دخل الاقتصاد التُركي في حالة من التدهورِ بعد أن شهد سعر صرف الليرة التركية خلال عام 2018 انهيارًا حادًّا أمام الدولار. فعند بداية العام كان الدولارُ يُساوي 3.75 ليرات، وبحلول أول أغسطس بلغ 6.53 ليرات، وهو أدنى سعر صرف لليرة في تاريخها، ثم تَحسّن السعر قليلًا ليستقر خلال 2019 حول مُعدل 5.4 ليرات. وقد صاحب ذلك التردي في سعر الليرة، انخفاض مُعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث تراجع الاقتصاد بنسبة 1.6% في الربع الثالث من العام الماضي مقارنةً بالربع الثاني، ثم سجل انكماشًا مرة أخرى بنسبة 2.4% في الربع الرابع، وبالتالي، دخل الاقتصاد التركي في حالة ركود (على أساس تعريف الركود بأنه حدوث انكماش في الناتج المحلي الإجمالي) إلى ربعين سنويين متتاليين. وفي الإجمال، انخفض معدل النمو إلى 2.6% خلال العام الماضي، بعد أن كان قد سجل 7.4% في عام 2017. ويتوقع صندوق النقد الدولي انخفاض معدل النمو إلى 0.4% فقط خلال عام 2019. وكان من الطبيعي مع هذا التدهور أن تتم تخفيضات مُتتالية للتصنيف الائتماني للحكومة التُركية من الوكالات الرئيسية الثلاث: فيتش، وموديز، وستاندرد آند بورز، مع إجماع على نظرة سلبية للاقتصاد في المُستقبل المنظور.
هذا المقال يُحاول التوصل للأسباب الاقتصادية الداخلية والخارجية لهذا الانهيار، ليخرُج في النهاية بمجموعة من الدروس ينبغي وضعها في الحُسبان لتفادي المُشكلات التي دفعت الاقتصاد التُركي ومن خلفه الليرة لهذا المأزق.
أولًا: المشكلات الهيكلية للاقتصاد التُركي
تُعاني بنية الاقتصاد التُركي في الأساس من مجموعة من المُشكلات الهيكلية، نشأت في مرحلة إعادة تأهيله عقب الأزمة النقدية الحادة التي شهدها خلال العقد الأول من القرن الحالي، واستمرت جميعها في التضخم حتى أسفرت عن وضعه الحالي. ونعرض فيما يلي أهم هذه المشكلات:
1- عجز الحساب الجاري
شهد الحساب الجاري التُركي عجزًا هيكليًّا مُتزايدًا مُنذ بدايات القرن الحالي، إذ بلغ العجز في عام 2000 حوالي عشرة مليارات دولار، واستمر في التزايد حتى وصل إلى 39.5 مليار دولار في عام 2008، اتجه بعدها للانخفاض خلال عام 2009 ليبلغ إجمالي العجز التراكمي 168.2 مليار دولار خلال الفترة (2000-2009). لكن هذا العجز تفاقم مرة أخرى ليبلغ أعلى مُعدل في تاريخه في عام 2011 عند 74.4 مليار دولار، وليصل إجماليه خلال الفترة (2017-2010) نحو 387 مليارًا. وتأتي هذه العجوزات في ظل ناتج محلي إجمالي بلغ 851 مليار دولار في عام 2017، ما جعل تُركيا تحل في المرتبةِ الأخيرةِ من حيث أداء الميزان التجاري بين دول مُنظمةِ التعاونِ الاقتصادي والتنميةِ OECD خلال العامِ ذاته. ويوضح الشكل التالي أداء الحساب الجاري خلال الفترة (2000- 2007).
شكل رقم (1): تطور عجز الحساب الجاري التُركي خلال الفترة (2000-2017) مليار دولار

