واحد من أهم المشروعات العالمية التي تُساهم فيها مصر في الألفية الجديدة هو مشروع “مسح القيم العالمية”، وهو مشروع عالمي يستهدف التعرف على التحولات الثقافية الاجتماعية، وحجم التحول في القيم السياسية في العالم. وقد جاء هذا المشروع نتيجة ملاحظة ذكية من عالم الاجتماع السياسي الأمريكي “رونالد إنجلهارت”، تُشير إلى أن ثلاث دول في أوروبا الغربية فور تحللها من الحكم الديكتاتوري (هي: إسبانيا ما بعد الجنرال “فرانكو”، والبرتغال واليونان بعد الحكم العسكري) تبلورت بها قيم جديدة متميزة عن قيم باقي دول أوروبا، وأن هذه القيم تحتل قمة هرم “ماسلو” للقيم الذي تبدأ قاعدته بالاحتياجات الفسيولوجية، ثم الاحتياجات الأمنية، ثم الاحتياجات المادية الخاصة بالممتلكات، وأخيرًا قيم التعبير عن الذات. وكان ذلك في منتصف السبعينيات.
وقد تابع “إنجلهارت” دراسة القيم في مختلف أنحاء العالم، ولاحظ أن هذه القيم أخذت في الانتشار، وهو ما دعاه إلى معرفة أسباب انتشارها، وكيف تم ذلك. وأصدر كتابه المهم عن التغيير السياسي في أوروبا، ثم تحول الكتاب إلى مشروع عالمي اعتبارًا من عام 1981، ويتم تنفيذه عبر شبكة هائلة من أساتذة الجامعات والمراكز البحثية، وبعض منظمات المجتمع المدني في مختلف دول العالم. واستهدف المشروع تحديد اتجاهات التغيير السياسي في مختلف دول العالم، ونجح في مسح القيم في 97% من سكان العالم، وحوالي 90% من إجمالي مساحة العالم عبر موجات متتالية من المسوح السياسية، كانت الأولى خلال الفترة (1981-1984)، ثم الثانية خلال الفترة (1990-1994)، ثم الموجة الثالثة خلال الفترة (1995-1998)، ثم الموجة الرابعة خلال الفترة (1999-2004)، ثم الموجة الخامسة خلال الفترة (2005-2009)، ثم الموجة السادسة خلال الفترة (2010-2014)، والموجة السابعة خلال الفترة (2017-2019). ومن المخطط أن تظهر النتائج النهائية للمشروع في منتصف عام 2020.
وقد شاركت مصر في المشروع خلال الأعوام 2000، 2008، 2010، 2014. والواضح من النتائج أن هناك تغييرات في القيم شهدها المجتمع المصري خلال هذه المسوح المختلفة. وأصدر المشروع قرابة 400 مطبوعة مهمة بأكثر من 20 لغة، وشارك في المسوح ممثلون عن الدول التي يُجرَى فيها البحث.
ويستند المشروع إلى فرضية مفادها أن التحولات الثقافية في أي مجتمع تستند إلى تفاعل نوعين من القيم الثقافية: النوع الأول ، ينتقل من القيم التقليدية -حيث تسود التفسيرات الدينية للسلطة وتحولاتها، والتمسك بالقيم القبلية، والعلاقات الاجتماعية الأبوية، والعلاقات العائلیة، والإذعان للسلطة، والقبول بالوضع الراهن، وسيادة التفسيرات الدينية للسلطة وتبرير قراراتها، ورفض أفكار الحرية والعدالة الاجتماعية، والإذعان للوضع الراهن –إلى القیم العقلانیة والعلمانیة الرشيدة والتحرریة التي تنطوي على تفضیلات مختلفة معاكسة للقیم التقلیدیة، مثل ارتفاع مستويات التسامح وتقبل الآخر، والالتزام بالقيم التحررية المتمثلة في المساواة بين الراجل والمرأة، والتحرر الجنسي، والاعتراف بحقوق المثليين، والفصل السياسي بين الدين والدولة، والاهتمام بالمشاركة في صنع القرار في المجال الاقتصادي والسياسي، التي تتجسد في الشعور بالحاجة إلى التغيير، وسيادة القيم السياسية مثل العدالة الاجتماعية والحرية، وسيادة قيم التسامح في موضوعات الحرية الدينية مثل الحق في اختيار الدين، والطلاق، والإجهاض، والاتجاهات نحو التصنيع (انظر شكل رقم 1).
أما النوع الثاني من القيم فإنها تستهدف التحول من قيم البقاء، التي تتجسد في الاهتمام بالأمن الاقتصادي والأمن بمفهومة المادي والشرطي والعسكري والأمن الاقتصادي بمعنى توفير السلع الغذائية ودعم أسعارها،إلى قيم التعبير عن الذات، مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتوافر الدافع إلىالإنجاز وحماية البيئة والاهتمام بحقوق الإنسان والمحافظة على قيمة الإنسان الفرد المواطن باعتباره أساس المجتمع،وهيالقيم التي تمثل أعلى مراتب القيم الإنسانية وفقا لأفكار ماسلو عن تدرج القيم.
