هناك أكثر من طرف يعمل بدأب للانقلاب على التوازنات الإقليمية القديمة التى شكلت أساسًا للنظام الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة منذ عقود
سباق محموم تجرى وقائعه على مربعات الشرق، حيث لم يخف مؤخرًا ساكنوه والمتصارعون حوله، ما يشبه الاعتراف الكامل بما يجرى. وبما استعدوا له ويمارسونه داخل طيات المشهد الذى يوصف اليوم، بأنه وصل لحالة متقدمة من تكسير العظام دون رحمة. وقد تبدو حزمة من معادلات التسابق حول الاستحواذ ورسم دوائر النفوذ، كافية لتبيان بعض وليس كل ما يجرى على الأرض وفى البحار، وعلى أعتاب منصات الإطلاق المتأهبة، لنقض السلام الذى ربما دام عقودًا تحت سطوة معادلات قديمة ولى زمنها دون شك.
الجيل الجديد من القادة فى الصين، ينظرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة باعتبارها «التهديد الخارجى الأخطر» على معادلة أمنهم الجيوسياسى. ومع مستجدات وفرة الرخاء الذى تحقق وبدا تزايد قوة الصين الشاملة، تسعى بكين جاهدة لترسيخ سيادتها فى منطقة آسيا، المحيط الهادئ. هذا ما عبّر عنه أدميرال صينى فى عام ٢٠٠٧، قائلًا لنظيره الأمريكى إنه ينبغى على البلدين تقاسم المحيط الهادئ، بحيث تكون جزيرة «هاواى» الحد الفاصل بينهما. وعلى ذات القدر من الطموح ذكر «يانج جى شى» وزير خارجية الصين، النقطة ذاتها فى ٢٠١٠، بقوله عن دول جنوب شرق آسيا: «إن الصين بلد كبير والدول الأخرى صغيرة، وهذه هى الحقيقة». وبكين فى هذا الفصل من السباق، لم تقف عند حد إطلاق المقولات وتشكيل الطموح، بل ترجمت الصين خطابها إلى سياسات باتت اليوم ماثلة للعيان وقيد التنفيذ.
يحرص الخطاب الصينى دومًا، على التشكيك فى الضمانات التى تقدمها أمريكا لحلفائها، من خلال تحذير هؤلاء الحلفاء فى مجالها الحيوى، بأنهم قد يقعون فى مرمى نيران حرب صينية أمريكية فى حال لم يبتعدوا عن واشنطن. وذلك عبر اعتماد مجموعة من الاستراتيجيات، لتضييق مساحات الحركة أمام القوات والنفوذ الأمريكى. مؤخرًا بدأت خطة متقدمة لبناء الجزر فى بحر الصين الجنوبى، مع استخدام الضغوط الدبلوماسية الممزوجة بالمساعدات الاقتصادية، لتتمكن من تقسيم كيان مهم مثل «رابطة آسيان»، التى راهنت الولايات المتحدة على الدول المنضوية فيها، بأن تكون حائط صد لمواجهة أطماع الصين المتنامية. فإذا بالأخيرة تجابهها بمجموعة من الروابط العملاقة، مثل «مبادرة الحزام والطريق»، و«البنك الآسيوى للاستثمار فى البنى التحتية»، و«الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، الهادفة مجتمعة لجعل دول المنطقة تدور فى فلك الصين.
بل هناك سياسة باتت حاكمة لمثل تلك العلاقات الجديدة المتنامية، وهى استخدام القوة الاقتصادية كمكافأة للدول التى تنصاع لسياسات الصين، وتعاقب سريعًا من يرفض الانصياع، كما مارسته فى التضييق على اليابان فى بحر الصين الشرقى. وحتى تظل بكين عبر مزجها بين الترهيب والتحفيز، مركزًا لإقامة نظام إقليمى هى محوره بلا منازع، فى إعادة تنظيم لبيئتها الخارجية كى تلائم مصالحها، مستخدمة الثروة والقوة مغلفة بالسياسة التى صارت تدار بمهارة لافتة.
