تُعد الجريمة المُنظّمة أحد التحديات الأمنية المهمة عالميًّا؛ إذ ترتبط أنشطتها الإجرامية بشبكةٍ متعددة المستويات ومُعقدة الارتباطات. وتعددت تعريفات الجريمة المُنظّمة نظرًا لاختلاف منظور كل دولة لطبيعة الجريمة المنظمة، وما يتم إدراجه تحتها من أنشطة. لكن “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المُنظّمة عابرة الحدود” لعام 2000 تُعرّفها على أنها “جماعة ذات هيكل تنظيمي، مُؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر، موجودة لفترة من الزمن، وتعمل بصورة مُتضافرة بهدف ارتكاب واحدة أو أكثر من الجرائم الخطيرة أو الأفعال المُجرّمة وفقًا لهذه الاتفاقية، من أجل الحصول، بشكل مباشر أو غير مباشر، على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى”. وتتسع قائمة الأنشطة الإجرامية المُنظّمة لتشمل: الأنشطة الإرهابية، والاتجار بالبشر، والآثار، والأسلحة المحظورة، والمخدرات، والسطو المسلح، وتقليد السلع، وغسل الأموال، وبعض الجرائم السيبرانية.
وفيما تتنامى خطورة الجريمة المُنظّمة، وتتشتت جهود مكافحتها؛ اتجه المجتمع الدولي إلى تنسيق البرامج لتفكيك شبكاتها والقضاء عليها. وفي هذا السياق، وضع مؤتمر ميونخ للأمن 2019 “الجريمة المنظمة” ضمن أجندة أعماله، وطرح منظورًا جديدًا للتعامل معها، بما يُمكِّن من الخروج بصيغة ترتيبات مُشتركة لمواجهتها.
ويعرض هذا التقرير التطورات التي طرأت على الجريمة المُنظّمة، إلى جانب مُحفزات ذاك التطور وتداعياته، وأطر المكافحة القائمة وكيفية بناء إطار فعّال لمكافحتها.
مُحفزات تطور الجريمة المُنظّمة
تطورت أنشطة الجريمة المُنظّمة بتطور التاريخ الإنساني والاجتماعي، إذ ظهرت بداياتها قديمًا في أنشطة الهكسوس والتتار، وتطورت لتشمل تجارة الرقيق والقرصنة في العصور الوسطى. واستمرت في التطور لتُشكل تجمعات منظمة تُدير أعمالًا إجرامية ذات طابع محلي، أبرزها ما جاء منذ قرون مع نشأة عصابات “المافيا” الإيطالية، و”الثالوث” الصينية، و”الياكوزا” اليابانية. ثم جاء دخول التاريخ الإنساني الألفية الجديدة، وظهور مفاهيم جديدة، مثل: العولمة، وثورة المعلومات، ونظريات الإدارة والمؤسسية؛ فتطورت هذه العصابات مستفيدةً من المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كالنمو السريع للتقنيات والأنشطة الاقتصادية، وتطور وسائل النقل والاتصال، واتساع عمليات عولمة النظم الاقتصادية والمالية، وتحرير التجارة الدولية، بالإضافة إلى ضعف وانهيار السلطة في بعض الدول. في هذا السياق، تجاوزت الجريمة المُنظّمة الحدود الوطنية، واكتسبت طابعًا دوليًّا في أواخر القرن العشرين. ومع بداية القرن الحادي والعشرين احتلّت الصدارة بين القضايا الأمنية الأكثر خطورةً في العالم.
ولعبت التكنولوجيا والعولمة وتداعياتهما دورًا محوريًّا في تطور أنشطة الجريمة المُنظّمة، حيث وضعت العولمة الدولة الوطنية والمجتمعات الناشئة أمام تحديات كبيرة، إلى حد ظهور نظريات تماهي الحدود، ما أثّر في التحليل الأخير على الهياكل السياسية والاقتصادية للدولة، وحجم قدرتها على مكافحة أنشطة الجريمة المنظمة. كما منحت التطبيقات التكنولوجية الحديثة فرصًا للمنظمات الإجرامية لتوسيع إطار عملها، ومناطق نفوذها، وإدارة الاتصال بعناصرها، والتحكم في التدفقات المالية، مستغلةً في ذلك مفاهيم التجارة الحرة والاقتصادات غير النمطية بالمجتمعات النامية. كما لعب الإنترنت دورًا بارزًا في تعزيز الأنشطة الحالية للجريمة، وخلق أشكالًا جديدة تمامًا، مثل الهجمات السيبرانية. وتُقدر التكلفة السنوية للجريمة الإلكترونية بـنحو 600 مليار دولار. وبات ما يُعرف بـ”الإنترنت المظلم” The Dark Web أكثر الوسائل مثالية لعمل الأنشطة الإجرامية المنظمة (الإنترنت المظلم هو جزء من منظومة الإنترنت، لكنه يسمح بإصدار المواقع الإلكترونية ونشر المعلومات بدون الكشف عن هوية الناشر أو موقعه باستخدام تقنيات محددة).