ويُمكن رد هذا العجز في مُجمله إلى اعتماد النمو التُركي على الخارج؛ فمن ناحية تستورد تُركيا جزءًا كبيرًا من طاقتها، حيث تنعكس زيادة أسعار الطاقة سلبًا على الحساب الجاري، إذ ينتُج عنها ارتفاع تكاليف الإنتاج التي تؤدي بدورها لارتفاع أسعار المُنتجات، ما يُقلص الصادرات في نهاية المطاف. ومن ناحية أخرى، كان الاعتماد على رأس المال الأجنبي في تمويل النمو، خاصة في ظل تنامي المعروض العالمي من القروض مع انخفاض التكلفة، وما صاحبه من زيادة تدفقات رأس المال الأجنبي إلى الداخل، دافعًا للمُبالغة في تقدير قيمة الليرةِ، الأمر الذي انتهى بالتأثير سلبًا على حجم الصادرات.
2- تنامي الدين الخارجي
كانت مُعدلات الدين الخارجي التُركي للقطاعين العام والخاص في بداية القرن قد استقرت حول مُعدلات خمسين مليار دولار، لكن بحلول عام 2008 كانت قد تضخمت لتبلغ نحو 189 مليار دولار، ما يعني زيادتها بنسبة تقترب من 400% خلال ثماني سنوات فقط. ثم شهدت ديون القطاع الخاص طفرةً أخرى بداية من عام 2013، إذ بلغت 286 مليارًا، واستمرت في النمو لتصل إلى أعلى مُعدل في تاريخها على الإطلاق في عام 2017 بتسجيلها حوالي 318 مليار دولار. كذلك سلك الدين الحكومي ذات المسلك، فشهد خلال الرُبع الأول في 2018 أعلى مُعدلاته بتسجيله 141 مليار دولار، لينخفض بعد ذلك في الرُبع الثالث إلى 137 مليار دولار ليصل إجمالي الدين العام والخاص إلى نحو 53.8% من الناتج المحلي الإجمالي. ويوضح الشكل رقم (2) تطور نمو الدين الخارجي التُركي خلال الفترة (2000- 2018).
شكل رقم (2): تنامي الدين الخارجي التُركي للقطاعين العام والخاص خلال الفترة (2000-2018)

وقد ضاعف من الصعوبات أمام الاقتصاد التُركي -بالإضافة لتضخم حجم الديون- مواعيد استحقاقها، إذ استحق منها خلال شهري نوفمبر وديسمبر 2018 فقط ما إجماليه حوالي 7.5 مليارات دولار من الديون قصيرة الأجل، بالإضافة إلى 10.1 مليارات أخرى طويلة الأجل. أما في عام 2019 فإنه يُستحق منها خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 11.1 مليارًا قصيرة الأجل، و69 مليارًا طويلة الأجل، بإجمالي 80 مليار دولار خلال أقل من عام، أي ما يزيد إجماليه عن 130% من الاحتياطي النقدي من العُملات الأجنبية لدى البنك المركزي. ويوضح الجدول التالي توزيع هذه الديون ومواعيد استحقاقها.
جدول رقم (1): مواعيد استحقاق الديون التُركية

3- انخفاض الاحتياطي النقدي
على عكس المؤشرين السابقين، تنامى الاحتياطي النقدي التُركي من العُملاتِ الأجنبيةِ خلال العقدِ الأول من القرن الحالي بمُعدلات مُرتفعة حتى بلغ في عام 2013 ما يُعادل 109 مليارات دولار تقريبًا مقارنة بحوالي 22 مليارًا فقط في عام 2000. لكن بحلول عام 2014 بدأ المؤشر يعكس اتجاهه نحو انخفاض متواتر حتى انتهى عام 2018 على أدنى مُعدل له في ثمانية أعوام، إذ وصل إلى 71 مليار دولار تقريبًا، مُتزامنًا مع أزمة انهيار مُعدلات صرف الليرة أمام الدولار. ويوضح الشكل رقم (3) تطور حجم الاحتياطي النقدي التُركي من العُملات الأجنبية خلال الفترة (2000- 2019).
شكل رقم (3): تطور الاحتياطي النقدي التُركي من العُملات الأجنبية خلال الفترة (2000-2019) بالمليار دولار

ومع استمرار عجز الحساب الجاري في التزايد بعد عام 2014، بدأ -في الوقت نفسه- انتهاء سياسات التيسير الكمي الأمريكية وتبدُّل سياسة الاحتياطي الفيدرالي بالتوجه لرفع أسعار الفائدة، وتزايدت أعباء خدمة الدين الخارجي. علاوة على ذلك، تفاقم وضع العلاقات الخارجية التُركية، إذ بدأت سلسلة من الأزمات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أسفرت في النهاية عن تردٍّ واضحٍ في علاقاتها الخارجية. وقد أدى هذان العاملان معًا إلى إعاقة التدفقات النقدية في شكلِ استثمارات مُباشرة، مما فشلت معه تُركيا في تغطية عجز حسابها الجاري، وهو ما سبب انخفاضًا مُفرطًا في قيمة الليرة التركية، الأمر الذي دفع البنك المركزي لمُحاولة وقف هذه الانخفاضات من خلال عرض المزيد من احتياطاته النقدية الأجنبية في سوق الصرف.
4- التحول عن التصنيع
اهتمت الحكومات التُركية في بداية فترة الإصلاح الاقتصادي بالقطاع الصناعي، فحظي بأكبر قدر من الاستثمارات، سواء العامة أو الخاصة، واستمر الوضع كذلك حتى عام 2007، عندما بدأت تطرأ تغيُّرات جذرية على سياسة الاستثمار التُركية، مدفوعة -من ناحية- بالسياسة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية( ) الذي توسع في الإسكان الاجتماعي المُمول بقروض خارجية، بالإضافة للتغيُّرات التي جرت على المُناخ الاقتصادي العالمي في هذه الفترة. وأدى ذلك إلى التحول من قطاع التصنيع إلى قطاعي الإسكان والنقل، ما أسفر عن تراجع نصيب التصنيع من الاستثمارات إلى 18% عام 2016 بعدما بلغ 28% في عام 2004، بينما ارتفع نصيب قطاعي النقل والإسكان من 26.5%، و22% في عام 2004 إلى 33%، و28% في عام 2016 على التوالي.
شكل رقم (4): حصة أهم القطاعات الاقتصادية من الاستثمارات العامة والخاصة في تُركيا خلال فترة (2003- 2016) نسبة مئوية

