تحتفل مصر فى التاسع عشر من مارس الحالى بالذكرى الثلاثين لاسترداد طابا بعد معركة سياسية ودبلوماسية وقانونية شديدة الشراسة، وهو إنجاز لا يقف عند مجرد تحرير أو استعادة قطعة أرض، مهما كانت قيمتها الإستراتيجية، ولكنه كان بالتأكيد ملحمة وطنية متكاملة ستظل شاهدة على نجاح الدولة المصرية فى كيفية استثمار إمكانياتها من أجل أن تكتب لنفسها إنجازاً تتحدث عنه كل الأجيال بكل فخر واعتزاز أسوة بما أنجزته مصر فى حرب أكتوبر 1973 العظيمة والخالدة.
من المؤكد أن الدروس المستفادة من ملحمة طابا تحتاج إلى مئات الصفحات حتى يتم سردها ووضعها أمانة أمام كل المصريين فى الحاضر والمستقبل. وفى نفس الوقت لا يمكن لنا أن نتحدث عن هذه الملحمة ونحصرها فى الإطار التاريخى أو القانونى فقط، لكن الأهم أن نظهر كيف مثلت هذه الملحمة نموذجاً للنجاح والتميز إذا ما أرادت الدولة المصرية أن تحقق بقدرات أبنائها وتفانيهم ماترغب فيه منمعجزات وإنجازات.
بداية من المهم أن أشير باختصار شديد إلى تطورات قضية طابا، والتي نلخصها فيما يلي:
– قررت إسرائيل إتمام انسحابها النهائى من سيناء فى 25 أبريل 1982 طبقاً لما كان متفقا عليه، لكنها أعلنت أنها سوف تستثنى منطقة طابا الواقعة على رأس خليج العقبة من الإنسحاب بدعوى أن علامة الحدود التى توضح موقع طابا (المعروفة بإسم العلامة 91) غير واضحة المعالم وغير موجودة داخل الأراضى المصرية.
– حرصت مصر على ألا تؤدى هذه المشكلة إلى عدم إتمام الإنسحاب النهائى الإسرائيلى من سيناء، فوافقت على إنسحاب إسرائيل عدا طابامادامت هناك آلية حل مستقبلى منصوص عليها فى المعاهدة.
– شكلت القيادة السياسية المصرية فى مايو 1985 لجنة على أعلى مستوى عُرفت بإسم اللجنة القومية العليا لطابا، وأُوكل إليها مهمة رئيسية واحدة وهى إعادة طابا للسيادة المصرية.
– وقعت مصر وإسرائيل مشارطة التحكيم – بعد عدم نجاح وسيلتى المفاوضة والتوفيق- فى سبتمبر 1986 واستطاعت مصر بجدارة حصر مهمة هيئة التحكيم الدولية فى نقطة واحدة وهى تقرير موضع علامات الحدود الدولية المختلف عليها،وليس البحث فى إعادة ترسيم خط الحدود كله كما كانت ترغب إسرائيل.
– قررت هيئة التحكيم فى أعقاب المرافعات والوثائق التى قدمها الجانبان المصرى والإسرائيلى أحقية مصر فى طابا،وذلك فى سبتمبر 1988، وبالتالى انسحبت إسرائيل منها وتم رفع العلم المصرى عليها فى 19 مارس 1989.
ليس من الإنصاف أن نمر مروراً سريعاً على ذكرى هذه الملحمة دون أن نقف عند الدروس المستفادة، وعوامل النجاحلنتعلم منها ونتدارسها لتكون لنا نبراساً وطريقاً لتخطى أصعب العقبات التى يمكن أن تواجهها الدولة المصرية فى أى وقت،خاصة أن كاتب هذا المقال نال شرف أن يكون أحد أعضاء اللجنة القومية العليا لطابا، وعاصر لمدة خمس سنوات من المفاوضات شديدة الصعوبة والتعقيد مع الجانب الإسرائيلى حتى تم استرداد طابا.