تداعيات تطور الجريمة المُنظّمة
تفرض أنشطة الجريمة المُنظّمة العديد من التداعيات الاقتصادية والأمنية، على المستويين المحلي والدولي. ويمكن تقسيم هذه التداعيات بين ثلاث فئات أساسية: الأولى، هي التداعيات والتكاليف الأمنية، وترتبط -على سبيل المثال- بالدور الذي تلعبه “الجريمة المنظمة” في ظهور واستمرار النزاعات المسلحة وضعف مؤسسات الدولة، وذلك بالنظر إلى اعتماد جماعات الجريمة على بيئة هذه النزاعات كشرط رئيس لعملها واستمرارها. من ذلك أيضًا العلاقة القوية التي تطورت بين الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية. فمن ناحية، نشأت علاقات تعاون بين عصابات الجريمة المنظمة والعديد من التنظيمات الإرهابية. ومن ناحية أخرى، طورت العديد من التنظيمات الإرهابية من أساليب عملها، بحيث باتت تعتمد هي الأخرى على تكتيكات الجريمة المنظمة، بهدف تعظيم مواردها والحفاظ على بقائها. فعلى سبيل المثال، قام تنظيم “داعش” بتهريب كميات هائلة من النفط من سوريا إلى الدول المجاورة.
الفئة الثانية، تتعلق بالتكاليف الاقتصادية، وهي تكاليف متعددة الأوجه، تؤتي تأثيرها النهائي من خلال التأثير السلبي على برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، عبر التأثير على مناخ الاستثمار والأعمال، أو خروج جزء من الأنشطة الاقتصادية خارج الاقتصاد الرسمي، أو الضغط على الثروات النادرة من خلال الصيد غير القانوني على سبيل المثال، أو إضعاف المؤسسات الاقتصادية للدولة، أو تعزيز الفساد وإعاقة برامج إنفاذ القانون والخدمات العامة، أو حرمان الدولة من عائدات الضرائب والجمارك.. إلخ. ووفقًا لتقرير مؤتمر ميونخ للأمن 2019، تراوحت القيمة السنوية لأنشطة الجريمة المنظمة عابرة الحدود بين 1.6 إلى 2.2 تريليون دولار في عام 2018.
الفئة الثالثة، تتعلق بالتكلفة البشرية الناتجة عن أنشطة الجريمة المنظمة؛ ففي عام 2017 زاد عدد جرائم القتل بالمكسيك (نقطة محورية لتهريب المخدرات) إلى 29168 بزيادة نسبتها 75% مقارنةً بفترة ما قبل تدشين البرنامج الحكومي لمكافحة تجارة المخدرات في عام 2013. وبينما توفي حوالي 49000 شخص في الولايات المتحدة بسبب تعاطي مواد الأفيون (مصدرها الصين وأفغانستان)، فإن الحرب السورية خلّفت 39000 ضحية في عام 2017.
شكل رقم (1):
كيف يقوم الفاعلون المسلّحون من غير الدول بتوفير مصادر التمويل: التوزيع النسبي لأنماط التدفقات المالية غير المشروعة المستخدمة في التمويل في سنة 2018
معوقات مكافحة الجريمة المُنظّمة
تواجه مكافحة الجريمة المنظمة تحديات عدة، ويبرز ضمن هذه التحديات: تضارب الجهود الدولية، وغياب الإطار الدولي الفاعل؛ فرغم توقيع عدة اتفاقيات على الصعيد الأممي والإقليمي، وصدور تشريعات وطنية، ووجود مؤسسات دولية كالإنتربول تُعنَى بمكافحة الجريمة المنظمة؛ لكن يُلاحظ غياب فاعلية هذه الأطر والآليات، لعوامل عديدة، مثل: غياب التنسيق بين هذه الأطر، وغياب التنسيق بين الجهود الدولية المختلفة، فضلًا عن وجود تباين ملحوظ بين منظور كل دولة ومؤسسة لأنشطة الجريمة المنظمة؛ كنتيجة لتعدد أوجه النشاط الإجرامي المنظم.
