في الرابع والعشرين من فبراير 2019 أُجريت الانتخابات الرئاسية في السنغال، التي شهدت مشاركة كبيرة من الناخبين تجاوزت نسبة 66% من إجمالي من لهم حق التصويت (4.4 ملايين ناخب من أصل 6.6 ملايين هم إجمالي الناخبين المسجلين). وقد خاض المنافسة خمسة مرشحين، كان في مقدمتهم الرئيس “ماكي سال” الذي ترشح لولاية ثانية بعد وصوله للمنصب في انتخابات 2012. وبالرغم من ارتفاع حدة المنافسة بين الحملات الانتخابية للمرشحين طوال فترة الدعاية الانتخابية، فقد جرت عملية التصويت في هدوء وشفافية، انتهت بفوز الرئيس “ماكي سال” في الجولة الأولى بعد حصوله على 58% من الأصوات الصحيحة، ليعلن المجلس الدستوري فوزه رسميًّا في الخامس من مارس.
ظواهر جديدة
في الرابع عشر من يناير 2019 أعلن المجلس الدستوري السنغالي القائمة النهائية للمرشحين الذين يحق لهم قانونًا المشاركة في المنافسة الانتخابية. وقد دشّن هذا الإعلان واحدة من أهم الظواهر السياسية الجديدة في السنغال، التي تمثلت بالأساس في مظهرين. فمن ناحية، أقر المجلس الدستوري ترشح خمسة مرشحين فقط، مقارنة بأربعة عشر مرشحًا في انتخابات 2012، وخمسة عشر مرشحًا في انتخابات 2007. وقد كان لهذا الانخفاض في عدد المرشحين أثرٌ مباشرٌ في حسم الانتخابات من الجولة الأولى. المظهر الثاني، تمثّل في غياب الحزبين التقليديين في السنغال عن المنافسة الانتخابية، حيث قام الحزب الاشتراكي الذي انتمى له الرئيسان “ليوبولد سنجور” و”عبده ضيوف” بدعم “ماكي سال”، بينما سعى الحزب الديمقراطي الذي انتمى له الرئيس السنغالي الأسبق “عبدالله واد” لترشيح نجله “كريم واد” في الانتخابات، إلا أن المجلس الدستوري رفض ترشحه.
أما باقي المرشحين الذين خاضوا المنافسة الانتخابية فجاء في مقدمتهم “إدريسا سك”، الذي شغل منصب رئيس الوزراء خلال فترة حكم الرئيس “عبدالله واد” بين عامي 2002 و2004، و”ماديكي نيانج” آخر وزير خارجية في عهد “عبدالله واد”، و”عثمان سونكو” و”عيسى سال” البرلمانيان المعارضان لـ”ماكي سال”.
وقد استمرت الحملات الانتخابية لمدة 21 يومًا لتنتهي في الثاني والعشرين من فبراير قبل موعد التصويت بيومين. وعلى العكس من انتخابات سنة 2012، التي اتسمت خلالها الحملات الانتخابية بدرجة كبيرة من التسييس والتركيز على قضية التحول الديمقراطي، فقد احتلت القضايا ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي في انتخابات 2019 موقع الصدارة في اهتمام الناخبين والمرشحين بالتبعية.
وقدم الرئيس “ماكي سال” برنامجه الانتخابي تحت اسم “السنغال الناهض”، والذي ركز على سلسلة من برامج مكافحة الفقر على المدى المتوسط والبعيد، بجانب ما أولاه البرنامج من اهتمام خاص بالتنمية الريفية واستهداف زيادة إنتاج عدد من المحاصيل الرئيسية كالأرز والبصل، فضلًا عن الإعلان عن عدد من مشروعات تطوير البنية التحتية والاستخراجية بغرض تحديث الاقتصاد ودفع النمو الاقتصادي، مع التعهد بفتح الحوار مع النقابات بشأن الرعاية الصحية والمنح الاجتماعية.
ولم يختلف الأمر كثيرًا على جانب المعارضة، فقد أطلق “عثمان سونكو” حملته الانتخابية تحت اسم “حان الوقت”، والتي تضمنت عددًا من الأهداف، مثل: تعديل السياسات النقدية لمحاربة التضخم عبر التخلص من عملة الفرانك CFA، والقضاء على الفساد والتهرب الضريبي، ودعم القطاع الزراعي والتنمية المستدامة.
ووفقًا للنتائج المعلنة من جانب اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فقد حصل الرئيس “ماكي سال” على نسبة 58% من الأصوات الصحيحة، ما أهله للفوز من الجولة الأولى، بعدد أصوات تجاوز 2.5 مليون صوت (وهو رقم يتجاوز ما حصل عليه في جولة الإعادة في انتخابات 2012). وجاء في الترتيب الثاني المرشح “إدريسا سك” بنسبة 20.5% من الأصوات، ثم “عثمان سونكو” الذي حصل على 15.5% من الأصوات، ثم “عيسى سال”، بنسبة 5%، وأخيرًا “ماديكي نيانج” الذي حصل على 1% من الأصوات.