وبالتالى أستطيع فى رأيى أن أوجز عوامل النجاح التى تحققت، بل ومازالت تصلح أن تكون نموذجاً للنجاح فى القضايا الكبرى التى يمكن أن نتعرض لها فى أربعةعشر عاملاً رئيسياً على النحو التالى:
العامل الأول: تأكيد مصر التزامها بكافة الإتفاقات التى وقعتها مع دول العالم ومن بينها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية،وهو مبدأ ثابت فى سياستنا الخارجية يؤكد حرص مصر على أن تكون عنصراً فعالاً وملتزماً فى المجتمع الدولى.
العامل الثانى: التحرك لحل مشكلة طابا بالشكل القانونى من خلال ما نصت عليه المادة السابعة من المعاهدة أن أية خلافات بين الدولتين ناشئة عن المعاهدة يتم حلها من خلال المفاوضة أولاًوإذا فشلت يتم التوجه إلى التوفيق وإذا فشلت يحال الخلاف إلى التحكيم .
العامل الثالث:النجاح الكبير فى بلورة هذه المشكلة لتكون بمثابة مشروع قومى أو قضية قومية يلتف حولها كل الشعب المصرى وليست مجرد قضية فرعية أو ثانوية.
العامل الرابع: تحديد الهدف من المفاوضات بشكل واضح من البداية، وهو عدم التفريط فى أى سنتيمتر من الأرض المصرية مهما كان الثمن. وقد كان هذا هو المبدأ المقدس الذى تحرك على أساسه طاقم التفاوض المصرى فى مئات الجلسات التى عُقدت مع الطرف الآخر على مدار خمس سنوات.
العامل الخامس: تحرر الدولة من كافة الضغوط التى يمكن أن تعوق تحقيق الهدف المحدد، سواء عامل الوقت الذى لم يكن سيفاً مسلطاً على المفاوض المصرى،أو عدم ترك الفرصة لإسرائيل لتعطيل المفاوضات أو نسفها مهما كانت الأسباب، بل نجحت مصر فى الضغط على إسرائيل من خلال رفض عودة السفير المصرى إلى تل أبيب (بعد سحبه عام 1982) إلا إذا وافقت الأخيرة على تحويل المشكلة إلى التحكيم وهو ما تحقق بالفعل.
العامل السادس: اختيار طاقم التفاوض المصرى بصورة متأنية، حيث ضم الوفد كل الخبرات المهنية المحترفة فى كافة التخصصات ومن جميع المؤسسات المصرية المعنية،السياسية والقانونية والدبلوماسية والمهنية والعسكرية والأمنية دون استثناء،بالإضافة إلى وجود قيادة قانونية متميزة للوفد تحظى باحترام دولى كبير وهو الدكتور نبيل العربى.
العامل السابع: التنسيق الكاملبين كافة المؤسسات والهيئات المعنية بمتابعة هذه القضية المهمة وإزالة كافة القيود الإدارية أمامها وأية قيود أخرى حتى أصبح هذا التنسيق فعالاً ومؤثراًوغير مسبوق،وأصبح الوفد المفاوض منظومة عمل واحدة متناسقة وكأنه ينتمى لمؤسسة واحدة.
العامل الثامن: التأييد الكبير والثقة المطلقة التى أولاها الشعب المصرى لقيادته السياسية تجاه هذه القضية،وقناعته بقدرتها على حلها، وهو ما عكس بالتالى ثقة كل من القيادة والرأى العام فى طاقم التفاوض الذى اكتسب قوته من هذه الثقة.
العامل التاسع: تفانى طاقم التفاوض المصرى فى العمل وبذل الجهد المضنى المتواصل بعيداً عن البحث عن أية مصالح أو مزايا شخصية أو ظهور إعلامى غير مرغوب فيه كان من الممكن أن يأتى بنتائج سلبية. وكان هناك حرصاً من جانب الدولة على أن تكون المعالجة الإعلامية للقضية هادئة ومختصرة ومرشدة ودون تفاصيل،وألا يترك الأمر للإعلام دون ضوابط حتى لا يؤثر على سير المفاوضات.
