تعود جذور صناعة السكر في مصر إلى القرن الثامن الميلادي، حيث كانت تتم بطريقة تقليدية بدائية. ظلت هذه الصناعة على هذا الحال حتى عام 1818، عندما أدخل محمد علي باشا عصر صناعة السكر الحديث في مصر. في ذلك العام، قرر محمد علي باشا إنشاء أول مصنع سكر في مصر في قرية الريمون بمحافظة المنيا في صعيد مصر. استعان محمد علي باشا بمهندس إنجليزي يُدعى “بريم” لإدارة هذا المصنع، ثم استعان لاحقًا بفنيين إيطاليين. في عام 1834، تم إنشاء مصنعين آخرين في محافظة المنيا. وفي عام 1846، استعان محمد علي باشا بفنيين فرنسيين لتشغيل وإدارة أحد هذه المصانع. وفي عام 1848، تم إنشاء أربعة مصانع أخرى لإنتاج السكر في محافظات الجيزة والمنيا وقنا. خلال فترة حكم الخديوي إسماعيل باشا، تم إيلاء اهتمام خاص بصناعة السكر. فقد اتخذ الخديوي قرارًا بتحويل السكر إلى سلعة استراتيجية للاقتصاد المصري تنافس القطن. ونتيجة لذلك، تم إنشاء 18 مصنعًا للسكر في عدة أقاليم في مصر، بدءًا من محافظة بني سويف وحتى محافظة قنا جنوبًا. من بين هذه المصانع، كان مصنع أرمنت الذي بدأ العمل في عام 1869. وقد تزامن تشغيل هذا المصنع مع افتتاح قناة السويس. ولا يزال هذا المصنع يعمل حتى اليوم بعد تنفيذ عمليات إحلال وتجديد. ويشكل إنتاجه جزءًا مهمًا من إنتاج مصر من سكر القصب.
من التوسع إلى التراجع
في عام 1881، تم إنشاء شركة برأس مال مصري وبلجيكي لتكرير السكر في مدينة الحوامدية بمحافظة الجيزة. سميت الشركة “شركة التكرير المصرية”. وفي عام 1895، تم إنشاء الشركة العامة لمصانع السكر في الوجه القبلي بمصر. أسست هذه الشركة مصنعًا في محافظة قنا يُدعى “مصنع الشيخ فضل”. في عام 1920، تم إعادة هيكلة الشركة العامة لمصانع السكر في الوجه القبلي ليقتصر نشاطها على خمسة مصانع فقط في مناطق مطاي، الشيخ فضل، أبو قرقاص، نجع حمادي، وأرمنت. بالإضافة إلى مصنع تكرير السكر بالحوامدية. واجه هذا التوسع هجومًا شرسًا من السكر المستورد. ونتيجة لذلك، تعثرت صناعة السكر في مصر في عام 1930. دفع ذلك الحكومة المصرية إلى إبرام اتفاقية مع الشركة العامة لمصانع السكر والتكرير المصرية في عام 1930. سميت هذه الاتفاقية “اتفاقية ربجي”. وفرت الاتفاقية الحماية لصناعة السكر المصرية من خلال فرض رسوم جمركية على السكر المستورد. هاجمت الأحزاب المعارضة في ذلك الوقت اتفاقية ربجي. فقد اعتبروها دعمًا لاحتكار الشركة المصرية لسوق السكر المحلي.
هيكل الصناعة
تعتمد صناعة السكر في مصر على محصولين رئيسيين: هما قصب السكر وبنجر السكر. بدأ الاعتماد على محصول القصب في مصر في القرن السابع الميلادي، واستمر الوضع على هذا الحال حتى سبعينيات القرن الماضي. في ذلك الوقت، تزايد الاستهلاك المحلي للسكر بشكل كبير، وبدأ الاستيراد. دفع ذلك الدولة المصرية إلى التوجه لتصنيع السكر من البنجر أيضًا. تبلغ المساحة المنزرعة من محصول القصب في مصر حوالي 275 ألف فدان. يتم توريد إنتاج حوالي 235 ألف فدان منها لمصانع السكر، بينما يتم توجيه المتبقي إلى الاستخدامات الأخرى. ويستهلك ري فدان واحد من قصب السكر حوالي 8.2 ألف متر مكعب. يمثل استهلاك قصب السكر منها حوالي 75%، بينما تذهب نسبة 25% المتبقية في البنجر. تبلغ إنتاجية فدان القصب في المتوسط حوالي 4.5 أطنان من السكر، وحوالي 2 طن من العسل الأسود (المولاس). يساهم الفدان أيضًا بحوالي 17 طن عليقة خضراء ممثلة في “القالوح” والتي تستخدم كغذاء للماشية. وفي بعض الأحيان، يتم استخدام قصب السكر كمصدر للطاقة بتحويله إلى إيثانول كوقود. تحتل مصر المركز الثاني عشر على مستوى العالم في تصنيع السكر. كما تعد مصدرًا رئيسيًا للقصب الذي يصدر إلى العديد من دول العالم.
