ترادف بعض الأدبيات بين مفهوم الدفاع “Defense”، ومفهوم السياسة الدفاعية “Defensive policy”. الدفاع يعني حماية القوات المسلحة، وتغطيتها أثناء الحرب، أو أثناء الاشتباك، وصد أي هجوم عليها، ما عدا الحالات التي تبدأ فيها الدولة الهجوم، فيما عدا هذا يجب أن تكون القوات في وضع دفاعي، يحمي أفرادها وأسلحتها بقدر الإمكان.
لقد اعتبر المفكر العسكري كلاوفيتز أنّ الدفاع هو الأسلوب الأقل حسمًا في الحرب، لكنه اعتبره الأسلوب الأقوى لحرمان العدو من تحقيق أهدافه، إضافة إلى ما يحققه الدفاع من الإخفاء والسبق في احتلال مواقع دفاعية، وقصر خطوط الإمداد، فضلًا عن إدارة القتال في مناطق معروفة تمامًا للمدافع.
والدفاع هو أحد الأشكال الرئيسية لأعمال القتال، الذي لم يفقد أهميته، على الرغم من التطور الهائل في وسائل الصراع المسلح الحديثة. ويرى كثير من المتخصصين أن الدفاع ليس فعلًا أحادي الاتجاه، بل هو عملية على اعتبار، أن العملية الدفاعية تبدأ عادة بقتال تعطيلي لصد العدو المهاجم، وإحداث أكبر خسائر ممكنة في العدو، ومنعه من توسيع عملياته الهجومية.
متطلبات العملية الدفاعية متعددة، أهمها:
- عدم السماح لكل القوات بالاشتباك في نفس الوقت.
- عدم تعريض جبهة الاشتباك للقصف، فمن الضروري الاحتفاظ ببعض القوات في العمق، سواء لتمثل مددًا للقوات المشتبكة، أو لتسحب الاشتباك لمنطقة أخرى، كما يمكنهم أن يهاجموا القوات المتسللة للعدو.
- اعتماد الدفاع من خلال الهجوم باعتبار أنّ ذلك هو الضمان الحقيقي لتأمين القوات، وتقويض توغل العدو. وهو ما يطلق عليه بعض العسكريين الدفاع الإيجابي، كبديل عن الدفاع السلبي الذي يكتفي بالصد والتأمين أمام قوات العدو.
- الهجوم من وضعية الدفاع من شأنه أن يربك العدو، خاصّة إذا كان يستعد للهجوم، وقد تم في العديد من الحروب تباع هذا التكتيك الدفاعي، باستدراج الخصم للعمق ثم مهاجمته، مثل: موقعة حطين عام 1187م- 583ه، المعارك السوفيتية – الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
- إدراك أنّ الدفاع الناجح هو مزيج من السعي لتحقيق أهم الأهداف، من خلال أقصى توظيف للقوات والإمكانيات.
وبهذا المعني للدفاع، فإنّ الحرب الدفاعية من وجهة نظر كلاوفيتز “سياسيًا، هي الحرب التي تخوضها الدولة سعيًا للاستقلال، أو لتحرير أراضيها من الاحتلال. وعسكريًا هي الحرب التي تستعد لها الدولة لمواجهة العدو في المسرح الذي أعد لهذا الغرض”().
فالدفاع في معناه الواسع لا يعني انتظار العدو ثم مواجهته، بل يعني التحضير والاستعداد للمواجهة، مع ظهور أية نوايا للهجوم لدى العدو، أو مع حصوله على أسلحة، ومعدات جديدة.
وعامة، يتفق الخبراء العسكريون على أنّ الدفاع –الناجح- هو مرحلة أولى فقط في المواجهة، تنتهي برد الاعتداء، ولكن يجب أن يتبع ذلك تطوير للدفاع ليصبح هجومًا على العدو، حتى لا يفشل الدفاع. والدفاع بهذا المعنى لا يظهر إلا في حالة الاشتباك العسكري الفعلي، أو الاستعداد له، حتى وإن كانت الخطط الدفاعية متواجدة باستمرار.
الدفاع النشط الاستراتيجي
ظهرت العديد من النظريات التي تعبر عن الخطط الدفاعية للدول، مثل: نظرية الدفاع الثابت، ونظرية الاقتراب غير المباشر، ونظرية الدفاع المرن، ونظرية الدفاع السلبي، ونظرية الدفاع النشط. ولا شك أنّ هناك قواسم مشتركة بين هذه النظريات، إذ تهدف جميعها لمنع تحقق هجوم العدو، أو على الأقل منع وصوله للدفاعات الرئيسية.
