بينت التقارير المالية الخاصة بالبنك المركزي المصري عن العام المالي المنتهي في 30 يونيو 2018، تحقيق البنك خسائر بمبلغ 33 مليار جنيه عن العام المالي 2017/2018 مقابل تحقيق 12 مليار جنيه أرباحًا عن العام المالي 2016/2017. ويُرجَّح أن تكون هذه الخسائر ناجمة عن تحمل البنك المركزي فروق دعم الفائدة لمبادرتي التمويل العقاري والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، بجانب جهود امتصاص السيولة الفائضة من السوق، إذ قام البنك بتمويل 218 ألف عميل بمشروع الإسكان الاجتماعي من خلال منحهم قروضًا نقدية بلغت قيمتها 3.4 مليارات جنيه. كما دفع البنك المركزي مبلغ 35 مليار جنيه كفروق فائدة.
ومن خلال النظر إلى قائمة الدخل الخاصة بالبنك المركزي، نجد أن عوائد القروض وعوائد أذون الخزانة حققت نموًّا بنسبة 41% في العام المالي 2017/2018 لتبلغ قيمة تلك العوائد 118 مليار جنيه مقابل 83.8 مليار عن العام المالي السابق 2016/2017، بينما ارتفعت التكاليف على الودائع والإقراض بنسبة 117% لتصل إلى 129 مليار جنيه مرتفعة من 59.5 مليارًا، الأمر الذي تسبب في تحقيق خسائر بمقدار 34.6 مليار جنيه (وهو نفس الفارق تقريبًا بين صافي الدخل المتحقق عن العام 2017/2018 وصافي الدخل المحقق عن العام 2016/2017) والذي بلغ 33.3 مليار جنيه خسائر. وبقراءة دقيقة لسبب الارتفاع في التكاليف على الودائع والإقراض، يُلاحظ ارتفاع البند الخاص بتكلفة الودائع للبنوك المحلية بنسبة 130% من 49.6 مليار جنيه في عام 2016/2017 إلى 114.4 مليار جنيه في عام 2017/2018.
الوضع الاقتصادي إبّان المبادرة
تسبب تحرير سعر صرف الجنيه المصري في ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية لم تحدث منذ نحو ثلاثة عقود لتصل إلى 34%، ما دفع نحو رفع معدلات الفائدة على الإيداع والإقراض لتصل إلى مستوى 19%، وذلك لكبح جماح التضخم ومحاولة السيطرة على السيولة في السوق.
لقد كان لهياكل تمويل الشركات الكبرى العاملة في الاقتصاد المصري القدرة على تحمل عواقب ارتفاع التكاليف بهذا الشكل في الاقتصاد، وتوافر القدرة لديها على الحصول على أموال عن طريق مصادر أخرى، سواء من خلال الدخول في شراكات لضخ رأس مال جديد في هياكل ملكيتها، أو عبر الحصول على تمويل من خلال زيادة رؤوس أموالها من خلال سوق الأوراق المالية للشركات المقيدة في سوق هذه الأوراق، لكن الشركات الصغيرة والمتوسطة وقفت عاجزة عن الحصول على تمويل، مما استوجب أن يطلق البنك المركزي المصري عددًا من المبادرات، منها مبادرة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بمبلغ 200 مليار جنيه بنسب فائدة مخفضة تصل إلى 5% متناقصة، الأمر الذي أسهم بشكل أولي في توفير التمويل الكافي للشركات الصغيرة والمتوسطة الناشئة أو الراغبة في التوسع، وهو ما عمل بشكل أوّلي على الحفاظ على تلك الشركات من الانهيار، وخاصة بتوفير التمويل اللازم لرأس المال العامل لتلك الشركات، بالإضافة إلى تمويل مشروعات التوسع، وهو ما من شأنه الحيلولة دون ارتفاع معدلات البطالة وتحقيق استقرار في الاقتصاد المحلي.
ولتنفيذ تلك المبادرة، سمح البنك المركزي للبنوك التجارية العاملة في مصر بتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الأنشطة الصناعية والتجارية والزراعية بمعدل فائدة متناقصة بلغ 5%، مقابل السماح لتلك البنوك بتوظيف مبلغٍ مساوٍ للمبلغ الذي قامت بمنحه وفقًا لتلك المبادرة من مبلغ الاحتياطي القانوني (جزء من رأس المال تحتفظ به البنوك لدى البنك المركزي دون الحصول على فوائد)، بحيث تقوم البنوك المشتركة في المبادرة بتوظيف تلك المبالغ لدى البنك المركزي مقابل عائد. ويمكن القول إن السبب في ارتفاع تكلفة الودائع المحلية للبنوك طرف البنك المركزي بنسبة 130% هو اختلاف الاستحقاقات بين توظيف تلك المبالغ لدى البنك المركزي وبين استثمارات البنك المركزي لتلك الأموال.
