإفريقية، تندرج في إطار خطّة مشتركة على مستوى الاقتصادات المحلية.
ورغم أنه بعد نحو شَهْريَن من “قمّة مالي” التي اتفق فيها قادة مجموعة دول السّاحل الخمس (مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، وموريتانيا، وتشاد)، بمشاركة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، على إنشاء قوة إقليمية مشتركة ضدّ التنظيمات الإرهابية النّشطة بالمنطقة، قوامها 5 آلاف عنصر، بتكلفةٍ تُقدّر بنحو 423 مليون يورو، حيث اتفق الحضور على أن تبدأ تلك القوة مهامّها بنهاية العام الجاري؛ إلا أن هذه القوة لم يتم تفعيلها. ومن ثم، يمكن لمصر إعادة إحياء هذا المشروع بدون فرنسا، لكن اعتمادًا على قدرات أبناء القارة وبعض المنظمات الدولية والإقليمية.
إن وضوح الرؤية المصرية لدورها في إفريقيا، وترتيب الأولويات في مواجهة تحديات التنمية المستدامة للقارة الإفريقية؛ يتلاقى تمامًا مع آمال وطموحات أبنائها الذين يعولون على دور كبير لمصر لقيادة جهود مواجهة الإرهاب خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي في 2019، في ضوء ما تملكه من خبرات كبيرة في استراتيجيات وآليات مكافحة الإرهاب على كل المستويات الأمنية والفكرية. وربما بدأت مصر في إجراء بعض الخطوات العملية في هذا المجال، أبرزها تولّي مصر تدريب قوات من إقليم الساحل والصحراء على مكافحة الإرهاب، وتسريع أجهزة الدولة لمسار عملها في وضع تصورات مختلفة لإدارة الاتحاد في المرحلة المقبلة.