يلاحظ كل المراقبين التحسن الكبير في معنويات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعودة سقف شروطه إلى الارتفاع البالغ، إذ عاد إلى ذكر ضرورة نزع سلاح أوكرانيا وإخلائها من النازية (أي إسقاط نظام حكمها وتصفية نخبها) والتزامها الحياد، كما انتبهوا إلى لغة التهديد الصريحة التي خاطب بها الرئيس بوتين دولة لاتفيا، إذ قال: إنه سيعامل سلطاتها كالخنازير، لأنها تعامل المواطنين من أصل روسي كالخنازير على حد قوله، ومن دواعي القلق التوتر الكبير الذي تتسبب فيه روسيا على الحدود الفنلندية الروسية، وانتزاع الجيش الروسي زمام المبادرة في الحرب ضد أوكرانيا، كما يلاحظ أن روسيا أحرزت عدة نجاحات دبلوماسية في الأسابيع الماضية.
ويميل أغلب المراقبين إلى ربط هذا الارتفاع الحاد في معنويات الرئيس –نستطيع أن نتكلم عن نشوة- بالوضع على الجبهة الروسية الأوكرانية وبأزمات أوكرانيا المتعددة، فالقوات الأوكرانية تلتزم الدفاع، وتجد صعوبات بالغة في الاحتفاظ بمواقعها، وتتراجع ببطء، وتعاني من نقص حاد في الرجال والمعدات والذخائر، ومتوسط سن أفراد القوات الأوكرانية (٤٣ سنة) في ارتفاع مما يوحي أنها تعجز عن تجنيد الشباب، كما تعجز عن مبادلة القصف بقصف مضاد، وتعرضت أوكرانيا الأسبوع الماضي لهجوم سيبراني كبير عطل شبكات وخطوط المحمول عطلًا شاملًا، ومن الواضح أن المهارات الروسية فيما يخص الطائرات المسيرة والحرب الإلكترونية والتشويش المفسد لمسارات الصواريخ الأوكرانية في تحسن كبير، وأن روسيا قادرة على ضرب البنية التحتية لا سيما في مجال الطاقة وأنها نجحت في إضعاف مرعب للاقتصاد الأوكراني وموارده القليلة، وهناك مؤشرات توحي بأن العلاقات بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي وقائد الجيش فاليري زالوجني يشوبها توتر كبير، ويقال إن الرئيس يتصل بقيادات الجيش مباشرة دون إخطار زالوجني، وقال الأخير في مقال أحدث ضجة كبيرة: إن الهجوم المضاد لم ينجح ووصل إلى طريق مسدود.
كل هذا مؤكد ونذكر أنه ليس من الضروري تصديق البيانات الروسية التي تتحدث عن ارتفاع في معدلات استسلام الجنود الأوكرانيين أو عن إنتاج أسلحة جديدة خارقة لإقرار مرور أوكرانيا بمرحلة عصيبة وحرجة.
والسبب الرئيس في مشكلات أوكرانيا هو تعثر الدعم الغربي مؤقتًا كان أم دائمًا، صحيح أن الصحافة الأمريكية نشرت تقارير تتكلم باستفاضة عن أخطاء القيادة الأوكرانية، وعدم توفيقها في رسم خطط الهجوم المضاد وفي تنفيذها، فهي رفضت مقترحًا أمريكيًا مفاده تركيز قواتها في الجنوب لتوجيه ضربة قوية قاصمة كما لم تقدر قدرات الجيش الروسي على المقاومة ولا تدابيره الدفاعية تقديرًا صحيحًا، إلى جانب أخطاء أخرى، ونرى أن هذا الكلام ينسي أن تكلفة الخيار المفضل لأمريكيا باهظة في الأرواح والمعدات، وأن أوكرانيا لم تحصل لا على طائرات ولا على دبابات ولا على المدفعية اللازمة لإنجاح هجوم مضاد، وأنه لا يمكن إنجاح هجوم مضاد دون سيطرة جوية، ومن باب أولى في ظل تمتع العدو بتفوق جوي، كما ينسي أن الطائرات المروحية الروسية لعبت دورًا كبيرًا في إفشال الهجوم.
للدول الغربية بعض الأعذار إذ تأثرت مدركات الجميع بالأداء الكارثي للجيش الأوكراني سنة ٢٠١٤ وانهياره السريع أيامها وفوجئت العواصم الغربية بصموده هذه المرة مما حثها على دعمه. ومن الواضح أنها لم تتوقع طول أمد الحرب، لا سيما بعد تكبد روسيا خسائر كبيرة، ولكنه يبقى أن هذا الدعم ظل مقيدًا بالرغبة في عدم استفزاز موسكو استفزازًا يدفعها إلى اللجوء إلى السلاح النووي التكتيكي، وأنه ظل بطيئًا متأخرًا يكفي لعرقلة أو وقف التقدم الروسي ولاستنزاف الجيش والموارد الروسية، ولكنه لا يسمح باسترداد الأراضي التي استولت عليها موسكو. ولكن للقيادة الأوكرانية أعذارًا أيضًا، منها صعوبة تأقلم الضباط والجنود مع منظومات سلاح جديدة في أثناء الحرب واستحالة رسم خطط في ظل التردد الغربي الدائم ومخاوف توقف الدعم ووضوح العجز الغربي عن إنتاج المطلوب، إلى جانب الفارق الواضح في الموارد البشرية والعسكرية والاقتصادية بين روسيا وأوكرانيا.
