يا له من عالم رائع، فأى مكان فى العالم وأى شيء فيه لا يبعد أكثر من أطراف أصابعك، وما عليك سوى أن تضغط على الزر المناسب لتقرأ على شاشة الحاسوب تقريرا مفصلا عن الحياة فى أيسلندا البعيدة، وتشاهد صورا بديعة عن الحياة فى جزر المحيط الهادئ المعزولة. لم يعد للمسافات من معنى، ولا للزمن أيضا، فقبل أن تنطفئ النار التى أمسكت بجسد إحدى ضحايا حادث القطار المخيف فى محطة مصر ستجد صورة لما يجرى فى المحطة المنكوبة على شاشة هاتفك الذكى الذى فتحته توا قبل أن تغادر سريرك الدافئ.
كل شيء موجود على شبكة المعلومات وفى أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية، ولكن لا يوجد هناك أى شيء أيضا. الأشياء على شبكة المعلومات منزوعة عن سياقها، وكل عابر سبيل يرفع على الشبكة ما تيسر له رؤيته، أو ما يظنه الأولى بالنشر, فهذا ينشر صورة الأجساد المحترقة، وذاك ينشر صورة أبطال يضحون بأنفسهم لإنقاذ الضحايا، وثالث ينشر صورة الوزير المستقيل ووجهه إلى الأرض.
ينشر الناس ما يصادفهم، وبعضهم يسمى هذا صحافة المواطن», فبعض الصحفيين من أصحاب الصحف والتليفزيونات والمواقع الإخبارية وجدوا فيما يبثه المواطنون تعويضا عن كسلهم وتوفيرا للنفقات، فراحوا يعيدون نشره بعد تدقيقه، وغالبا دون أى تدقيق. لم يعد أحد يحرس بوابة المعلومات التى تصل لعموم الناس، رغم أن هؤلاء ليسوا دائما قادرين على تمييز الغث من السمين. الأخطر هو ذلك البعض الذى يصطنع الأحداث والصور اصطناعا، فيكفى أن تطلق خبرا كاذبا، وتتداوله بين ثلاثة أو أربعة مواقع تابعة لك، لتجده بعد دقائق وقد أصبح حقيقة مصدقة.
من الأفضل لو عززت الخبر المكذوب بصورة، فتكنولوجيا تقطيع الصور والأفلام وإعادة لصقها أصبحت شديدة التطور، وما أسهل أن تضع وجه القديسة الأم تيريزا على جسد راقصة (تعري). أشياء مثل هذا كانت تحدث طوال الوقت منذ فجر التاريخ، فقد كان هناك دائما من يدون القصة من وجهة نظره، لنقرأها نحن بعد مئات السنين، فنظن أننا عرفنا الحقيقة فعلا، مع أن ما قرأناه هو مجرد رواية شخص واحد، وأن الوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى بذل جهد كبير للتدقيق والتحقق وفحص خلفية ودوافع المصادر والرواة، فيقتل الخبراء منا الأمر جرحا وتعديلا حتى نصل إلى الحقيقة, فما الجديد فى عصرنا إذن؟.
فى الماضى كانت الكتابة والنسخ حرفة لقلة تجيد فنونها، أما الجديد فى عصرنا هو أنه أصبح بإمكان الآلاف من البشر المشاركة فى اختراع الأكاذيب, وتسجيلها، والترويج لها، بقصد أو بغير قصد, وأصبحت مهمة التدقيق والتحقق أكثر صعوبة بما لا يقاس بأى شيء عهدناه فى الماضي، فكثير مما يصلنا اليوم يأتينا من جانب أشخاص غير معروفى الهوية، أو أن هويتهم المعلنة مكذوبة ومصطنعة تماما، إما لأنهم أشخاص طيبيون متواضعون لا يحبون الشهرة، أو لأنهم يخفون وراءهم أسرارا وأغراضا لا يريدون لها أن تنكشف.