Marschall, Melissa, Abdullah Aydogan, and Alper Bulut. “Does housing create votes? Explaining the electoral success of the AKP in Turkey.” Electoral Studies 42 (2016): 201-212.
ثانيًا: المؤثرات الخارجية.. أسعار الفائدة الأمريكية
بالإضافة إلى المشكلات الهيكلية السابقة، جاءت المؤثرات الخارجية الناتجة عما يشهده الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، من تحولات لتضاعف من التأثيرات السلبية لهذه المشكلات.
وجاء على رأس هذه المؤثرات الخارجية ارتفاع مُعدلات الفائدة في الولايات المُتحدة. إذ تتأثر التدفقات النقدية في العالم بشدة بالتغيرات في أسعارِ الفائدةِ الأمريكيةِ، حيثُ يؤدي ارتفاعها إلى خفض هذه التدفقات للخارج، وبخاصة للأسواق الناشئة ذات التصنيفات الائتمانية المُنخفضة التي تعتمد على مُعدلات الفائدة وارتفاع العائد على الاستثمار لجذبها، حيثُ تظل رؤوس الأموال في البنوك دون مُخاطرة في حين تُدر عوائد معقولة. ويحدُث العكس في حال انخفاض العائد، إذ تخرُج رؤوس الأموال بحثًا عن عوائد مُرتفعة.
وكانت أسعار الفائدة في الاقتصاد الأمريكي قد ظلت أدنى من 0.3% خلال مُعظم الفترة (2009-2015)، ما سهل تدفقات الاستثمار الأجنبي للأسواق الناشئة ومن بينها تُركيا. لكن بحلول عام 2016 بدأ الحال يتبدل؛ إذ شهد الاقتصاد الأمريكي مُعدلات توظُف مُرتفعة مصحوبةً بارتفاع مُعدلات التضخم في نهاية عهد “أوباما”، وبوتيرة أسرع في عهد “ترامب” نتيجة تبدل سياسته المالية، ما دفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى الاتجاه لرفع تدريجي لأسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، حتى وصلت وقت كتابة هذا المقال إلى 2.5%، الأمر الذي ترتب عليه شح التدفقات النقدية للأسواق الناشئة، وبالتالي قلة المعروض من العُملات الأجنبية في السوق التُركية.
شكل رقم (5): تطور أسعار الفائدة في الاقتصاد الأمريكي

أطلق تزامُن العوامل السابقةِ معًا سلسلةً من التفاعلات الاقتصادية، بدأت بارتفاعِ الطلب على العُملات الأجنبية المرغوبةِ بشدة لسداد الديون المُرتفعة للحكومة والقطاع الخاص على السواء، في ظل احتياطيِ نقدي مُتناقص وغير كافٍ لمُعادلة الضغط في جانب الطلب، مصحوبًا بإصرار الرئيس “أردوغان” على منع البنك المركزي التُركي لفترة طويلة من رفع سعر الفائدة لاجتذاب استثمارات أجنبية ترفع المعروض في السوق، ما أدى في النهاية إلى فقدان الليرة أكثر من 40% من قيمتها.
من العرض السابق، يتضح أنه رغم تأثر الاقتصاد التركي بارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية؛ إلا أن المشكلة الاقتصادية التركية تعود في الأساس إلى عدد من المشكلات الهيكلية الداخلية، أنتجت معًا الأزمة الحالية. ومن هذه التجربة، يمكن استخلاص عدد من الدلالات المهمة بالنسبة للاقتصادات الناشئة، لعل أبرزها: أهمية السيطرة على مشكلة العجز في الميزان التجاري، وأهمية عدم التوسع في الإنفاق الاستهلاكي المُمول بقروض أجنبية، مع ضرورة التركيز على توجيه هذه القروض للنشاطات الإنتاجية، خاصة لقطاع الصناعة.