وأصبحت حالة الضعف السياسي والفساد المُمنهج بعددٍ من الدول النامية والأنظمة السلطوية مدخلًا لإعاقة تلك الجهود؛ حيث يستثمر عدد من جماعات الجريمة المنظمة حالة تلك الدول وحجم التدفقات النقدية الضخمة لديها لإدارة أنشطة وبناء شبكة علاقات تتيح لها التغلغل داخل هذه الكيانات الهشة، ما يحقق لها الانتشار وفتح أسواق جديدة، والانتقال إلى مساحات عمل يصعب رصد أنشطتها بها؛ لوجود غطاء حكومي في بعض الحالات والتداخل مع القنوات والكيانات الرسمية بها.
ويُمثل انخراط عددٍ من الدول في أنشطة الجرائم المنظمة أحد التحديات التي تعيق جهود المكافحة الدولية؛ فقد أشار تقرير مؤتمر ميونخ إلى لجوء دول مثل كوريا الشمالية لاستخدام “المجرمين” كوكلاء لتنفيذ بعض العمليات. كما تستخدم في حالات أخرى تكتيكات الجريمة المنظمة لإدارة أنشطة مشبوهة لجمع الأموال. وتناول تقرير المؤتمر حالة كوريا الشمالية كنموذج لانخراط دولة في أنشطة الجريمة المنظمة، حيث أشار إلى ضلوعها في هجمات قرصنة سيبرانية لسرقة 110 ملايين دولار من بنك التنمية المكسيكي، وكذلك رعايتها لهجوم WannaCry Ransomware الذي تضررت منه 150 دولة. وأشار التقرير إلى أن حجم التجارة الكورية الشمالية في السجائر المقلدة بلغ 100 مليون دولار سنويًّا، إضافة إلى وجود حوالي مائة ألف مواطن كوري شمالي مُجبرين على العمل بالخارج لصالح الحكومة
.شكل رقم (2): الأنشطة الكورية الشمالية غير المشروعة
لكن يلاحظ أن التقرير تجاهل حجم الأنشطة التي تمارسها دول أخرى مثل إيران وقطر وتركيا لدعم الجريمة المنظمة، أو استخدام “المجرمين” وتكتيكاتهم لإدارة أنشطة مشبوهة، كتهريب تركيا للأسلحة للجماعات المتطرفة في ليبيا مقابل شحنات النفط. كما تجاهل النشاط القطري في تمويل الإرهاب كدفع فدية للإفراج عن أفراد من العائلة الحاكمة (قُدّرت بمليار دولار) أسرتهم مجموعة مسلحة بالعراق، واتهامات الجيش الليبي لها بتمويل الجماعات الإرهابية في الجنوب. وكذلك ضلوع أطراف دولية في شراء شحنات النفط التي قام تنظيم “داعش” بنهبها من سوريا والعراق.
نحو تفعيل أطر مكافحة الجريمة المُنظّمة
يشكل تنوع أنشطة الجريمة المنظمة، والحجم الكبير للتدفقات غير المشروعة؛ تحديًا هائلًا أمام إنفاذ القانون. وتتطلب مكافحة هذه الأنشطة تعاونًا كبيرًا عبر الحدود؛ إذ تُعد هذه المنظمات أقرب إلى الشبكات العالمية منها إلى الهياكل الهرمية التقليدية. ورغم إمكانية نجاح العمليات الدولية ضد تلك الأنشطة، كما في حالة القرصنة قبالة سواحل الصومال؛ إلا أن عدم علاج الأسباب الجذرية لانتشار الجريمة المنظمة -خاصة انتشار الدول الفاشلة والهشة- يجعل من هذه النجاحات نجاحات مؤقتة قابلة للانقضاء، لذا يدعو العديد من الخبراء إلى تبني سياسات شاملة لمواجهة الجريمة المنظمة بدلًا من العمليات العسكرية كحل منفرد.