هذه القيم هي الدافع نحو التنمية السياسية ،بينما كانت القيم العلمانية هي الدافع نحو التنمية الاقتصادية. وهذانالنمطان من القيم في مجملهما هما أساس التقدم بصفة عامة، ولذا تتبناها منظمة الأمم المتحده ووكالاتها المتخصصة وجميع المنظمات المرتبطة بها مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بل إن جميع برامج الإصلاح الاقتصادي دون استثناء واحد تضمن هذه القيم، مثل الشمول ويُقصد به شمول جميع فئات المجتمع دون استثناءلأي طائفة أو جماعة، والمساواة ويُقصد به المساواة بين الدول والنوع داخل الدولة الواحدة وجميع الجماعات العرقية والدينية والمذهبية التي يتكون منها المجتمع، إضافة إلى قيم التعبير عن الذات وعن الكرامة الإنسانية.
أيضا هذا الترتيب الهرمي للقيم لدى ماسلو مرتبط بتطور الحضارة الإنسانية عبر تاريخ الإنسانية،ولذا فإنه يصعب التراجع فيه من مرتبة أعلى في القيم إلى مرتبة أدنى، لأن نظام القيم وفقا لنظرية ماسلو يتناسب طرديا مع درجة تقدم البشرية، واتجاه البشرية يتقدم من القيم المادية التي عبرت عنها الاعتبارات الفسيولوجيه أولا ثم اعتبارات الأمن ثم اعتبارات الصداقة والعلاقات الاجتماعية والحاجة للتقدير والاحترام وأخيرا الحاجة لتحقيق الذات عن طريق الابتكار لحل ما يواجه الإنسان من مشكلات.
وبالتالي كلما تحركنا على محور القيم التقليدية لأعلى في اتجاه القيم العلمانية
كلما كان ذلك أفضل لقيم التنمية الاقتصادية والحفاظ على الموارد والبيئة للأجيال
القادمة. وكلما اتجهنا من قيم البقاء على المحور الأفقي يمينا إلى قيم التعبير عن
الذات كلما كان ذلك أفضل لقيم التنمية السياسية.
شكل رقم (1): الخريطة العالمية للقيم وفقا لـ “إنجلهارت” (2018)
و قد طرح عالم الاجتماع ماسلو نظريته عن قيم الاحتياجات الإنسانية والدافعية نحو التطور فيما عُرف بمثلث ماسلو للقيم أو “هرم ماسلو للقيم والاحتياجات الإنسانية” بوصفها نظرية سيكولوجية انتشرت لأول مرة فى سنة 1943 بعنوان “نظرية تحفيز الإنسان” أو “نظرية الدوافع الإنسانية”Theory of Human Motivation. ثم طور نظريته أكثر ونشرها كاملة فى سنة 1954 فى كتاب بعنوان “التحفيز والشخصية” (أو الدوافع والشخصية) Motivation and Personality ،وقرر فيه أن الإنسان يتصرف نتيجة وجود قوة نفسية وعقلية تدفعه للتصرف على نحو معين نتيجة ميله الدائم إلى إشباع احتياجاته للشعور بالراحة، والابتعاد عن الألم الجسماني والنفسي الناتج عن الحرمان.
وقد قسم “ماسلو” هذه الاحتياجات إلى خمسة مستويات، هي: (1) الحاجات الفسيولوجية.(2) الأمان (وتشمل السلامة الجسدية، والأمن الوظيفي، وأمن الموارد، والأمن الأسري، والأمن الصحي، وأمن الممتلكات).(3) الحاجات الاجتماعية (وتشمل الصداقة والعلاقات الأسرية). (4) الحاجة للتقدير (وتشمل الحاجة إلى تقدير الذات، والثقة، والإنجاز، واحترام الآخرين، والاحترام من الآخرين). (5) الحاجة إلى تحقيق الذات (وتشمل الابتكار، وحل المشاكل وتقبل الحقائق).
شكل رقم (2): هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية
هذا المسح للقيم يوضح كل ما يؤمن به الإنسان من أفكار، فيقيس لنا التطرف على سبيل المثال، ويحدد العقبات التي تواجه التنمية، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية. كما يحدد طبيعة علاقاتنا بدول الجوار على المستوى الشعبي (علاقات الشعوب ببعضها)، وعلاقات التطرف ببعضها،والعلاقات الاجتماعية، والتحولات في القيم الجنسية والدينية التي تفسر ظهور عدد من الشباب الملحد أو المثليين مؤخرا نتيجة تحول القيم لديهم أو أسباب ارتفاع نسبة الطلاق في المجتمع. وطالما أن مصر تشارك في هذا البرنامج فينبغي أن نستفيد منه للتعرف بدقة على أمراض المجتمع، أي لابد من تنظيم خطة عمل لكشف هذه الأمراض تباعا.
هذه التغييرات في القيم أطلق عليها انجلهارت في منتصف السبعينات “الثورة الصامتة”، وأسس عليها فيما بعد مشروعه العلمي لمسح القيم العالمي والذي تفجر في مناطق مختلفة من العالم منذ أحداث وسط أوروبا وشرقها في 1989 ثم في المنطقة العربية في عام 2011، وينفجر الآن في السودان والجزائر. إن كلمة السر في التغيير السياسي فهي تغيير القيم، أي تغيير المعتقدات السياسية والاستفادة من مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي التي تُعد شبكات لتغيير الهوية والانتماء والاقتصاد في إطار جغرافي عالمي مترابط شبكيا، ما أدي لسقوط الحواجز الزمنية والجغرافية والسياسية والاقتصادية، وبدون إدراك ذلك سنظل عاجزين عن فهم ما يحدث حولنا.