قضية العنصرية والفكر العنصري قضية شائكة٬ لأسباب أهمها أن الخطاب والمقولات العنصرية تطورت مع الزمن، ولأن علاقتها بالعلوم الطبيعية والإنسانية تغيرت أيضًا على مر العصور، فعرفت المجتمعات خطابًا عنصريًّا لا علاقة له بالعلم٬ وخطابًا عنصريًّا يزعم أنه علمي٬ وهناك خطاب عنصري يزعم أنه يستند إلى العلوم الطبيعية، وآخر يدعي أن مقولاته مستمدة من العلوم الإنسانية. وأحيانًا يجمع العلماء على رفض تأويلات العنصريين للنظريات العلمية وتوظيفهم لها٬ وأحيانًا أخرى -لا سيما في عصر تطور علم الجينات- اختلفوا اختلافًا كبيرًا حول الموقف من العنصرية. ونلاحظ أيضًا أن ثمة مقولات -علمية وغير علمية- استُخدمت لدحض الفكر العنصري في عصر ما٬ ثم أصبحت سندًا له في عصر آخر. على سبيل المثال لا الحصر، فإن مقولات التطور كما صاغها علماء الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر هي أصلًا رد فعل على مقولات عنصرية تُشرعن العبودية، وتزعم أن الإنسان ليس نوعًا واحدًا، بل أنواعًا لا أصل مشتركًا لها؛ فحاولت مدرسة التطور إثبات أن الإنسان نوع واحد له أصل واحد٬ وأن الفارق في اللون وفي الشعر لا ينفي أن النفس واحدة والروح واحدة والعقل واحد. وقالت إن كل المجتمعات البشرية تسلك نفس الطريق بسرعات متفاوتة: تنتقل من التفكير “الصبياني” إلى التفكير العلمي٬ ومن التبسيط إلى التعقيد.. إلخ٬ وأنها ستصل حتمًا يومًا إلى مستوى الحضارة الأوروبية، سواء “بفضل الاستعمار” أم لا. وفي عقود تالية استخدمت نفس المقولات في خدمة الفكر والخطاب العنصريين بالتركيز الأحادي على ما تفترضه من تفوق للحضارة الغربية ومركزيتها.
هذا الواقع يطرح تساؤلًا: هل مقولات التطور عنصرية أم لا؟ ويشير إلى العلاقة المعقدة بين الفكر العنصري والفكر المناهض له، لأنهما يوظِّفان في أحوال ليست بالقليلة نفس المقولات. ولهذا الوضع نتيجة مؤسفة هي سهولة الاتهام بالعنصرية. يُقال لك إنك عنصري لو قلت شيئًا يمكن لعنصري أن يوظفه٬ فقيل مثلًا عن مفكر يوناني/ فرنسي يساري إنه عنصري، لأنه قال أثناء مناقشته لمسألة النسبية إن الفلسفة اليونانية بكل المقاييس أهم من فكر قبائل الزولو.
ويشير الفيلسوف الفرنسي “تاجييف”، الذي خصص كتبًا بالغة الأهمية لتلك القضية، إلى أن الرافض للفكر العنصري لا يرى أن هذا الفكر أنواع٬ ويفترض أن الفكر النازي هو النموذج الوحيد أو على الأقل الغالب للفكر العنصري٬ وهذا ليس صحيحًا٬ فالفكر النازي يدعي العلمية، ويرى أن هناك أجناسًا يتم تعريفها على أسس بيولوجية، وأن تلك الأجناس مختلفة تمام الاختلاف وغير متساوية وفي حالة حرب دائمة وأبدية على سيادة العالم. ولا شك أن هذا الفكر ما زال موجودًا بدرجات متفاوتة في بعض المجتمعات، لا سيما الولايات المتحدة وألمانيا٬ وأنه يشكل رافدًا مهمًّا من روافد العنصرية. لكنّ هناك رافدًا آخر على الأقل يفسر لنا صعود اليمين المتطرف وأقصى اليمين في أوروبا والولايات المتحدة. وهذا لا يعني أن الرافد الأول لا يستفيد من نجاح (وإخفاق) الثاني.