ماذا عن النقاش والحوار العام. ماذا عن قدرة الناس على التواصل وتبادل الأفكار والآراء, ماذا عن قدرتهم على التعبير عن أنفسهم بحرية على منصات التواصل الاجتماعى المتحررة من سيطرة السلطة. التواصل شيء رائع، لكن ماذا عن الهويات الخفية التى يتقمصها الناس على شبكة الإنترنت؟ ماذا عن الاستقواء والجرأة والعدوانية التى تأتى مع التستر والاختفاء وراء الشاشة ولوحة المفاتيح؟ ماذا عن التحلل الأخلاقى السلوكى واللفظى الذى يترتب على تجنب العواقب؟ ماذا عن الاستقطاب والمعسكرات المتخاصمة على شبكة الإنترنت، والتى حولتها من مساحة للتواصل إلى ساحة للصراع؟ ماذا عن الدول والأجهزة السرية وأصحاب المصلحة وما يطلقونه علينا من لجان إلكترونية؟
المؤكد أنه لا يمكن إخفاء الحقيقة طوال الوقت، وأنه بالجهد والخبرة والمزيد من التكنولوجيا يمكننا تمييز الكذب من الحقيقة، لكن هذا يحتاج موارد وخبرة خاصة، وتفرغا, أى إنه يعيد وضع المسألة فى يد الخبراء بعد أن كنا نظن أن الرقمنة وشبكة المعلومات قد أدخلتنا عصر تمكين الإنسان العادي، لنجد أنفسنا نعود لنضع الأمر فى يد الخبراء من جديد، وكأننا لم نغادر نقطة الانطلاق، فقط جعلنا الأمر أكثر تشويشا.
مناسبة التفكير فى هذا الموضوع هو احتفال العالم بعيد الميلاد الثلاثين لشبكة الإنترنت. لقد تغيرت حياتنا كثيرا فى ثلاثين عاما فقط، ولا أظن أن اختراعا سبق أن كان له كل هذا القدر من التأثير فى مثل هذه الفترة القصيرة. النظرة المتشائمة التى أحملها ليست مجرد مخاوف مثقف إصلاحى من العالم الثالث، فقد وجدت نفس التقييم المتشائم لدى مخترع الإنترنت، السير تيم بيرنرز لي، فى تصريحات أدلى بها للإذاعة البريطانية بهذه المناسبة. انتشار القبح والتضليل، هكذا لخص السير تيم لى الصورة الحالية على الشبكة. السير لى لا يتابع ما يجرى عندنا، ولكنه يتحدث عما يجرى فى بلاده الغنية المتقدمة، فما بالك لو وصلته أخبارنا؟
ثلاث مخاطر تثير قلق السير لي، الأنشطة الضارة مثل انتهاك الخصوصية والتحرش؛ والبرمجيات التى تخدع المستخدمين لإجبارهم على الدخول إلى مواقع بعينها من أجل الربح المادي, والاستقطاب والعدوانية فى النقاش وطرح الأفكار. يقول مخترع الإنترنت أن الأمور على الشبكة كانت تسير بشكل جيد فى الأعوام الخمسة عشر الأولى، أما بعد ذلك فقد ساء الوضع؛ ويقول أيضا إنه لم يكن من الصواب الاكتفاء باختراع الشبكة، ثم ترك الأمر بعد ذلك لكل فرد مع جهازه, وكأنه يقول أنه كان من الأفضل لو بقى هناك حارس للبوابة يضبط التفاعلات قبل أن تصبح خارج السيطرة. هذا هو العالم بعد ثلاثين سنة إنترنت، فكيف يكون شكله بعد ثلاثين سنة أخرى، وهل ستكون البشرية هناك أم أن الذكاء الاصطناعى والروبوتات سيتكفلان بالقضاء على الناجين من عصر الإنترنت؟
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ 14 مارس 2019.