فى اللقاء الصحفى للرئيسين العراقى برهم صالح والإيرانى حسن روحانى، الذى تلا اللقاء الأول بينهما مستهل زيارة الثانى للعراق، وصف الرئيس العراقى موقف بلاده بأنه محظوظ نظراً لوقوعه بين جيران، مثل إيران، تركيا والامتداد العربى، والوصف على هذا النحو يلقى بأعباء كبيرة على بغداد، التى تعافت وبنسبة كبيرة من إرهاب داعش، ولكنها ما زالت تقاوم أوجه فساد بالغة، وتخشى بقايا التنظيم الهائم على وجهه فى مناطق مختلفة من العراق، لا سيما القريبة من الحدود مع سوريا، وهو ما أشار إليه أيضاً الرئيس برهم صالح، باعتبار أن النصر على داعش لم يكتمل بعد، وبحاجة إلى تنسيق الجهود مع الجيران، وهنا تبرز إيران باعتبارها أحد أهم جيران العراق المعنيين أيضاً بمحاربة داعش فى العراق وسوريا، والذين تعاونوا مع حكومة حيدر العبادى من قبل.
العراق الآن ينظر إلى نفسه باعتباره نقطة التقاء بين قوى متضاربة المشارب ومختلفة فيما بينها حول العديد من القضايا التى تهم المنطقة، والإشارة إلى كل من إيران وتركيا والامتداد العربى لا تكفى فى بيان حجم الضغوط وأيضاً الفرص الممكنة، فهناك الوجود الأمريكىالعسكرى، الذى ينتشر فىثمانى قواعد، ويتراوح عدد الجنود الأمريكيين ما بين 8 آلاف و9 آلاف جندى، ورسمياً فهذا الوجود العسكرى له وظيفة واحدة وهى تدريب الجيش العراقى والإشراف على عمليات تسليحه وتقديم الاستشارات الخاصة بالحرب على تنظيم داعش، أما غير الرسمى فيمتد إلى أمرين جديدين، حددتهما واشنطن، وغالباً بدون التنسيق مع المسئولين العراقيين، الأول وهو مراقبة الأنشطة الإيرانية سواء فى العراق أو فى سوريا، والثانى منع قيام الميليشيات الشيعية العراقية من تأمين طريق برى يربط بين العراق وسوريا، يسهل وصول الإمدادات العسكرية الثقيلة من إيران إلى دمشق وبيروت، وهو ما أشار إليه صراحة الرئيس ترامب حين زار إحدى القواعد الأمريكية فى العراق بدون علم مسئوليها ليلة الاحتفال بميلاد المسيح 25 ديسمبر من العام الماضى، وكان التعليق البارز آنذاك للرئيس برهم صالح أن العراق لم يعط إذناً لواشنطن بمراقبة أى من جيرانه.
بالقطع تصريحات كبار المسئولين لا توضح كل شىء، ولكنها على الأقل تعطى مؤشراً على حجم الخلافات الموجودة، وتوحى بمسار حلها أيضاً، والمعتقد هنا أن العراق لن يمنح الولايات المتحدة أى تفويض للقيام بعمل عسكرى ضد إيران انطلاقاً من أراضيه، وسوف يكون صادقاً فى هذا الموقف، نظراً لثقل النفوذ الإيرانىفى دهاليز السياسة والمجتمع العراقى، بيد أن الأمريكيين، لا سيما فى عهد الرئيس ترامب، لا يبالون كثيراً بمصالح الآخرين، وهم على استعداد لتجاوز كل الأطر الدبلوماسية التى يرونها تعوق حركتهم، لا سيما إذا تعلق الأمر بما يرونه مصلحة أمريكية عليا.