ويقول “تاجييف” وآخرون -مثل “كوام أنطوني آبيا”- إن رافدًا جديدًا ظهر في السبعينيات من القرن الماضي٬ وإذا قارنّاه بالرافد الأول نراه استبدل كلمة “جنس” وإيحاءاتها البيولوجية بكلمة “ثقافة” المقبولة٬ وكلمة “غير متساوية” بكلمة “مختلفة” تمام الاختلاف٬ وادعى هذا الفكر أنه لا يكره الغير، بل يحبه ويحترمه٬ وأنه يخشى على كل ثقافة من الذوبان والتشوه والاختفاء إن تفاعلت وتداخلت مع غيرها. وفي الوقت نفسه يرفض هذا الفكر مقولة مساواة الأفراد٬ فنظرته إلى الأفراد نخبوية، أي إنه يحتفظ بفكرة اللا مساواة، ولكنه يتفادى تطبيقها صراحة على الثقافات.
ومن الواضح أن دحض هذا الخطاب الجديد نسبيًّا يواجه صعوبات جمة٬ ذلك أن الليبرالية في طورها الأخير، حيث يعتنق الكثير من أبنائها مذهب التعددية الثقافية، ترى أن فرض ثقافة واحدة على كل المواطنين والمقيمين دون مراعاة للأصول الإثنية والدينية والثقافية يخل إخلالًا جسيمًا بحقوق الإنسان٬ لا سيما “الحق في الاختلاف”٬ أي إن الليبرالية المتبنية لمذهب التعددية الثقافية تشترك مع الخطاب العنصري في إعلائها من شأن اختلاف الثقافات وصعوبة تجسير الفجوة بينها. الفارق أن العنصري يرى أن هذا التجسير غير ممكن على الإطلاق والليبرالي يعتبر أنه غير ممكن دون قمع مقيت.
ولا يمكن الاكتفاء بتبسيط مخل وبمقولة ترى أن هذا الفارق هو الفارق بين كلمة حق وكلمة حق يراد بها باطل٬ فالمشكلة أكثر تعقيدًا٬ إذ يرى فلاسفة اللغة “تاجييف” وعلماء الأنثروبولوجيا “لويه دومون” أنه من المستحيل الحديث عن اختلاف كبير وجوهري بين طرفين أو أكثر دون افتراض ضمني لتراتبية ولأفضلية -ليس من الضروري أن تكون موضوعية- لأحد الخيارات٬ وأنه لا يمكن الجمع بشكل واضح ومنطقي بين كلمتي “اختلاف” و”مساواة”. أي لا يمكن إدارة الاختلاف إلا بقبول الصراع بين المختلفين إن تساووا، أو بإقرار تراتبية واضحة بينهم، أو بالفصل بينهم. والمشكلة إذن أن الليبرالية لا تكتفي فقط بإنكار ساذج لصعوبة أو استحالة الجمع بين المساواة المطلقة والحق المطلق في الاختلاف٬ ولكنها تضيف إلى هذا جمعها مقولتين نبيلتين يصعب التوفيق بينهما٬ فهي من ناحية تقدس الثقافات وتعددها وتشدد على ضرورة الاحتفاظ بها٬ ومن ناحية أخرى تحث بشدة على التمازج باعتباره مقدمة لتوحيد بشرية متآخية وإثراء للكل. وخلاصة القول هي أن الخطاب الليبرالي هو خطاب حسن النية، ولكنه يفتقر إلى الاتساق المنطقي وإلى الواقعية.
