تشهد الأسواق المصرية حاليا فى العديد من السلع والخدمات (مثل السكر والاسمدة والسجائر والأرز والدواجن.. إلخ) حالة من الفوضى والاضطراب، وأصبح لدينا توليفة عجيبة من الأسعار، القليل منها له أسس منطقية وعلمية مرتبطة بالتكلفة والعائد، والكثير منها مرتبط بالسلوك السائد بالأسواق. وهو ما دفع د. على مصيلحى وزير التموين لإعطاء مهلة لمدة عشرة أيام لإعادة الانضباط فى أسواق السكر مهددا باللجوء الى التسعير فى حالة عدم الالتزام بقواعد السوق. فمع اتفاقنا الكامل بأن المؤسسات يجب أن تدار على أسس اقتصادية بما يضمن الحفاظ على الأموال المستثمرة وتطويرها، وهو ما يتطلب أن تبيع إنتاجها بأسعار اقتصادية وبهامش ربح مناسب، فإن مايحدث بالسوق المصرية غير ذلك تماما.وقد أصابت هذه السلوكيات التضخمية الأسواق بمزيد من الارتباك، خاصة مع ازدياد الشعور بعدم اليقين فى السياسات المستقبلية، وهو ما يغذى الضغوط التضخمية. ومن المفارقات أن هذه العملية تتزامن مع انخفاض الضغوط التضخمية بالأسواق العالمية وتراجع معدلات التضخم، فضلا عن المبادرة الحكومية بالتعاون مع الغرف التجارية والصناعية والهادفة الى خفض الأسعار وماتبعها من إجراءات حكومية تتعلق بتعليق العمل بعدد من الرسوم والجمارك على بعض مستلزمات الإنتاج لمجموعة من السلع ولمدة ستة اشهر، فضلا عن خفض مقابل التخزين فى الموانى لمنع تكدس الحاويات والبضائع ولسرعة توفير السلع والخدمات وكذلك قيام البنك المركزى بإتاحة وتوفير العملات الأجنبية وتخفيف إجراءات فتح الاعتمادات وسرعة تسهيلها، وهو ما ساعد على إبطاء معدل التضخم العام خلال شهر أكتوبر مقارنة بالشهور السابقة، خاصة للسلع غير الغذائية. وذلك على الرغم من ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية مثل الألبان ومنتجاتها والسكر الحر والأرز والأسماك وبعض الخدمات. ويمكننا القول دون أدنى تجاوز للحقيقة إن السلوك السائد حاليا يرجع الى سيادة انطباع لدى البعض بان اقتصاد السوق يعنى الحرية المطلقة لأصحاب الاعمال والتجار وغيرهما من اللاعبين الأساسيين فى فرض سطوتهم على الأسواق والتحكم فى الأسعار.وهو غير صحيح على الاطلاق، إذ إن المفهوم الصحيح لاقتصاد السوق يشير ببساطة الى تفاعل قوى العرض والطلب فى إطار مؤسسى وقانونى سليم يضمن عمل الأسواق بطريقة صحيحة، وهو ما يتطلب وجود إطار مؤسسى قوى ينظم هذه العملية. وبالتالى فان نظام السوق له مقومات أساسية ورئيسية لابد من استيفائها حتى يحقق الغرض منه، فى مقدمتها وضع المؤسسات المناسبة لتحقيق الانضباط والأطر التى تحمى حقوق كل الأطراف. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود اجهزة رقابية قوية تستطيع مواجهة الأفعال الضارة بالسوق والتى تعيق قدرة الاطراف على اتخاذ قراراتهم وفقا للاعتبارات الاقتصادية وحدها. وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن الأفعال التى تهدف إلى الإضرار بالمستهلك او الكيانات العاملة بالسوق. فيما اصطلح على تسميته بالوظيفة التنظيمية للدولة والتى تشمل منع الممارسات الاحتكارية والسيطرة عليها وحماية المستهلك. ولا ينبغى النظر لهذه الرقابة على أنها تدخل فى عمل الأسواق بالمعنى الذى يفقدها حرية المبادرة، وإنما الرقابة هدفها مواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق. ولا يمكن إنكار أن المستهلك فى مصر يمثل أضعف حلقات التعامل، وأن هناك ضرورة لحمايته، وأساس ذلك أن المستهلك يمثل محور العملية الاقتصادية بالنظر إلى قيام اقتصاد السوق على مبدأ أساسى فحواه هو أن تخصيص الموارد بين أوجه النشاط الاقتصادى المختلفة تتم فى التحليل الأخير وفقا لرغبات المستهلك.