ومن الواضح أن الرئيس بوتين نجح في تحويل اقتصاده إلى اقتصاد حرب في حين أن المصانع الحربية الغربية لم تنجح في زيادة إنتاجها بالدرجة الكافية وبالسرعة اللازمة، ولهذا أسباب سياسية ومالية واقتصادية تتعلق بالمال والموارد البشرية والتقصير الشديد في إدارة منظومات المصانع الحربية، وهو تقصير امتد عبر عقود ماضية، أدّى إلى انكماش قاعدة المصانع وندرة العمالة ذات الكفاءة وضعف التنافس الدافع إلى الإجادة، ولا يتسع المجال للتفصيل. نكتفي بذكر مثال واحد… لقد وعد الاتحاد الأوروبي بمد أوكرانيا بمليون قذيفة قبل الربيع المقبل، ويجمع الخبراء أنه لن يتمكن بتوفير أكثر من ثلث هذا العدد. وإلى جانب تحول الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حرب، يبدو واضحًا أن روسيا نجحت في الحد من تأثير العقوبات الغربية.
وتفاقم ظروف قد تكون ظرفية مؤقتة من عمق أزمة أوكرانيا، وهذه الظروف تعطيل الجمهوريين الأمريكيين للمساعدات لأوكرانيا، لاعتبارات تتعلق أساسًا بمقايضات داخلية، فهم يريدون تخصيص موارد مالية كبيرة لسد ثغرات الحدود مع المكسيك، ويربطون الموافقة على دعم أوكرانيا بالموافقة المقابلة على مطالبهم، ويتزامن هذا المشهد وتعطيل الرئيس المجري “فيكتور أوربان” للدعم الأوروبي إلى أن تتم تلبية شروطه. ومن الممكن تفسير الموقف المجري بمصالح هذه الدولة وتاريخ علاقاتها مع أوكرانيا من ناحية ومع بروكسل من ناحية أخرى، وبمخاوفها من تأثير الدعم لأوكرانيا على الدعم لها، ولكن موقف الكونجرس خطر على المصالح والمصداقية الأمريكية التي ستتضرر ضررًا بليغًا إن هُزمت أوكرانيا، وهناك في تصريحات أعضاء الكونجرس ما هو مقلق لأنه كاشف عن عدم فهم لأبجديات الاستراتيجية، منها تلك التي تطالب بجدول زمني للعمليات وبوضع تصور عن مدة الحرب. ولكن جمهور المراقبين يرى أن الكونجرس سيتوصل إلى توافق في بدايات السنة المقبلة شأنه شأن الاتحاد الأوروبي ولكنه من الواضح أن الغرب يضيع وقتًا ثمينًا.
بيد أن الوضع الحالي على الجبهة الروسية الأوكرانية لا يفسر ولا يبرر الاغتباط الرئاسي، فعدد القتلى والمصابين الروس مرتفع للغاية، وتجاوز الثلاثمائة ألف، وفقًا للتقارير الأمريكية ووفقًا لما استنتجه المراقبون من الأرقام التي ذكرها الرئيس بوتين في الأيام الأخيرة. ولم يحقق الجيش الروسي اختراقًا ولا نصرًا حاسمًا، ولا تقدمًا ملموسًا، وهناك مؤشرات عديدة تسمح بطرح تساؤلات حول صلابة الجبهة الداخلية ووحدة صف النخبة، هناك ارتفاع كبير في تكلفة الحياة وأزمات تموين حادة، ولم يرد الرئيس على الأسئلة التي وجهت إليه بطريقة توحي أنه يأخذها مأخذ الجد، كما لا يبدو أن هناك انتباهًا منه لتكلفة التحول إلى اقتصاد حرب وتأثيره المتوسط والطويل الأجل، ونورد مثالًا آخرًا.. ظهر على شاشات التلفزيون أثناء حلقة مع الرئيس سؤال يقول تقريبًا.. “يا فخامة الرئيس كيف تفسر الهوة الواسعة بين تفاؤلك وتصوريك للأمور وواقعنا؟” ويحتار المحللون في تفسير ظهور هذا السؤال على الشاشات؛ هجوم سيبراني، أم رسالة من جهة ما في الدولة، أم خطأ عجيب، ويربط بعضهم هذا الخطأ بقلة ظهور بعض المسئولين الكبار والأقاويل عن استيائهم من استمرار الحرب، وفي الحلقة التلفزيونية نفسها استبعد الرئيس العودة إلى الإرهاب الستاليني، بأسلوب يشير إلى مخاوف شعبية كبيرة من هذا السيناريو، وهناك احتجاجات نسائية –زوجات وأمهات الضباط والجنود- لن تعرض النظام للخطر، ولكنها تنفي حقيقة الصورة الوردية المعسولة.