في عام 1973 قام الجيش الأمريكي بتشكيل قيادة التدريب والعقيدة (TRADOC)()، التي أسست عام 1976 عقيدة جديدة للجيش أطلق عليها “الدفاع النشط”، وكانت خطوة على الطريق، لمواجهة التهديدات السوفيتية المحتملة، وجاءت لتترجم حاجة حلف شمال الأطلنطي إلى الدفاع المتقدم، على أنه منهج علمي؛ وبالتالي فقد حولت ما بدا ظاهريًا، وكأنه ضرورة استراتيجية إلى ميزة تكتيكية.
وتعد نظرية الدفاع النشط الاستراتيجي من النظريات التي أثارت جدالًا بين الباحثين الاستراتيجيين، وكذلك بين العسكريين، هذا الجدال يعود لعدة اعتبارات، أهمها: الخلط بين مفهوم الدفاع النشط والاستباق، والتطبيقات التاريخية لهذه النظرية، وكذلك التطور الذي لحق بها بعد تغلغل التكنولوجيا وعلوم الشبكات، في كثير من النظم التسليحية، التي تعتمد عليها الدول، وأخيرًا استخدام بعض الدول الكبرى لعدة مفاهيم بدلالات متقاربة، فما بين الدفاع النشط الاستراتيجي (الصين)، والردع الاستراتيجي الشامل (الولايات المتحدة الأمريكية).
تعريف الدفاع النشط الاستراتيجي
الدفاع النشط الاستراتيجي هو أحد أشكال الدفاع الذي يتميز بالمرونة وخفة الحركة، ويعتمد على الاكتشاف المبكر لتقدم قوات العدو الرئيسية، والمناورة بالقوات والنيران، لقتال العدو على مواقع تعطيله، تنظم مسبقًا، لكل عناصر تشكيل القتال، وباتباع أسلوب استنزاف قوات العدو على خطوط متتالية، وإيقافها ثم تدميرها بالضربات المضادة، وتهيئة الظروف للتحول للهجوم.
كما تُعرف إدارة الدفاع الأمريكية المفهوم بأنه: “إجراء هجمات محدودة، وبعض الهجمات المضادة لمنع العدو من الاقتراب للمناطق المتنازع عليها”. أما الصين فيرتكز الفكر الاستراتيجي للحزب الشيوعي الصيني على مفهوم الدفاع النشط منذ عام 1949، والذي يوجز في القول: “نحن لن نهاجم إلا إذا تعرضنا لهجوم، لكننا سوف نقوم بهجوم مضاد بالتأكيد إذا تعرضنا لهجوم”. وهذا يعني أنّ الدفاع النشط يعتمد على الاكتشاف المبكر لتقدم قوات العدو الرئيسية، والمناورة بالقوات والنيران لقتال العدو على مواقع تعطيلية محددة، تنظم مسبقًا، لاستنزاف العدو على خطوط متتالية، وإيقافها ثم تدميرها بالضربات المضادة تمهيدًا للتحول للهجوم.
متطلبات الدفاع النشط الاستراتيجي
- منع الأزمات، وردع الحروب، والانتصار فيها تنفيذًا للنظرة الشمولية للأمن الوطني.
- تعزيز الموقف الاستراتيجي المواتي لغايات الأمن القومي للدولة، والتمسك بسياسة دفاع وطنية ذات طبيعة دفاعية.
- حماية السيادة الوطنية للدولة على أراضيها، وحقوقها، ومصالحها البحرية، والحفاظ على الأمن والاستقرار.
- أخذ زمام المبادرة الاستراتيجية في الصراع العسكري، والتخطيط للصراع العسكري على نحو استباقي في كل الاتجاهات والمجالات، واغتنام الفرص لتسريع البناء العسكري، والإصلاح والتنمية.
- استخدام استراتيجيات وتكتيكات تضمن المرونة والتنقل، وإطلاق العنان للفعالية الشاملة لعمليات مشتركة، وتركيز قوات متفوقة، والاستفادة المتكاملة من جميع الوسائل والأساليب العملياتية.
- التحول من التركيز على الموارد البشرية في تعبئة الحرب إلى التركيز على العلوم والتكنولوجيا.
- توسيع نشاط التعاون العسكري والأمني، وتعميق العلاقات العسكرية مع القوى الكبرى، والدول المجاورة والدول النامية الأخرى، وتشجيع إنشاء أُطر إقليمية للأمن والتعاون.