وبالتالي، فإن حماية المستهلك وتنظيم المنافسة من أهم أهداف الرقابة على الأسواق، ويمكن النظر إلى كل منهما على أنهما يهدفان، فى التحليل الأخير، إلى تحقيق ذات الأهداف ومن خلال وسائل متشابهة. ومن هنا أتت أهمية النظرة المشتركة لهما ضمن فعاليات الرقابة على الأسواق. لذلك يجب العمل على ضبط إيقاع السوق وتفعيل الدور الرقابى الرسمى والشعبى من أجل حماية المواطن من أى أضرار قد يتعرض لها كنتيجة لتسلل بعض السلع والمنتجات غير معلومة المصدر أو غير المتوافقة مع المواصفات القياسية الدولية. وكلها أمور لن تتأتى إلا عبر تنظيم السوق وضمان كفاءة آلية العرض والطلب بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التى تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى إطار تنافسى حقيقى بعيدا عن الاحتكارات. وكذلك توفير المناخ الاستثمارى الجيد عن طريق إصلاح التشريعات القانونية والإدارية. ووضع القوانين موضع التنفيذ. وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة فى الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو. من هذا المنطلق فان مواجهة مشكلات التضخم والبطالة وغيرهما، تحتاج الى تفعيل دور الدولة لتعويض أوجه النقص فى عمل نظام السوق. وهو ما يتطلب بالضرورة إطارا قانونيا سليما يضمن وجود حزمة من القوانين المدنية والتجارية الواضحة والمعلن عنها بالقدر الكافي، مع إنفاذ القواعد القانونية والتنظيمية ووجود جهاز قضائى مستقل، وزيادة الشفافية مع تفعيل المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وضمان حماية المستهلك، وكذلك هناك إمكانيات كبيرة لمساهمة القطاع الخاص فى تهدئة الضغوط التضخمية السائدة بالبلاد، وهو ما ينعكس بالإيجاب على المناخ الاستثمارى ويساعد القطاع الخاص نفسه على إجراء وتقدير جدوى استثماراته المستقبلية بصورة صحيحة تمكنه من اتخاذ القرار الاستثمارى السليم. ورغم أن هذه الإجراءات وغيرها قد تستغرق بعض الوقت فإنها تعتبر ضرورة قصوى لضمان انضباط الأسواق ومحاربة التضخم وهى إحدى الآليات الجوهرية لحماية حقوق جميع الأطراف فى المجتمع. إذ إن السياسة الصحيحة هى التى تعمل على ضمان حصول المواطن على السلعة الجيدة بالأسعار المناسبة بما يحقق له مستوى معيشة لائقا. جنبا إلى جنب مع العمل على مساندة الصناعة المحلية وتدعيم المنتج المصرى وتشجيعه على الوقوف امام المنافسة العالمية غير العادلة، وكلها أمور تصب فى النهاية لمصلحة المواطن وتساعد على تهدئة الأسعار، وزيادة الصادرات وفتح مجالات جديدة للاستثمار.
السوق المصرية بين الفوضى والتنظيم

عبد الفتاح الجبالي - عضو الهيئة الاستشارية
وقت القراءة: 7 دقيقة
استمع للمقال
عبد الفتاح الجبالي
تابعنا
تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة
احدث إصدارات مكتبه المركز
Sale
0%
EGP140.00
EGP0.00
Sale
50%
EGP100.00
EGP50.00
Sale
0%
EGP140.00
EGP0.00
Sale
0%
EGP140.00
EGP0.00
No products found