لا أدري ما سوف يكون عليه الحال يوم نشر المقال واطلاع القراء عليه؛ وما أعرفه وقت الكتابة أنه في صباح الجمعة 24 الشهر الجاري، وفي الساعة السابعة صباحاً، بدأت أول هدنة في حرب غزة الخامسة بين إسرائيل و«حماس». الهدنة أعطت أربعة أيام فقط يقف فيها القتال فيما عدا إعطاء إسرائيل حق استخدام سلاحها الجوي شمال قطاع غزة إلا من ست ساعات فقط يصمت فيها أزيز الطائرات. خلال فترة الهدنة يجري سباق مع الزمن لإدخال مئات الشاحنات حاملة احتياجات القطاع الأساسية من غذاء ودواء ووقود، وحمل الجرحى والمصابين إلى مستشفيات خارج القطاع عبر بوابة رفح المصرية. اتفاق الهدنة تضمن تسليم «حماس» وحلفائها من المقاتلين في تنظيمات أخرى خمسين رهينة خلال الأيام الأربعة، مقابل 300 أسير فلسطيني، وبالاتفاق سوف تعطي الأولوية للأطفال والنساء. حمل اتفاق الهدنة نافذة لاستمرارها ولو لأيام أخرى، إذا ما أفرجت «حماس» عن رهائن أخرى، فيكون لكل عشرة منهم يوم من وقف إطلاق النار. مثل هذه النافذة يمكنها إضافة أيام إضافية للهدنة، ولكن ذلك لم يكن مضموناً نظراً لعوامل لا يمكن التغاضي عنها تدفع في اتجاه استئناف القتال، وبشراسة أكثر مما كان عليه.
على الجانب الإسرائيلي، فإن الحكومة الإسرائيلية التي قبلت وقف إطلاق النار بصعوبة بالغة كان عليها فيها أن تبتلع اعتراضات الأحزاب الدينية المتطرفة، أعلنت بوضوح كامل أن الهدنة جاءت نتيجة الضغوط الدولية، وبخاصة من قبل الولايات المتحدة، وأنها سوف تستغلها في المزيد من الإعداد للجولة المقبلة من الحرب. من جانب «حماس»، فإنها طالبت دائماً بهدنة أكبر حتى يمكنها الاستعداد بشكل أكبر للجولة المقبلة التي سوف تحاول فيها الاستفادة من حرب المدن التي دخلتها إسرائيل التي سوف يكون عليها إدخال المدرعات الثقيلة إلى الشوارع الضيقة بفعل التدمير الواسع للمباني السكنية، فيسهل اصطيادها من المسافة صفر. الهدنة بالنسبة للطرفين طالت أم قصرت، ظلت «فرصة» الاستعداد لقتال جديد. في الوقت نفسه، فإن الهدنة رغم الاحتفال الدولي بها ظلت بعيدة على جبهتين، هما: «حزب الله» في شمال إسرائيل، والحوثيون في جنوب البحر الأحمر.
أياً ما كان خلال الأيام القليلة الماضية، فالمؤكد أن جهوداً مضنية قد بذلت من أجل استمرار الهدنة أو التفاوض حول هدنة جديدة، وخلال الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى عام 1948 عقدت أكثر من هدنة، وفي الأخيرة جرى التسليم بالأمر الواقع الذي انتهت الحرب إليه. وبينما هناك إصرار بين طرفي القتال – إسرائيل و«حماس» – على استمرار الحرب، فإن الواقع السياسي والدبلوماسي تغير كثيراً عما كان عليه عند بداية المعركة. هناك أربع حقائق تغيرت بشكل ملحوظ خلال الأسابيع الستة التي تلت السابع من الشهر المنصرم؛ أُولاها أن القضية الفلسطينية كسبت كثيراً من التعاطف الإنساني من ناحية، والنظر إليها باعتبارها مفتاحاً رئيسياً لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط من ناحية أخرى. حدث ذلك بسبب التغير غير المسبوق من قبل الرأي العام العالمي، والمجتمع الدولي في الواقع، للتعاطف مع الفلسطينيين، وجرى ذلك من دون استثناء داخل العالم الغربي وخارجه. والثانية أن واقع القتال لم يعطِ إسرائيل نتيجة حاسمة، لا في استعادة الرهائن ولا في تدمير «حماس» وحلفائها، ومثل ذلك في الحرب غير المتكافئة يحرم الأقوى من النصر ويمنح الأضعف الانتصار؛ لأنه لم يهزم. مثل ذلك جرى في فيتنام وأفغانستان والجزائر وحتى خلال حرب الثورة الأميركية على الاستعمار البريطاني. والثالثة أن آليات كثيرة قد جرت لخلق الجسور التفاوضية من أجل ليس فقط تحقيق «الهدن» الجديدة، وإنما للتعامل مع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال حل الدولتين الذي لم يعد عليه خلاف بين الدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن، ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية. ولا يقل أهمية عن ذلك أن فجوة جرت بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليس فقط فيما يتعلق بحل الدولتين، وإنما أيضاً كيفية التعامل مع قطاع غزة بعد وقف القتال، حيث أعلنت إسرائيل بإصرار أنها سوف تظل محتلة للقطاع لأجل غير مسمى، ولم تمانع من عودة المستوطنات إليها مرة أخرى. واشنطن من ناحيتها أعلنت أن الذي سوف يدير القطاع هم الفلسطينيون، ولم تمانع أن يكون ذلك من خلال منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية مع دعم عربي ودولي.
رابعها أن الدول العربية لم تكن ساكنة خلال حرب غزة الخامسة، ورغم السخونة العالية للقتال، والمأساة الإنسانية التي نجمت عنها، فإن مصر عقدت مؤتمراً للسلام خرج عنه بيان للدول العربية التسع (دول مجلس التعاون الخليجي الست ومعها مصر والأردن والمغرب) أدان بشدة الاعتداء على المدنيين في الجانبين، ودعا إلى عودة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية لكي تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. كان ذلك تمهيداً لانعقاد القمة العربية الإسلامية الاستثنائية التي سلمت بما توصلت إليه الدول التسع، وأضافت إليه آليات طرح الأمر على مجلس الأمن، والدول الخمس الدائمة العضوية، وطرح المخالفات الإنسانية الإسرائيلية على المحكمة الجنائية الدولية. في كل هذه الآليات كانت هناك معالجة نتائج القتال الحالية، ودعوة واسعة لكي لا يتكرر القتال مرة أخرى من خلال عملية سلام حقيقية تضع مساراً لدولة فلسطينية مستقلة.
بشكل ما، فإن ما جرى بين قمة القاهرة وقمة الرياض يشهر نزعة عربية نشطة تأخذ بتلابيب القضية الفلسطينية المزمنة في يدها من خلال وضع نظام للأمن الإقليمي، وحل المسألة الفلسطينية عن طريق مسار الدولة المستقلة، والمسألة الإسرائيلية من خلال سلام حقيقي يستوعب إسرائيل في الشرق الأوسط الذي يتخلص من التطرف الديني والعدوانية الشوفينية العنصرية، وينحو إلى بناء وتعاون إقليمي يتيح التنمية والرخاء.