هذا التغير فى موازين القوى، قد يصل بالولايات المتحدة إلى وضع حرج، إذا ما أجرت عملية قياس للحرب الباردة التى تجرى غرب المحيط الهادئ، فهى ببساطة يمكن أن تخسر المنطقة دون إطلاق رصاصة واحدة، بسبب إعادة الدول الآسيوية حساباتها وسعيها لكسب ود الصين.
وفى هذا كان الرئيس الفلبينى «رودريجو دوتيرتى» المثير دومًا للجدل، أكثر جرأة عندما صرح فى عام ٢٠١٦ بأن «الولايات المتحدة خسرت فى آسيا»، موضحًا أنه يجب على مانيلا الآن أن تعيد تموضعها وفقًا لهذا. لم يكن الأول حينها الذى تحدث بتلك اللغة، فقد سبقته أمريكا بالمثل، عندما أصدرت مؤسسة «راند» تقييمًا مفاده أنه على مدار السنوات الخمس أو الخمس عشرة المقبلة، ستشهد آسيا تدريجيًا تراجعًا فى الهيمنة الأمريكية، حيث تقدر بأن المنطقة ستصطدم قريبًا بسلسلة من «الأحداث المفصلية»، التى تقوض من مصداقية التزامات الولايات المتحدة تجاه شركائها مثل تايوان أو حتى الفلبين.
المنافسة الجديدة بين القوى العظمى فى تلك الساحة، التى تزدحم بالتقاطعات، وليس بعيدًا عنها بالمرة، دول مثل روسيا واليابان والكوريتين، وعلى تخومها الهند وباكستان وإيران، ستقود بلا شك إلى توترات دولية، أكبر وأعمق من تلك التى شهدها العالم لعقود مضت. والعرض الأول سيتمثل فى إحياء سباقات التسلح، كى تواجه معضلات أمنية أكثر خطورة، كما تنطوى هذه المنافسة على صراعات أكثر حدة حول القواعد الدولية المتعلقة بقضايا حرية الملاحة، وعدم شرعية تغيير الحدود بالقوة، باعتبار المنافسات حول الدول التى تقع فى منطقة تقاطع مصالح القوى الكبرى «الوقود» والأقرب للاشتعال فى خضم المنافسة بين القوى العظمى.
فهناك أكثر من طرف يعمل بدأب للانقلاب على التوازنات الإقليمية القديمة، التى شكلت أساسًا للنظام الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة منذ عقود، فضلًا عن احتمال تشكل مناطق نفوذ جديدة يجرى فيها استبعاد أمريكا، بوسائل خشنة لم تختبرها واشنطن منذ زمن طويل.
كل من الصين وروسيا، أصبحتا تنظران للمعادلات الجيوسياسية باعتبارها فى وضع ملائم للتقدم، وهما تجتمعان على عقيدة تتجاوز البعد الإقليمى إلى الفضاء الدولى الواسع، ولا يظن أحد بأنهما سيرضيان بأقل من ذلك. ودوائر المنافسة بما فيها من دول قد تواجه محرقة هذا السباق، هى أيضًا لديها ميزة القدرة على لعب دور أوراق الضغط والكشف، واصطفافها فى أى من الجوانب المتصارعة هو الذى سيحدد، الحصاد القادم الذى بدأ يتشكل على هوامش الأقاليم المجاورة لهذا الشرق. ومنطقتنا الشرق أوسطية مثلت وستشهد هى الأخرى فصولًا من هذا الحصاد، حيث تمثل أحداثها مكونًا لا يُستهان به فيما يجرى هناك، حيث ستبزغ شموس وتأفل نجوم ربما بما لم يحسب حسابه أحد.
*نقلا عن صحيفة “الدستور”، نشر بتاريخ ١٤ مارس ٢٠١٩.