والخطاب العنصري يجيد استخدام هذا الضعف٬ هو طبعًا يؤمن بتفوق ثقافة على أخرى أو جنس على آخر، لكن منظريه يجيدون إخفاء هذا، ويوظفون مقولات التعددية الثقافية ضدها، ويتهمونها بالتعصب إن شككت في صدق تقديسهم للثقافات ولتنوعها. والأهم أن الخطاب العنصري يرفض رفضًا مطلقًا -يصل إلى درجة الفوبيا- التمازج بين الثقافات (يتم هذا صريحًا) وبين أبناء وبنات هذه الثقافات (هذا بشكل ضمني)، ويرى أن هذا التمازج بالغ الخطورة على ثقافته (الغربية). والبعض يقول إن التمازج يضر بكل الثقافات المتفاعلة، ويقضي عليها مما يؤدي إلى إفقار البشرية كلها والقضاء على كل الثقافات للتمهيد لثقافة معولمة لا تنوع ولا عمق فيها. ومن الواضح أن هذا الخطاب ينزلق بمنتهى السهولة إلى خطابات الكراهية القميئة، وأنه أقل واقعية من خصمه؛ فلم يعد ممكنًا منع التمازج والفصل التام بين أبناء الثقافات، ناهيك عن منافاة هذا لأبسط قواعد الأخلاق.
وحتى في إطار عرض مبسط كعرضنا هذا علينا الإشارة إلى مشكلات وتعقيدات عدة٬ فمن ناحية تُضعف بعض فصائل اليسار موقف الخطاب المناهض للعنصرية بتساهلها وتخاذلها مع الخطاب العنصري “للملونين” أي لأبناء المستعمرات القديمة باعتباره ثمرة العقد الناتجة عن عنصرية الطرف الآخر وعن الماضي الاستعماري.. إلخ. ومن ناحية ثانية، يثير الطرح الجديد للخطاب العنصري (القائم على اختلاف الثقافات ورفض التمازج) صعوبات أخرى لم نذكرها بعد من قبيل: هل الخوف على الهوية وعلى مستقبل ثقافتك موقف عنصري؟ إن تسرع بعض الليبراليين واليساريين في الرد بالإيجاب على السؤال خطأ جسيم، ويأتي بنتائج عكسية، أهمها صعود أقصى اليمين واليمين المتطرف باعتبارهما أفضل من يعبر عن الخوف٬ والرد بالنفي أو بمقولة “هذا الخوف ليس بالضرورة عنصريًّا” يثير بدوره قضية أخرى، هي: متى ينزلق الخطاب المتوجس لمستقبل الثقافة إلى العنصرية؟ هل هناك معايير عالمية أم الوضع يتغير من بلد إلى آخر؟ فمن الواضح القتل على الهوية والمناداة بالفصل العنصري والطائفي والفوبيا من الآخر، وتعميم الأحكام السلبية على أبناء جنس أو ثقافة أو طائفة عنصرية، لكن أين الخيط الذي يفصل بين الخوف والفوبيا؟ بين النقد المشروع والشيطنة المرفوضة؟ بين التحدث عن شخصية وطنية وتعميم مهين؟ وأخيرًا وليس آخرًا: هل محاولات فرض ثقافة وطنية على الجميع هي “قمع قميء” في كل الأحوال؟ وهل دوافعه دائمًا عنصرية؟
وفيما يتعلق بالقاتل الأسترالي٬ من المعلوم أنه ترك وثيقة يعرض فيها “أفكاره٬” ومن الواضح أنه قرأ لكتاب كثيرين ينتمون إلى اليمين المتطرف، وأنه انتقى أفكارًا من مصادر عديدة وقولبها لتناسب هواجسه. ويُعد الفرنسي “رينو كامو” أشهر مصادره وإن كانت رؤيته لا تطابق رؤيته. الكلمات المفتاح لأعمال “كامو” هي “الغزو الإسلامي” والاستبدال والمقاومة. “كامو” (استنادًا إلى أحاديثه والتحليلات المتاحة على الإنترنت٬ حيث لم أقرأ كتبه) يرى أن جوهر الحداثة (وهو يكرهها) يقوم على عمليات استبدال ممنهجة٬ تشمل كل مجالات الحياة٬ الصناعي يحل محل الطبيعي، المعلبات تحل محل الأكل الطبيعي، الحدائق تحل محل الغابات.. إلخ٬ وهي أيضًا عملية يحل فيها الكم الرخيص محل الكيف النفيس٬ ويبدو أنه يرى أن قوة ما (النظام؟ منطق التاريخ؟ الرأسمالية المعولمة؟) ضاقت ذرعًا بالرجل الأبيض العاجز عن الإنجاب والمتمسك بامتيازاته والمكلف جدًّا٬ ولذلك قررت أن تستبدله بأجناس ليس لها نفس الطلبات والشروط٬ هذا هو “الاستبدال الكبير” كما يرى “كامو”. ويرى أيضًا في أغلب -وربما في كل- الحركات الاحتجاجية في الغرب تعبيرًا نبيلًا عن رفض مشروع لتلك العملية. لكن من الملفت للنظر أنه أصر دائمًا على رفض العنف، وأدان القتل، وأنه حرص على تأكيد أنه لا يستهدف الإسلام تحديدًا بل كل ما هو دخيل على البيئة السكانية الأصلية. ويقول “كامو” إن الإسلام يفاقم من المشكلة ليس لأنه ضعيف بل لأنه دين وثقافة وحضارة قوية وجاذبة، إلا أن أوروبا ليست بيئته ولا بيئة الأفارقة غير المسلمين.