خصائص مفهوم الدفاع النشط الاستراتيجي
للدفاع النشط عدد من الخصائص التي تميزه عن الأشكال الأخرى للدفاع، أهمها:
- يهدف لاستنزاف العدو قبل وصوله لخطوط الدفاع الرئيسية، يعتمد تقليديًا على القوات المدرعة والميكانيكية، بهدف السيطرة الفعلية على الأرض، بما يحول دون قيام العدو باختراق هذه الخطوط، يتحول من مرحلة صد العدو لمرحلة الهجوم المضاد.
- تقوم القوات المدافعة بالمناورة بالقوات، ارتباطًا بالمجهود الرئيس للعدو، وعلى خطوط تم إعدادها مسبقًا. وهذا يتطلب أن يكون هناك احتياطي من الأسلحة المشتركة، لتكثيف الدفاع، ودعمه في الاتجاهات والضربات المضادة، داخل وخارج الحد الأمامي للدفاع.
- الدفاع النشط تقليديًا له هيكل عام لبنائه، قائم على تقسيم مسرح العمليات لثلاثة أجزاء (المنطقة الأمامية التي تهدف لإرباك الخصم وتعطيله، ثم منطقة الدفاع الرئيسية، والتي تعمل على تدمير القوة الرئيسية للعدو، ثم المنطقة الخلفية، والتي تؤمن القوات الدفاعية، وتمتد حتى الحدود الخلفية للتشكيلات القتالية).
مراجعة مفهوم الدفاع النشط الاستراتيجي
تعرض المفهوم لمراجعة وتطور بعد التطورات الجوهرية التي شهدتها التكنولوجيا العسكرية، وغيرها من تداعيات العولمة، والتي أسفرت عن تغير طبيعة التهديدات الأمنية والعسكرية التي تواجه الدول، خاصّة في ظل العلاقات المركبة والمعقدة بين الدول.
هذه التطورات دفعت في اتجاه تطوير نظريات ومفاهيم الدفاع المختلفة، ومنها الدفاع النشط الاستراتيجي، خاصّة وأنه يفترض عدم قدرة العدو على كشف النقاط التعطيلية، التي يعتمد عليها الدفاع النشط، ويفترض عدم اختراق خطوط الدفاع الخارجية في المنطقة الساترة، وهذا أمر يصعب توقعه في ظل تقدم وسائل الرصد والاستطلاع. كما يتجاهل المفهوم بعض الأمور التكتيكية، مثل: المبادرة الهجومية، والكثافة النيرانية، والكثافة العددية في بعض الأحيان.
لكن هذه التطورات لم تكن في المبادئ والأسس التي تقوم عليها، بقدر ما كانت تطورًا في التكتيكات والأساليب المتبعة، لتنفيذ هذه المبادئ بما يناسب معطيات هذه اللحظة الزمنية، ومن هنا ظهرت بعض الأبعاد الجديدة في مفهوم الدفاع النشط الاستراتيجي، منها البعد السيبراني والفضائي، وهو ما تعكسه الاستراتيجيات الدفاعية للدول الكبرى؛ حيث يتم الاعتماد على المجال الفضائي والمجال السيبراني في تطبيق الدفاع النشط الاستراتيجي. كما تعتمد الدول الأقوى على السيطرة المباشرة على الأرض في تطبيق الدفاع النشط، باستخدام أي ذريعة كالهجمات الاستباقية، وربما “الدفاع الاستباقي”، وهو المصطلح الذي استخدمته الولايات المتحدة لتبرير تدخلها في أفغانستان عام 2001، أو ذريعة فرض سيادة الدولة، وهو التبرير الذي قدمته الصين لسياساتها التوسعية في منطقة بحر الصين الجنوبي، فهذه السياسات من وجهة النظر الصينية، هي تطبيق واضح للدفاع النشط، بينما هو عدوان على الحقوق المائية للدول الأخرى.
مجمل القول، مفهوم الدفاع النشط الاستراتيجي تم تطبيقه كثيرًا في استراتيجيات الدول للدفاع، ولا يزال يتم تطبيقه؛ وذلك لارتفاع تكلفة الحروب والمواجهات المباشرة بين الدول، وقد أدى هذا لزيادة الاعتماد على المعلومات والأجهزة الاستخباراتية، ونظم الإنذار المبكر، وغيرها من نظم الرادارات، وأجهزة الاستشعار، والمنصات الصاروخية، كخط نهائي على الحدود الخارجية للدفاع النشط. وبالنسبة للدول الكبرى، فغالبًا ما تلجأ لتحقيق أهدافها عن طريق استراتيجيات شاملة، تستخدم فيها كافة قوتها الذكية التي تجمع بين عناصر قوتها الصلبة والناعمة، أو تطبق استراتيجية أشمل للحرب الهجين، تمكنها من تحقيق أهدافها دون قتال في أغلب الأحوال.