ويشير التوزيع الجغرافي للأصوات التي حصل عليها كل مرشح إلى عدد من الظواهر الملفتة. فقد ارتفعت نسبة التصويت لـ”ماكي سال” في مسقط رأسه في منطقة “فاتيك”، حيث غابت المنافسة تقريبًا بينه وبين المرشحين الآخرين. أما “إدريسا سك” فقد نال تأييد نسبة كبيرة من الأصوات في منطقة “ثييس” معقل الطريقة التيجانية التي ينتمي إليها. وفي المقابل حصل “عثمان سونكو” على نسبة كبيرة من أصوات منطقة “كازامانس” في جنوب البلاد التي تعد من المعاقل الرئيسية للمعارضة والتي تنشط فيها حركة انفصالية تمارس العمل المسلح ضد القوات الحكومية من حين لآخر.
لماذا فاز “ماكي سال”؟
لتفسير فوز “ماكي سال” بولاية رئاسية ثانية من الجولة الانتخابية الأولى، تبرز ثلاثة مستويات من العوامل. يتعلق أولها بـ”ماكي سال” نفسه وما تمكن من مراكمته من رصيد إيجابي لدى الناخبين السنغاليين من خلال أدائه خلال فترة ولايته الأولى. ويتعلق المستوى الثاني بالمنافسين من مرشحي المعارضة الذين غلب عليهم الانقسام والانشغال بالصراعات البينية. بينما يتصل المستوى الثالث بالأطراف الخارجية وفي مقدمتها فرنسا التي ترى في “ماكي سال” شريكًا مثاليًّا.
1- أداء “ماكي سال” خلال فترة ولايته الأولى
شهدت الفترة الأولى من حكم الرئيس “ماكي سال” ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من 4.4% في عام 2012 إلى 6.8% في عام 2017، وهو المعدل الذي جعل من الاقتصاد السنغالي واحدًا من أسرع الاقتصادات القارية نموًّا. ومع تبنيه سياسات اجتماعية فعالة انعكس هذا النمو في مؤشرات الاقتصاد الكلي بصورة مباشرة على الأوضاع الخدمية والمعيشية في السنغال. ويُعد توزيع عوائد النمو الاقتصادي على نطاق واسع أحد العوامل المفسرة للارتفاع في نسبة المشاركة في انتخابات 2019 وفي فوز “ماكي سال” من الجولة الأولى.
2- انقسام أحزاب المعارضة
لم تخرج المعارضة السنغالية في انتخابات عام 2019 عن قواعد أدائها المعتاد، والتي تقوم بالأساس على الانشقاق والتشرذم كلما اقترب موعد الانتخابات. وعلى الرغم من تعدد مبادرات توحيد المعارضة خلف مرشح وحيد أمام “ماكي سال”، إلا أن جميع هذه المبادرات باءت بالفشل، خاصةً مع تصاعد حدة المنافسة بين مرشحي المعارضة الرئيسيين “إدريسا سك” و”عثمان سونكو”. ولم تظهر المعارضة موحدة إلا في المؤتمر الصحفي الذي عقده المرشحان بعد انتهاء التصويت للإعلان عن حتمية خوض أحدهما جولة الإعادة أمام “ماكي سال” بعد ظهور مؤشرات على فوز الأخير من الجولة الأولى.
3- الدعم الفرنسي لـ”ماكي سال”
تُعد العلاقة مع فرنسا من أهم ملفات السياسة الخارجية السنغالية، فبجانب الإرث الاستعماري، تستضيف السنغال عددًا من عناصر القوات المسلحة الفرنسية، كما تتعدد مجالات العمل المشترك بين الجانبين، من المجالات الاقتصادية إلى الثقافية. ومنذ الاستقلال حرص رؤساء السنغال على بناء علاقات جيدة مع فرنسا بما في ذلك الرئيس “ماكي سال” الذي استقبل الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا هولاند” عامي 2012 و2014، فضلًا عن استقباله الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في فبراير 2018. وفي ظل هذا التقارب بين “ماكي سال” وفرنسا، جاء ملف السياسة الخارجية كأحد مصادر تأييد المزيد من المرشحين له في السباق الانتخابي.
ختامًا، يمكن القول إن الانتخابات الرئاسية في السنغال لعام 2019 تمثل استمرارًا للأوضاع السياسية المستقرة في واحدة من أهم دول غرب إفريقيا، كما عكست قدرة الناخب الإفريقي على “مكافأة” الرؤساء من ذوي الأداء الجيد ليفوز “ماكي سال” من الجولة الأولى في حدث لم يكن متوقعًا قبل الانتخابات.