العامل العاشر: التنسيق المتواصل والمراجعة المستمرة بين القيادة السياسية وقيادة طاقم التفاوض من أجل الوقوف على أية مستجدات،وتلقى التوجيهات الضرورية،مع الاتجاه لتغيير تكتيك العمل واسلوب التفاوض كلما كان الأمر ضرورياً.
العامل الحادى عشر: قدرة المفاوض المصرى على تفهم تحركات وأهداف وتكتيكات وطبيعة شخصيات طاقم التفاوض الإسرائيلى الذى انتهج أساليب عديدة مزعجة،من بينها ما يمكن أن أسميه الضغط النفسى والذى هدف إلى إرهاق الجانب المصرى بتفصيلات لا حصر لها بعيداً عن جوهر المشكلة، أملاً فى دفعه للتسليم مبكراً، ومن ثم الموافقة على الحجج الإسرائيلية، وهو ما لم يحدث، بلانتهج الجانب المصرى بنجاح ما يمكن أن أسميه سياسة النفس الطويل الهادئ والثقة المطلقة فى قدرته على إنجاز مهمته بنجاح فى النهاية.
العامل الثانى عشر: وطنية ومسئولية الأحزاب السياسية التى يمكن تسميتها بالأحزاب المعارضة واندماجها عن طواعية فى المنظومة الوطنية للدولة من أجل تحقيق أهدافها القومية. ولعل وجود الدكتور وحيد رأفت،القيادى الوفدى الكبير، كأحد أهم الخبراء القانونيين فى وفد التفاوض المصرى آنذاك خير دليل على هذا الأمر .
العامل الثالث عشر: تحرك الدولة المكثف على المستوى الخارجى، ممثلاً فى القيادة السياسية والمؤسسات المعنية بالقضية وتحديداً مع بعض دول العالم المعنية بالأمر، وكذا التواصل مع بعض الشخصيات الأجنبية من أجل الحصول على كافة الأدلة والوثائق والبراهين الموجودة لدى هذه الدول والشخصيات التى تؤكد تاريخياً أحقية مصر فى طابا.
العامل الرابع عشر: نجاح الجانب المصرى ووفده التفاوضى فى احتواء الطرف الأمريكى الوسيط الذى كان متواجداً خلال المفاوضات وإبعاده بجدارة عن التحيز للجانب الإسرائيلى من خلال ما أبداه الوفد المصرى خلال كافة المباحثات من قناعة، وجدية، وموضوعية، وتمسك بالأدلة القانونية، وتصميم على التمسك بالهدف.
وفى ضوء ما سبق، لابد لى أن أشير فى النهاية إلى أن العوامل والدروس السابقة تؤكد أن مصر تمتلك من الإمكانيات، وخاصة الكفاءات البشرية الكثير الذى يمكنها من التصدى بنجاح لكافة القضايا المهمة التى يمكن أن تتعرض لها، وذلك فى إطار معادلة بسيطة وهى الإرادة القوية مع الإدارة الواعية، وهى معادلة ليست صعبة أو مستحيلة مادام الهدف الوطنى محدداً والتحرك يتم بشفافية ومصداقية وبرؤية وخطة واضحة. ولنا فى ملحمة طابا خير وأفضل نموذج ومثال. ولاشك أن الدولة المصرية، وهى تدرك حجم هذا الإنجاز، كانت حريصة من جانبها على تكريم طاقم التفاوض المصرى الذى نجح فى استعادة طابا. ورغم تأخر هذا التكريم حوالى ربع قرن إلا أن الأمر الجيد أنه قد حدث بالفعل، حيث قامت القيادة السياسية المصرية فى الثالث والعشرين من أبريل عام 2014 بتكريم أعضاء اللجنة القومية العليا لطابا ومنحتهم وسام الجمهورية من الطبقتين الأولى والثانية لتؤكد مصر بذلك أنها لا تنسى على مر التاريخ أبنائها المخلصين الذين قدموا كل الجهد المطلوب بصدق وتفانى من أجل مصر. كما أن هناك جنوداً مجهولين آخرين لا يعرفهم أحد ساهموا فى هذا الإنجاز.