وفي سياق تناول التحديات التي تفرضها هذه الأنشطة الإجرامية، وبالنظر إلى طبيعة هذه الأنشطة، نطرح فيما يلي مجموعةً من المُقترحات لزيادة فعالية جهود مكافحة الجريمة المنظمة عابرة الحدود، والتي قد تناول التقرير بعضها، فيما نسعى لإثرائها بما يتلاءم مع طبيعة الجريمة المنظمة في منطقتنا ودوائر الاهتمام الإقليمية:
1- التنسيق: حيث تتطلب مكافحة ظاهرة عالمية -مثل الجريمة المنظمة عابرة الحدود- التنسيق متعدد المستويات بين الحكومات والمؤسسات الدولية المنخرطة في أي مجال قد يمثل مجالًا لإدارة أنشطة إجرامية. وينطبق ذلك على الإجراءات الأمنية وتبادل المعلومات ومكافحة الفساد، وبناء إطار عمل يمنح صلاحيات وفعالية قضائية لردع تلك الأنشطة.
2- التثقيف والتوعية: إذ يجب تحويل المواطن إلى رقمٍ فاعلٍ في مواجهة أنشطة الجريمة المنظمة، من ذلك -على سبيل المثال- حث المستهلكين على التحقق من مصادر السلع، والتأكيد على أهمية دورهم في حماية أمنهم واستقرار دولهم، وانعكاس تلك السلوكيات على حياتهم اليومية واقتصاداتهم الذاتية والوطنية. كما يجب تحفيز المواطنين المحليين على المشاركة السياسية ومنظومة كشف الفساد.
3- تحديث نظم المكافحة: حيث أصبحت النظم التقليدية لكشف الفساد وتتبع أنشطة الجريمة المنظمة لا تتواكب مع الشبكات الإجرامية القوية التي أدخلت التكنولوجيا كمكون رئيس في أنشطتها. لذا تبرز أهمية التطوير التقني والتدريب المتخصص في تحسين قدرات جهود المكافحة للتصدي بفعالية لتلك الأنشطة، وسد الثغرات التي يستخدمها المجرمون للتحرك وإدارة أعمالهم.
4- التنمية التشاركية: إذ يجب على المجتمع الدولي تقديم الدعم اللازم للدول النامية لبناء مؤسسات ونظم قانونية وأمنية، إلى جانب تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي، بما يساعدها على إعادة هيكلة قدراتها بصورة فعالة تُمكِّنها من مواجهة أنشطة الجريمة المنظمة.
5- ردع الدول الراعية لأنشطة الجريمة المنظمة: حيث تقتضي ضرورات الأمن الدولي إيقاف تلك الدول عن استغلال هذه الأنشطة. وقد مثّلت المقاطعة العربية لقطر إحدى الوسائل لردع أنشطتها المشبوهة في المنطقة، والتي تضمنت محاولات لإثارة النزاعات الداخلية، وضرب استقرار الأنظمة السياسية، ودعم الإرهاب. ووفقًا لتقرير المؤتمر، تُمثّل العقوبات الأمريكية على كوريا الشمالية أداة أخرى لردعها عن ارتكاب مثل هذه الأنشطة (لكن يلاحظ أيضًا تجاهل التقرير تأثير العقوبات المفروضة على إيران في هذا المجال).
ختامًا، جاء طرح مؤتمر ميونخ للأمن 2019 لقضية الجريمة المنظمة عابرة الحدود في وقت يشهد فيه السلم والأمن الدوليان تحديات كبيرة ومعقدة. وبينما تركز جهود النظم الوطنية والإقليمية والدولية على مكافحة تداعيات الجريمة المنظمة على كافة الأصعدة، يجب الالتفات إلى احتمالات تطور الجريمة المنظمة، وانتقالها إلى نمطٍ جديدٍ من الهياكل الفضفاضة، وقد لا تتمكن الأطر والآليات الأمنية من تعقبها ومواجهتها، خاصةً مع تطور التكنولوجيات الحديثة و”الذكاء الاصطناعي”، وقدرة بعض جماعات الجريمة المنظّمة على الاستفادة من هذه التقنيات، بما يُضعف قدرة الأجهزة الحكومية على متابعة أنشطة الجريمة المنظمة.