خلال السنوات الأخيرة، سجّلت دولة المغرب نجاحات كبيرة في مجال مكافحة التطرف والإرهاب، من خلال تفكيك العشرات من الخلايا الإرهابية، سواء تلك المرتبطة بتنظيم “القاعدة” الأم، أو بفرعها في شمال إفريقيا، أو تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، وتلك المرتبطة أيضًا بتنظيم “داعش”. كما نجحت المغرب في إحباط العديد من العمليات التخريبية التي كانت تستهدف الأجهزة الأمنية، والمؤسسات الوطنية، والمرافق السياحية، والبعثات الدبلوماسية، وبعض المسئولين، ودور عبادة للمسيحيين واليهود.
ويُعزَى هذا النجاح إلى تبني المغرب مقاربة “متعددة الأبعاد”، يتداخل فيها ما هو أمني مع ما هو سياسي وتنموي، وما هو إصلاح ديني، موضوع هذا المقال.
لم يكن من المتصور نجاح المغرب في مواجهة التطرف الإقليمي والمجتمعي بدون الحفاظ على انتشار الإسلام السمح الذي يشجع على الوسطية، ويدعو إلى نبذ العنف وإعلاء قيم التعايش، وعدم التمييز على أسس دينية أو مذهبية، على مر التاريخ، بفضل موروثه الفقهي المعتدل، والوحدة الدينية والمذهبية، والتواصل الروحي والوجداني مع محيطه الاقليمي. فقد سهرت الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ الحكم المرابطي على حماية هذه الخواص، التي يتميز بها المغرب، وضبطها بناء على مؤسسة “إمارة المؤمنين” والبيعة الشرعية والوجدانية المتجذرة بين ملوك المغرب وقبائل وشعوب الغرب الإفريقي خاصة، وطرقها الصوفية.
وقد كان الموحدون أول من تبنى صفة “إمارة المؤمنين”، واستمرت وتكرست مع السعديين الذين اعتبروا أنه بحكم انتمائهم إلى السلالة النبوية هم أحق بتلك التسمية من باقي السلاطين. تم تكرست أكثر مع العلويين بحكم انتمائهم أيضًا إلى البيت النبوي. وتلعب هذه المؤسسة إلى اليوم دورًا محوريًّا، ليس فقط على مستوى إبعاد المغرب عن أية مزايدات دينية ذات دوافع سياسية، لكن أيضًا باعتبارها “سلطة روحية” يتمتع بها ملك المغرب، تُكسِب المملكة مصداقية روحية، وتمكِّنها من مواجهة التطرف وإشاعة الإسلام المعتدل.
الدستور المغربي ينص في الفقرة الأولى من الفصل 41 على أن “الملك أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشئون الدينية”. والمقصود بإمارة المؤمنين هنا مجموعة من المؤسسات التي تشرف على تدبير الشأن الديني في البلاد، والتي تخضع جميعها لإمارة المؤمنين. ما يعني أن الشأن الديني في المغرب هو من شأن إمارة المؤمنين، أي من شأن الملك بصفته الدينية. والملك يقوم بتفويض تدبير الشأن الديني لمجموعة من المؤسسات التي تبقى تابعة له وتسترشد به. وكل هذه المؤسسات الدينية لديها تصور مندمج فيما يتعلق بمكافحة التطرف، حيث تعمل على إصلاح الخطاب الديني، ومراقبة منابر الخطابة في المساجد حتى لا يقع أي انزلاق أو انحراف عن الخطاب الرسمي، والتأكيد على ثوابت الأمة، وهي: الملكية، الأشعرية، والتصوف السني.
وتقوم المرجعية الدينية المغربية على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وهي تنبني على فضائل الاعتدال والوسطية في كل شيء، ما حصّن المغرب على الدوام ضد التيارات المتطرفة. كما شكّلت الطوائف الصوفية بتعبيراتها المختلفة حاضنة للتربية الروحية، حيث كانت الممارسة الصوفية هي الشكل السائد للتدين في المجتمع المغربي. هذه الممارسة كانت ترتكز على ثقافة الانشغال بالدين بمفهومه الطقوسي والشعائري السمح بعيدًا عن الخوض في أمور الشأن العام. ومنذ اعتداءات الدار البيضاء الإرهابية في 16 مايو 2003، عمد المغرب إلى الاهتمام بالتصوف كوسيلة للنهوض بالإسلام المعتدل المتسامح.
ووعيًا منه بمخاطر التطرف وموجات الإرهاب التي اجتاحت العالم منذ أحداث 11 سبتمبر، أولى المغرب أهمية كبرى للحقل الديني، وجعل تأهيله من المشاريع الإصلاحية التي ترمي إلى توفير الأمن الروحي للأمة وتحصينها، وأيضًا مواكبة الحاضر الاجتماعي ومواجهة التحديات والمخاطر الآنية والمستقبلية. وفي هذا السياق، قام المغرب بتعميم نشرة رسمية على الأئمة، كما قام بتوسيع البرامج التعليمية التي تشجع على الاعتدال والنسبية الثقافية والتفكير الناقد، وإعادة تنظيم كيانات الدولة الدينية من أجل حماية المواطنين من أشكال الإسلام العدائية والمتطرفة.