تمر صناعة السكر بسبع مراحل رئيسية بداية من توريد القصب من المزارع إلى المصانع، ثم عصر القصب لاستخلاص العصير، ثم معالجة عصير السكر من خلال التسخين ثم الترشيح، ثم التبخير لزيادة تركيز العصير، ثم الطبخ لبلورة السكر، ثم النفض والتي يتم فيها نفض البلورات عن الأرض، ثم التجفيف والتعبئة والتغليف ليصبح جاهزًا للاستهلاك.
Figure 1: مراحل صناعة السكر
تمتلك مصر قاعدة صناعية عريقة لقصب السكر تشمل شركات مثل (شركة السكر والصناعات التكاملية المصرية، شركة الفيوم لصناعة السكر، وشركة النوبارية وهي من أهم مصانع السكر، الدقهلية لصناعة وتكرير السكر، شركة الدلتا للسكر، وشركة مصر للسكر، مصنع سكر أبو قرقاص، سكر السعيد، الإخوة العرب لصناعة السكر، ويأتي مصنع النوران بالصالحية كأحد أكبر المصانع التي تم افتتاحها في عام 2017 بمحافظة الشرقية بتكلفة حوالي 6 مليارات دولار في المرحلة الأولى منها، يوفر ذلك المصنع حوالي 25% من استهلاك المصريين أي أن إنتاجه السنوي يبلغ حوالي 700 ألف طن سنويًا، وعليه فيمكن تقسيم الإنتاج المصري من السكر إلى 800 ألف طن سكر من قصب السكر يتم إنتاجه من جانب شركة السكر والصناعات الكيماوية، و1.2 مليون طن من سكر البنجر يتم إنتاجه من باقي الشركات الحكومية والقطاع الخاص، هذا إلى جانب حوالي 700 ألف طن يتم إنتاجه من جانب القطاع الخاص، وهو ما يضيف للطاقة الإنتاجية لمصر ويضعها في المرتبة 12 عالميًا.
مع كل ذلك التاريخ العريق في الصناعة والبنية التحتية الكبيرة والخبرات المتراكمة على مر السنوات تمر مصر حاليًا بأزمة في سوق السكر تدفع أسعاره إلى قرابة 50 جم للكيلو جرام وعلى الرغم مما تم الإشارة إليه من جانب وزارة التموين بوجود حوالي 550 ألف طن من السكر لدى شركاتها ومصانعها الحكومية، وحوالي 120 إلى 150 ألف طن من السكر من جانب القطاع الخاص، مع سعي وزارة التموين إلى استيراد ما يقرب من 400 إلى 500 ألف طن من السكر مع مطلع العام القادم (بما يمثل فجوة الطلب بالسوق)، فقد أصدرت الوزارة توجيهاتها لزيادة المعروض من السكر بحوالي 20% لاحتواء أزمة السكر بمصر، هذا فضلًا إلى الاتفاق مع الشركات العاملة في مجال إنتاج السكر بمصر على أن يكون سعر كيلو السكر بين 24 – 25 جم للكيلو مع بداية العام المقبل مؤكدًا أن هذا السعر هو سعر عادل تم احتسابه بناءً على تكلفة الإنتاج مضافًا إليها هامش ربح.
أسباب الارتفاع
يرجح البعض سبب ارتفاع السكر حاليًا بالسوق ووصوله إلى تلك المستويات هو إحجام القطاع الخاص عن استيراد السكر من الخارج خلال الأشهر الست الماضية بعد ارتفاع أسعار السكر عالميًا إذ ارتفع سعر الطن عالميًا من 390 دولار للطن في سبتمبر 2022 ليصل إلى 580 دولار للطن في سبتمبر 2023 بنسبة زيادة بحوالي 48%، وهو ما حمل وزارة التموين لتلبية احتياجات الطلب من جانب القطاع الخاص بعد استيفاء الطلبات الخاصة بالبطاقات التموينية التي تستحوذ على حوالي 35% من حجم الاستهلاك المحلي للسكر.