دوافع مبادرات البنك المركزي والنتائج المترتبة عليها
البنك المركزي مؤسسة وطنية هدفها في الأساس الحفاظ على استقرار النظام المالي والمصرفي قبل تحقيق أي أرباح. ولهذا أطلق البنك العديد من المبادرات التي من شأنها دفع عجلة التنمية الاقتصادية، والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، ودفع الاستثمار في مصر، والتي تتمثل في مبادرة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بنسبة فائدة 5% وبمبلغ 200 مليار جنيه، ومبادرة التمويل العقاري التي بلغت قيمتها 10 مليارات جنيه. وسمح البنك المركزي للبنوك المشتركة في تلك المبادرات بأن تستثمر جزءًا من الاحتياطي القانوني المحتفظ به لدى البنك المركزي المصري (وهو عادة لا يتم حساب أية فوائد عليه) في أذون خزانة، وبالتالي تتقاضى فوائد عن تلك المبالغ نظير مشاركتها في تلك المبادرات لتعويض هامش الفارق بين سعر الفائدة المعلن في المبادرة 5% (للمشروعات الصغيرة والمتوسطة) وبين سعر الإقراض والخصم المعلن من جانب البنك المركزي.
وقد تحمل البنك المركزي نتائج ذلك القرار؛ فقد تكفل البنك المركزي المصري بتحمل فروق دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وذلك بهدف دفع عجلة نمو الاقتصاد المحلي. لكن أدى ذلك بشكل مباشر إلى رفع تكلفة ودائع البنوك المحلية، إذ تسبب في رفع تلك التكلفة بنسبة 130% مقابل زيادة بنسبة 41% فقط في العوائد، وساهم ذلك في تحقيق البنك المركزي صافي خسارة بمبلغ 33 مليار جنيه.
وللتعامل مع هذه النتائج، قام البنك المركزي بالتوقف عن دعم تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعمل في النشاط التجاري، وإلغاء مبادرة التمويل العقاري لمتوسطي الدخل وإبقائه فقط على تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة للأغراض الصناعية والتمويل العقاري لمحدودي الدخل.
وقد بدأ المركزي في اتخاذ خطوات بديلة للتخفيف من أثر تلك المبادرات، إذ أصدر كتابًا دوريًّا بشأن القواعد والإجراءات المنظِّمة لمبادرة التمويل العقاري لمحدودي الدخل والتي تسمح للبنوك بتوفير التمويل العقاري اللازم للعملاء من خلال مواردها الذاتية ودون تقديم أذون خزانة كضمان، على أن تتم المحاسبة بعوائد (5% أو 7% لمدة حدها الأقصى 20 عامًا). وقام البنك المركزي بتعديل آلية تعويض البنوك عن فارق سعر الفائدة. بالإضافة إلى توفير المركزي لآليات أخرى لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهي الآليات التي أوضحها تصريح لمحافظ البنك المركزي على هامش مبادرة رواد النيل في فبراير 2019، حيث قال إنه جارٍ حاليًّا دراسة آلية إصدار تراخيص لبنوك جديدة تُسمى بنوك الشريحة الثانية والتي ستختلف عن البنوك التقليدية العاملة في القطاع المصرفي، إذ إنها ستتخصص في قبول الودائع ومنح قروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. هذا فضلًا عن التفكير في وسائل أخرى لتمويل تلك الفئة من المشروعات، مثل: منصات التمويل الجماعي، أو الإقراض من شخص إلى شخص من خلال منصة إلكترونية موحدة، والتي تحتاج إلى إطار قانوني لتنظيم تلك المعاملات.
خاتمة
على الرغم من التكاليف التي تحمّلها البنك المركزي؛ إلا أن وضعها ضمن السياق الاقتصادي العام يبين أن الآثار السلبية التي تحمّلها البنك المركزي (خسائر بمبلغ 33 مليار جنيه) تُعد أقل بكثير من أثر عدم اتخاذ تلك القرارات على الاقتصاد الكلي، خاصة أن الشركات التي استفادت من مبادرات البنك المركزي تتسم بأنها كثيفة العمالة، إذ ساهم ذلك القرار في انخفاض معدل البطالة من مستوى 12.8% في عام 2015/2016 إلى مستوى يبلغ نحو 11.9% في عام 2017/2018، ليصل بعد ذلك إلى 8.9% في نهاية النصف الأول من العام المالي 2018/2019 نتيجة لاستفادة المشروعات الصغيرة والمتوسطة من تلك المبادرة، وهي مشروعات توظّف قسمًا كبيرًا من القوة العاملة المصرية. وبدون وقوف البنك المركزي بجوار تلك المشروعات خلال الفترة العصيبة والتدخل لتوفير التمويل اللازم لها، ربما كانت ستتأثر سلبًا، مما كان يمكن أن ينعكس سلبًا على الاقتصاد الكلي في شكل انخفاض في مستوى الناتج وزيادة في معدلات البطالة.