وتضمنت هذه البرامج التركيز على دور العلماء في تنوير العقول ومسح الغبار عن أية مغالطات دينية، حيث يقوم 1500 عالم، أو من هم في حكمهم، بتأطير وتأهيل أئمة المساجد الذين يبلغ عددهم 50 إمامًا، باعتبارهم المدفعية الناعمة في وجه الغلو والتطرف بكل أشكاله. وقد تلقّى المغرب في هذا الجانب -اعترافًا بالدور الذي يقوم به في هذا المجال- طلبات من العديد من البلدان الإفريقية لتكوين أئمة على قاعدة الوسطية ونبذ الغلو والتطرف. أما بخصوص الفتاوى، فكل فتوى لا تصدر عن المجلس العلمي الأعلى، الذي يترأسه الملك، لا تعدو كونها مجرد “رأي”، وذلك لتفادي فوضى الفتاوي وهرج الادعاءات.
من ناحية أخرى، تم تأسيس “مديرية التعليم العتيق” داخل وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، والتي تهدف عبر مؤسساتها إلى تحفيظ القرآن الكريم، ونشر ثقافة الفكر المعتدل والانفتاح على الثقافات، بجانب مراجعة القوانين التي ترعى أماكن العبادة الإسلامية، وتشكيل مجلس ديني في أوروبا للجالية المغربية، والاستعانة بالمحطات الإذاعية والتلفزيونية للترويج للتعاليم المعتدلة، ومراجعة الكتب والمناهج الدراسية بهدف حذف ما له علاقة بالترغيب المتطرف في العنف.
وفي السياق نفسه، دشن المغرب “معهد محمد السادس لتأهيل الأئمة المرشدين والمرشدات”، وهو المعهد المخصص لاستقبال الأئمة، سواء المغاربة أو من البلدان العربية والإفريقية والأوروبية، تماشيًا مع نفس الاستراتيجية التي تهدف إلى بث قيم الإسلام المعتدل لدى الأجيال الشابة من الأئمة المرشدين والمرشدات، وتحصين المغرب من نزعات التطرف التي باتت تنتشر بصورة كبيرة وتهدد عدم استقرار المنطقة والعالم. ويقوم المعهد، إلى جانب باقي المؤسسات المعنية بنفس الهدف بدور مهم في الحفاظ على الهوية الإسلامية للمغرب التي تحمل طابع الاعتدال والانفتاح والتسامح.
ووعيًا منه بمخاطر السجون كحواضن للفكر المتطرف، اعتمد المغرب على برامج لإعادة الادماج من داخل السجون. حيث يُمنح للمسجونين المغاربة فرصة متابعة تحصيلهم العلمي لكي ينالوا شهادات جامعية، فيما تتولى الحكومة مهمة القيام بشراكات مع المؤسسات الخاصة لتوفير فرص العمل والتدريب والتوظيف في النهاية لهؤلاء السجناء بعد الإفراج عنهم. وقد نجحت تجربة إعادة الادماج المغربية في عقد تصالح بين الدولة وبعض رموز السلفية الجهادية، الذين استفادوا من عفو ملكي بعدما أظهروا قيامهم بمراجعات فكرية، وانعتاقهم من الفكر المتطرف، وعلى رأسهم “عبدالوهاب رفيقي” المعروف بأبو حفص، و”محمد الفيزازي” الذي قضى في السجن عدة سنوات بسبب تحريضه على العنف ضد الأجانب، وضلوعه في تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، قبل أن يتراجع عن فكره الضال ويحظى بعفو ملكي. وبعد حصوله على العفو طُلب منه أن يؤم ملك البلاد في صلاة الجمعة، بكل ما تحمله هذه البادرة من رمزية ورسائل اعتدال وتسامح.
إن الجهود التي يبذلها المغرب لمواجهة التطرف، واجتثاثه من جذوره، يمكن أن تكون نموذجًا يُحتذى به في المنطقة والعالم. الدرس المهم الذي يمكن استلهامه من الحالة المغربية هي ضرورة إصلاح الحقل الديني وتجديد خطابه، ونقض النصوص التي يتسلل عبرها المتطرفون والمتشددون والإرهابيون من خلال استغلال أحاديث ضعيفة، أو خارجة عن سياقها الزمني، أو فتاوى منحرفة، من أجل بناء فكر دموي عقيم يسيء لصورة الإسلام والمسلمين.
إن مكافحة التطرف تحتاج إلى صياغة خطاب ديني يحض على التسامح والاعتدال، جاذب للشباب، ويجعل الدين مصدر راحة وهدوء، بدلًا من جعله مصدرًا يبعث على النفور أو التطرف من فرط الغلو.