وفي مواضع أخرى، يتحدث “كامو” عن “تحالف شرير” بين الرأسمالية المستبدلة والإسلام٬ بهدف القضاء على مجتمعات أوروبا البيضاء، وهو يزعم أنه لا يدافع عن المسيحية بل عن حضارة أوروبية لها مكونات أصيلة هي المسيحية واليهودية وحرية التفكير والتعبير (لم يلتفت “كامو” فيما يبدو إلى كون المسيحية واليهودية لم يولدا في أوروبا). ويقول إن الأجناس موجودة وحقيقة واقعة، وأنها دافع قوي إلى رفض عملية الاستبدال. كما يميز بين النازية وبين القومية البيضاء لأن الثانية دفاع مشروع ضد الاستبدال. ومن الواضح بصفة عامة أن خطاب “كامو” ينزلق تدريجيًّا من مقولات خاطئة يمكن مناقشتها إلى أخرى غير مقبولة. فعلى سبيل المثال، يرى أن عملية الإحلال تؤدي إلى احتلال لأوروبا، احتلال له قواسم مشتركة مع النازية ومع الشمولية السوفيتية٬ ويختلف الاحتلال الجديد في أنه لا يمارس التعذيب المنهجي٬ إلا أنه أكثر خطرًا لأن المحتلين عددهم كبير جدًّا، ويرى نفسه منخرطًا في المقاومة ضدهم. وأيًّا كان الأمر، فمن الواضح أنه ينتمي إلى مدرسة تحاول الجمع بين الجنس والثقافة لتأسيس عنصرية جديدة يرى أنها لا تسعى إلى الاستناد إلى مقولات علمية ولا بيولوجية ولا تكون عدوانية كالنازية أو العنصرية التقليدية.
لكن القاتل الأسترالي لا يشارك “رينو كامو” كل تحليلاته٬ فالأسترالي حسن الظن بالفاشية والنازية٬ وركز على وجود مواجهة أزلية بين المسيحية والإسلام (علمًا بأن النازية تعادي المسيحية عداء شديدًا)٬ واستند كثيرًا إلى مفهوم الفاشية البيئية٬ وهو مفهوم يرى أن كل ثقافة بنت بيئة ولا تصلح لغيرها٬ أي إنه يرى أن على أبناء ثقافة ما عدم الانتقال إلى أرض أخرى وإلا اعتبروا غزاة. ومن الطريف أنه نسي أن أجداده فعلوا ما يرفضه هو “الغزو والاستبدال”.
لم يتناول هذا المقال كل جوانب القضية٬ فلم نتكلم مثلًا عن العنصرية التي تكره اليهود أولًا وأخيرًا، ولا عن تلك التي لا تكره إلا العرب، وتلك التي تمقت الجميع. ما يهمنا هو بيان عمق الأزمة الناتجة عن تطور المجتمعات الأوروبية وبنيتها السكانية وأزمة الخطابات الليبرالية ونمو إرهاب له مدارس فكرية مختلفة ويعتمد كثيرًا على ذئاب منفردة.