بعد أن هدأت المعارك في سوريا، بدأت الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية تتحسب للمستقبل وترتب أوراقها، بما يكفل لها التحكم في مساراتها، ويُبقي على نفوذها ومصالحها في مواجهة الأطراف الأخرى. وعلى هذا المستوى، بدأ الحديث عن مشاهد ملفتة في العلاقات الإيرانية السورية، وسعي الطرفين لصياغة إطار لهذه العلاقات يكون قادرًا على التعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية الضاغطة على كلٍّ منهما، والتي تستهدف التأثير على طبيعة وحجم التحالف القائم بينهما. وتكتسب هذه التطورات أهميتها بالنظر إلى الاستراتيجية الأمريكية التي ترتكز على محاصرة الحضور الإيراني في المنطقة، ومحاولة قطع الأذرع الإيرانية الممتدة في أزمات المنطقة وخاصةً في سوريا، وهو ما يتوافق مع الاستراتيجية والتحركات الإسرائيلية بهذا الخصوص. كما تكتسب أهميتها كذلك في ضوء تبلور مواقف لقوى إيرانية تُطالب بمراجعة هذه العلاقات بميزان المكسب والخسارة ومدى توافقها مع المصالح الحقيقية لإيران، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن دمشق تحرص على التأكيد على أهمية دعم التحالف مع إيران كضرورة، في ضوء تراجع الموقف العربي وتردده في التقارب معها. وقد أكد ذلك زيارة الرئيس السوري لطهران نهاية شهر فبراير (2019) والتي استقبلتها إيران بحفاوة غير مسبوقة.
ولم يُعلَن عن تلك الزيارة إلا بعد انتهائها، ولذا كانت سببًا في استقالة وزير الخارجية الإيراني، ثم عدل عن ذلك، وذلك لعدم معرفته بها أو مشاركته هو ورئيس الجمهورية في لقاء الرئيس السوري مع المرشد “خامنئي”، الذي لم يحضره سوى الجنرال “قاسمي سليماني” قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الذي يتولى الملف السوري. وقد طرحت هذه الزيارة عددًا من الرسائل الجديرة بالاهتمام، خاصة أنها كشفت عن توافر قدرات واضحة لدى الدوائر الأمنية السورية والإيرانية للتعتيم على الزيارة حتى انتهائها رغم تركيز المتابعة من الأجهزة الإسرائيلية والأمريكية العسكرية والأمنية التي تراقب أية اتصالات بين دمشق وطهران، خاصة رحلات الطائرات، وهو أمرٌ له دلالاته في إطار المواجهة الحادة بين الطرفين على هذا المستوى.
كما أكدت الزيارة اتفاق الطرفين على استمرار وحماية التحالف الاستراتيجي القائم بينهما في مواجهة الحديث عن محاولات متعددة لإغراء الرئيس السوري بمراجعة مستوى علاقاته بإيران في مقابل صيغة جديدة للتعامل معه، وبما يحقق للولايات المتحدة وإسرائيل هدفهما الاستراتيجي الذي يركز على منع تموضع إيران، خاصة على المستوى العسكري، في سوريا حفاظًا على الأمن القومي الإسرائيلي.
ولا شك في أن الزيارة قد تضمنت كذلك رسالة للدول العربية التي تراجعت عما سبق أن أعلنته من تقارب مع سوريا، والتلويح باستعادة دمشق لمقعدها في الجامعة العربية، والتي كانت تطمح أن تحقق بذلك توازنًا مع النفوذ والاستفراد الإيراني بسوريا، وبالتالي استمرار غياب الحضور العربي المؤثر في سوريا. كما أن أهم هذه الرسائل هي الرسالة الموجهة لروسيا، خاصة أنها تزامنت مع تبلور الحوار والتفاهم الروسي-الإسرائيلي بخصوص الحضور الإيراني في سوريا. ويؤكد ذلك ما ذكرته مصادر روسية بأن الزيارة لم تتم مناقشتها مسبقًا بين دمشق وموسكو، وأن الزيارة تحاول التأكيد على أن التحالف مع إيران هو قرار سوري أولًا، ويجب أن تشارك سوريا فيه، وأن دمشق تُقدّر من وقفوا إلى جانبها خلال الصراع العسكري. وبالتالي، فإن الحديث عن خروج القوات الأجنبية من سوريا لا يجب أن ينسحب على إيران، وهو موقف تحتاجه إيران في هذا التوقيت. وبصفة عامة، تكشف هذه الرسائل عن طبيعة مواقف الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية. وبداية، فإن دمشق ترى أن التحالف مع إيران يسمح لها بأوراق ضغط للتعامل مع التطورات القادمة في الأزمة السورية.
وفي ضوء ما سبق، فإن كلًّا من طهران ودمشق قد اتفقتا على أن يكون الوجود الإيراني في سوريا بأبعاده المختلفة ليس مجالًا للمساومة، وهو ما يعني تصعيد المواجهة مع الأطراف الرافضة لهذا الوجود. ويعني كذلك أن على الدول العربية التي تسعى للتعامل مع دمشق، أو القيام بدور في الأزمة السورية، أن تقبل ذلك وتتعامل معه. ومن الملاحظ أن دوائر صنع القرار الرئيسية في إيران، وعلى رأسها المرشد “خامنئي”، قد حرص على تأكيد المساندة الإيرانية للرئيس السوري.