معروف أن الولايات المتحدة قد استثنت العراق من العقوبات المفروضة على إيران، وبما يسمح باستمرار العلاقات التجارية وانتقال الأفراد على الحدود الإيرانية العراقية بدون التعرض لانتقادات أمريكية، وهو ما يمثل بالنسبة لطهران منفذاً مهماً للتخفيف من أثر العقوبات الأمريكية، وهو ما يمثل أحد دوافع زيارة الرئيس حسن روحانى للعراق من أجل تثبيت هذا الوضع وتطويره وزيادة التبادلات التجارية إلى ما يقرب من 12 أو 15 مليار دولار، انطلاقاً من حجمها الراهن حول 9 مليارات دولار وفقاً لبيانات 2017، وبالفعل يمكن للعراق أن يقدم الكثير، فمجرد وضع آلية لتسوية الديون المستحقة لطهران نظير استيراد الكهرباء الإيرانية، البالغ ثمنها أربعة مليارات دولار، سيساعد فى الحصول على كميات مناسبة من النقد الأجنبى الذى تفتقده طهران حالياً، والطموح الإيرانى هنا يتطلع إلى ربط خط سكة حديد بين مدينتىخورمشهر الإيرانية والبصرة العراقية، وتسوية الحدود من خلال إعادة النظر فى اتفاقية الجزائر للعام 1975، وتسوية وضع آبار النفط المشتركة، وتسهيلات أكبر للزوار الإيرانيين للمواقع الدينية المقدسة.
وكل هذه مجالات لمصالح مشتركة، لكن يظل الموقف الأمريكى حاسماً إلى حد كبير، فتوقيع الاتفاقيات ليس نهاية المطاف، إنما تطبيقها هو الأهم، وغالباً ما ستحاول الولايات المتحدة ضبط الحركة فى هذه المجالات بغية محاصرة النفوذ الإيرانى من جهة، ولعدم الإفلات التام من تأثير العقوبات من جهة أخرى، ففى مجال التأثير على أدوات النفوذ الإيرانية فى الداخل العراقى، قررت واشنطن اعتبار حركة النجباء العراقية، وهى إحدى تنظيمات الحشد الشعبىالعراقى، حركة إرهابية، وذلك قبل خمسة أيام فقط من زيارة الرئيس روحانى إلى بغداد، فى إشارة إلى أن البيت الأبيض لن يتساهل مع أى محاولة لتوسيع النفوذ الإيرانى، وأن أدواته المحلية ستظل هدفاً دائماً للضغوط الأمريكية.
وأهمية القرار الأمريكى ترجع إلى الدور الذى تلعبه حركة النجباء فى الداخل العراقى بزعامة أكرم الكعبى، وفلسفتها الفكرية والدينية، وعلاقتها المباشرة مع طهران، ويُنظر إلى هذه الحركة، التى انشقت 2013 عن جماعة عصائب أهل الحق برئاسة قيس الخزعلى، باعتبارها نسخة مكررة من حزب الله اللبنانى، فكلاهما يؤمن بنظام الولى الفقيه الإيرانى، وكلاهما اشترك بكثافة فى القتال داخل سوريا إلى جانب الجيش السورىفى مواجهة تنظيم داعش، ويحصلان على دعم معلن من الحرس الثورىالإيرانى مالاً وسلاحاً وتدريباً، وكثيراً ما يهدد قادتها القوات الأمريكية فى العراق إذا ما وجهت ضربة إلى إيران، ويطالبون برحيلها ويدعون البرلمان العراقى إلى إصدار تشريع ينهى الوجود الأمريكىفى البلاد، وتعد الخطوة الأمريكية تحذيراً مباشراً لباقى فصائل الحشد الشعبى إذا ما اشتركت فىأى أعمال عسكرية فىالأراضى السورية بهدف تأمين طريق يربط بين إيران وسوريا ولبنان عبر العراق.
كل هذه الملابسات تجعل التحركات العراقية مشدودة على حبل رفيع، فالنفوذ الإيرانى قائم ومتغلغل وله أرضية مجتمعية وعقدية، والنفوذ الأمريكى أيضاً موجود ويصعب تجاهله، وفى الآن ذاته تسعى قوى عربية منذ فترة إلى مزيد من التعاون مع العراق وعدم تركه ساحة خالية من العروبة، لكن خريطة القوى فى الداخل العراقى لا تسمح إلا بتأثيرات عربية محدودة، وإذا كانت الحكومة العراقية قد اقترحت طرح مبادرة لحوار أمنى بين دول المنطقة، وهو ما قبلته إيران مبدئياً حسب تصريحات الوزير محمد جواد ظريف، فإن رد الفعل العربى سيظل مرهوناً بتغيير كبير فى السياسات والمواقف الإيرانية والتزامها مبادئ الأمم المتحدة بعدم التدخل فى شئون دول الجوار، وهو ما لا تتوافر مؤشرات جدية عليه، والأجدر أن تسعى بغداد إلى توفير هذا الشرط الأساسى لدى طهران أولاً.
*نقلا عن صحيفة الوطن، نشر بتاريخ ١٤ مارس ٢٠١٩.