هناك عدة تفسيرات ممكنة، أولها: أن الرئيس الروسي يمارس حربًا نفسية ليزرع الخوف والتردد في نفوس الأعداء وليطمئن الأصدقاء، وثانيها: أنه مخدوع وأن مساعديه لا يقولون له الحقيقة، والثالثة: أنه متأكد أنه لن يخسر الحرب قبل الخريف المقبل وأن الرئيس بايدن سيخسر الانتخابات المقبلة، وأن هذه الخسارة ستنهي الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وأنه متأكد أن المصانع الحربية الغربية ستعجز عن مد أوكرانيا بما هو ضروري.
ولا يستطيع المحلل استبعاد هذه التفسيرات استبعادًا تامًا، ولكنه من الصعب تفسير حالة النشوة بالأسباب المذكورة، كما أنه لا يوجد أي مؤشر يوحي أن الرئيس يفكر في عملية تفاوضية، وأن تعلية سقف الشروط موقف تمهيدي، بالعكس كل الظواهر توحي أنه حسم أمره وأنه يعرف الحرب على أنها صراع وجودي وأنه سيستمر لمدة طويلة (حتى ٢٠٢٨ وفقًا لبعض التصريحات)، كمأ أن تحسن الموقف الروسي بعد فشل الهجوم المضاد على أهميته لا يكفي لشرح هذا التفاؤل.
المتصور أن المشهد الدولي هو سبب التفاؤل المفرط، وأن الرئيس الروسي يشن حاليًا حربًا هجينة شاملة لاستغلال الاضطراب الدولي ولتسريع زعزعة الاستقرار الغربي والعالمي، فهو يحتك بفنلندا يوميًا، وتهديده للاتفيا –وهي عضو في الناتو- جاء بعد أن تسبب الموالون لروسيا في هذه الجمهورية في اضطرابات، ويرى الخبراء الغربيون أن هؤلاء الموالين لا يتحركون دون إيعاز أو تشاور مع الجهات الأمنية الروسية، وهناك مخاوف في بعض الدوائر الغربية من تفكير روسي محتمل في هجوم خاطف على مولدافيا أو جورجيا أو على دولة من دول البلطيق يراهن على عدم رغبة دول الناتو في المخاطرة بحرب عالمية من أجل دولة صغيرة للغاية وإن كانت عضوة في الناتو.
وتم الإعلان عن تكثيف وجود القوات الروسية في أفريقيا، وعادت الإشارات إلى السلاح النووي كما يتساءل الخبراء عن وجود تنسيق روسي إيراني يفسر استهداف الملاحة في البحر الأحمر، ومن المعروف أن قيادة الحرس الثوري الإيراني تبنت صراحة هذا الاستهداف الذي يجعل من البحر الأحمر مسرحًا جديدًا.
وسواء وجد تنسيق بين عدد كبير من الأطراف الرافضين للهيمنة الغربية أم لا، يبقى أن عددًا كبيرًا من الفاعلين يسعى أو قد يسعى إلى استغلال مظاهر الضعف الغربي والتزامن بين الحربين –الروسية والإسرائيلية- لتحقيق مكاسب ولتعميق الأزمة الغربية، هناك أزمة في أمريكا اللاتينية فجرها الرئيس الفنزويلي، وزاد التوتر في البلقان بين صربيا وكوسوفو واضطرت الدول الغربية إلى توجيه رسائل حازمة إلى الفاعلين هناك، وارتفع عدد الاحتكاكات بين الصين والفيليبين. ويتساءل الخبراء عن نوايا الصين فيما يتعلق بالملف التايواني.
ويخشى الغربيون من نوايا الرئيس الروسي، فإن كان لا يتردد في رفع درجة التوتر أثناء الحملة الرئاسية فهناك احتمال أن يُصعد الأمور تصعيدًا خطيرًا بعد انتهاء الانتخابات.
كل هذا يعني أمرين يخصان مصر، وهي احتمال استمرار ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية والطاقة لفترة قد تطول، واحتمال تأثير اضطراب الأحوال في البحر الأحمر على عائدات قناة السويس، كما يعني وجود مصلحة أمريكية في وقف حرب غزة، قد توازن -في وقت ما بات قريبًا- مصلحتها في نجاح إسرائيل في استرداد ردعها الذي انهار، ولكن المشكلة أنه لا يوجد ما يوحي برغبة إسرائيلية في التهدئة ولا نعرف كيف ستؤثر أجواء الحملة الانتخابية الأمريكية على أداء إدارة الرئيس بايدن وعلى قدرته على ممارسة الضغوط على إسرائيل.
نخلص من كل هذا إلى ارتفاع احتمالات اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وفاعلين آخرين. هذه الحرب لا تعد بعد السيناريو المرجح، ولكنه لم يعد ممكنًا استبعاده استبعادًا تامًا.