وترى مصادر متعددة أن مشاركة الجنرال “قاسمي سليماني” خلال لقاء “خامنئي” والرئيس السوري تمثل مؤشرًا واضحًا على حرص الطرفين على الإشارة إلى استمرار الدور العسكري لإيران في سوريا، ومحاولة الرد على المواقف والتصريحات الإسرائيلية التي تستهدف التموضع العسكري الإيراني في سوريا بصفة عامة.
وقد اعتبرت قيادة “حزب الله” أن الموقف السوري الإيراني على هذا المستوى كان ضروريًّا لشرعنة وجود فصائله العسكرية في سوريا، ومطلوبًا أيضًا في هذا التوقيت الذي تتزايد فيه الضغوط والحصار عليه، ولمواجهة التحركات الإسرائيلية على هذا المستوى. ومن ناحية أخرى، فمن المهم الإشارة إلى أن الفترة الأخيرة قد شهدت لقاءات مكثفة بين مسئولين كبار إيرانيين وسوريين، تم خلالها إقرار عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والصناعية استهدفت صياغة وثيقة تعاون استراتيجي مفتوحة وغير محددة زمنيًّا وتؤكد على الارتباط بين البلدين مستقبلًا، وإتاحة الفرصة للشركات الإيرانية للمشاركة في عملية إعادة إعمار المدن السورية والبنية التحتية التي دمرتها سنوات الحرب، وهو أمر يتماشى مع تبلور مواقف لبعض القوى داخل إيران تتحفظ على طبيعة وتطور العلاقة الإيرانية بالرئيس السوري، خاصة التيارات الإصلاحية التي ترى أن جزءًا من الأزمة الاقتصادية في إيران سببه حجم الإنفاق الإيراني الضخم، سواء العسكري أو الاقتصادي، في سوريا. بل إن بعض القيادات الحكومية بدأت تطالب بأن يتم جدولة الديون الإيرانية لدى سوريا، وأن يتم الاتفاق على كيفية سدادها، وهو أمر جديد في إيران يكتسب أهميته بالنظر إلى أن تداعيات هذه العلاقة بأبعادها المختلفة كانت مجالًا لحوار قطاعات مختلفة خلال الفترة الأخيرة. ولعل تصريح رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني الذي قال فيه إنه على مدى سنوات من التعاون بين إيران وسوريا خلال الحرب أصبحت على حكومة دمشق ديون كبيرة لإيران، ويجب على الحكومة الإيرانية إقرار هذه الديون بشكل قانوني مع دمشق. وأضاف أنه أوضح ذلك خلال لقائه كبار المسئولين السوريين، وأكد أنه يجب على إيران أن تتصرف بطريقة تضمن مصالحها في سوريا.
هكذا، نرى أن إيران قد حرصت خلال الفترة الأخيرة على تثبيت أسس العلاقات مع الحكومة السورية بما يتوافق مع ما تشهده الأزمة السورية من تطورات، وبما يسمح بالتعامل مع المواقف الإقليمية والدولية بخصوص مستقبل سوريا. وبالتالي، فإن إقرار النظام السوري باستمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين بأبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإن كان ضروريًّا للنظام الإيراني في هذا التوقيت وأن دمشق تجاوبت مع ذلك، إلا أن دوائر متعددة إيرانية بدأت تطالب بضرورة الحصول على عائد ومقابل للدعم الإيراني لسوريا خلال السنوات الماضية، وهو عامل يمكن أن يكون له تأثيره على بعض عناصر الموقف الإيراني مستقبلًا. كما أن حكومة دمشق قد قررت المراهنة بصورة كبيرة على التحالف مع إيران كمحور أساسي للتعامل مع تطورات الأزمة السورية بعناصرها المختلفة، الأمر الذي يعني صعوبة تصور حضور عربي مؤثر في سوريا خلال الفترة القادمة، وأن مراهنة دمشق المتزايدة على طهران تؤكد على حدة الاستقطاب في الأزمة السورية، وتزايد التداخل الإقليمي فيها، وتأثير ذلك كله على الجهود المبذولة للوصول إلى مسار مناسب لحل الأزمة، ويتحتم على الدول العربية الحريصة على الأمن القومي العربي مراجعة مواقفها بهذا الخصوص.
وربما تترك هذه التطورات بعض التداعيات على الاستراتيجية الروسية في سوريا التي وإن كانت تتضمن -في بعض جوانبها- استثمار التحالف مع إيران في مواجهة الموقف الأمريكي والغربي بصفة عامة؛ إلا أنها تحرص على أن يكون الدور الإيراني لا يتناقض مع الإطار العام لتلك الاستراتيجية. ولعل الجولة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي في بعض دول الخليج، وحرصه على دفع تلك الدول لأهمية التقارب مع الحكومة السورية، تؤكد على ذلك، وبصفة خاصة لموازنة الحضور والدور الإيراني في سوريا بطريقة هادئة، ولتبقى روسيا القوة الأساسية المحركة للأحداث في سوريا، والطرف المنتصر الذي يمتلك منفردًا القدرة على فرض الشروط وتحقيق المكاسب.