الشكل 1: قاعدة بيانات indexmundi – ديسمبر – 2023
الشكل 2: قاعدة بيانات البنك الدولي – منظمة الفاو – المؤسسة الدولية للسكر
يرتبط سعر السكر عالميًا بسعر البترول، إذ أن استخدام قصب السكر لإنتاج وقود الإيثانول الذي يستخدم كوقود للسيارات هو بديل عن الوقود الأحفوري المولد عن البترول، إذ أن قصب السكر يحتوي في أنسجته على مركبين عامين وهما النشا والسكروز واللذان يتحولان إلى الإيثانول إما من خلال عملية التخمر، وعادة ما يتم خلط ذلك الإيثانول الحيوي بالوقود الأحفوري المستخدم في السيارات بنسب 20% لكل لتر وهو ما يبرز أهمية قصب السكر كبديل للوقود الأحفوري ويخلق حالة الارتباط بين سعر السكر وبين سعر برميل البترول، وعلى الرغم من أنه من الناحية البيئية فإن ذلك الوقود الحيوي أو ما يسمى بالـبايو-إيثانول هو أمر جيد للغاية بالنسبة لخفض انبعاثات الكربون ومفيد للبيئة إلا أن ذلك الوقود الحيوي زاد الطلب على الحبوب والنباتات السكرية لأغراض غير الاستهلاك في الطعام؛ الأمر الذي رفع من تكلفة الغذاء عالميًا.
بنية تحتية قوية
لكن بالنظر إلى جهود مصر في مجال صناعة السكر في السنوات الماضية، فقد توسعت الدولة في زراعة قصب السكر لترتفع بالرقعة الزراعية من 340 ألف فدان لتصل إلى 1.5 مليون فدان، وأطلقت مشروع مستقبل مصر لزراعة بنجر السكر، وأصبح لدى مصر مساحة لا تقل عن 630 ألف فدان منزرعة بمحصول بنجر السكر، تلك المساحة المنزرعة تنتج حوالي 12.5 مليون طن بنجر تساهم في إنتاج حوالي 1.8 مليون طن من السكر، وأصبح هناك ثماني مصانع لإنتاج السكر من البنجر، إذًا فلماذا ارتفع سعر السكر في مصر وسط تلك الإمكانيات الكبيرة؟
تشير الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار السكر إلى وجود أزمة في سلسلة التوزيع الخاصة به، إذ قام عدد كبير من التجار والموزعين بتخزين كامل الكميات المنتجة من السكر لاستغلال التذبذبات في سوق صرف العملة المصرية والأسعار بالسوق الموازية لبيع السكر بسعر أعلى في المستقبل، وهو ما خلق شُحًّا في المعروض من السكر ودفع بأسعار الكميات الموجودة بالسوق للارتفاع بشكل قياسي، لكن هناك عددًا آخر من الوكلاء أشاروا إلى أن المصانع الحكومية والخاصة لم تعد توفر الكميات للوكلاء منذ أكثر من شهر وتكتفي ببيع المخزون لديها من خلال بورصة السلع بحوالي 250 طن أسبوعيًا، ومن ثم فإن معظم أسباب الارتفاع في السكر تعود بشكل مباشر إلى ممارسات الاحتكار.
من جانب آخر فقد عكفت وزارة التموين ممثلة في الهيئة العامة للسلع التموينية لطرح مناقصة لاستيراد 50 ألف طن سكر بهدف زيادة المعروض المحلي من السكر على الرغم من سابق اعترافها أن الأزمة الحالية ليس لها علاقة بالمعروض من السكر؛ بل هي ممارسات احتكارية من تجار الجملة، إلا أن الوزارة تدرس البدائل الحالية للتعامل مع الأزمة بداية من التوصل لاتفاق مع تجار الجملة لطرح الكميات المخزنة بالسوق لزيادة المعروض، وتكثيف الحملات التفتيشية على مخازن السكر بالبلاد للتأكد من عدم وجود ممارسات احتكارية، وقد ذهبت بعض الآراء إلى إمكانية النظر في فرض تسعيرة جبرية للسكر، يمكن لتلك الحلول أن تساهم في حل الأزمة الحالية لكنها قد لا تمنع تكرارها في المستقبل، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر في إنشاء سلسلة توريد وتوزيع أكثر انتظامًا من جانب وزارة التموين تطبق فيها تكنولوجيا المعلومات لمعرفة الكميات المبيعة من المواد التموينية وعدم تخزين التجار لها، وقد يتطلب الأمر وجود أسطول توزيع مملوك لوزارة التموين بشكل مباشر للتدخل في حالة الطوارئ لعلاج اختلالات السوق، لكن الأمر المؤكد حاليًا أنه وفقًا لإمكانيات مصر الإنتاجية من السكر والتي سبق الإشارة إليها وحجم الطلب والعرض أن أزمة السكر الحالية هي أزمة قصيرة الأجل بسبب الممارسات الاحتكارية وهي في طريقها للحل في أقرب وقت، إذ أن ديناميكيات السوق تشير إلى قدرة مصر على تحقيق الاكتفاء الذاتي في منتج السكر.