شنت إسرائيل هجمات متواصلة على قطاع غزة بعد 12 ساعة فقط من إطلاق الفصائل الفلسطينية عدة صواريخ من جنوب قطاع غزة، أمس الاثنين (25 مارس 2019)، استهدفت منطقة موشاف مشميريت (20 كم شمال شرق تل أبيب). وشملت هذه الهجمات حتى السابعة من صباح الثلاثاء (26 مارس) نحو 50 غارة، استهدفت مباني سكنية ومقرات تابعة لحماس، منها مقار استخبارية ومواقع للفصائل شمال ووسط وجنوب القطاع، وأخرى في أراضي زراعية يُعتقد أنها مواقع راجمات صواريخ ومخازن سلاح وطائرات بدون طيار تحت الأرض. وتُظهر هذه الحصيلة غير النهائية أنها تمثل تقريبًا نصف مقدار بنك الأهداف التي سبق أن قصفتها إسرائيل في الجولة السابقة مع حماس في 14 مارس، أي قبل أسبوعين.
ومن المتصور -وفقًا لنمط وطبيعة الاشتباك الحالي- أن رد الفعل الإسرائيلي اتبع إجراءات الردع التقليدية على النحو السابق في 18 أكتوبر 2018، ثم في 14 مارس 2019، حيث شنت هجمات مكثفة وفقًا لبنك أهداف محدد خاص بالبنية العسكرية المختلفة للفصائل، لا سيما حماس، ونشر القوات على الحدود المشتركة، واتخاذ تدابير التأمين في مناطق غلاف غزة، وبالتالي اعتمدت سيناريو المواجهة الخاطفة واحتواء التصعيد لتجنب سيناريو خوض معركة، وهو ما تُرجعه بعض التحليلات الإسرائيلية إلى عامل التوقيت الذي يضع رئيس الوزراء الإسرائيلي في مأزق الخيارات الأخرى بسبب الانتخابات المقبلة. لكن يبقى هناك احتمال آخر في المقابل يتعلق برفع وتيرة التصعيد يرتبط بعودة “نتنياهو” المقررة اليوم من واشنطن، خاصة مع صعوبة تثبيت التهدئة التي تم إقراراها بجهود مصرية وتم اختراقها من الجانب الإسرائيلي.
وبحسب التقارير الإسرائيلية الأولية لتحليل الصواريخ، فإنها تمثل نسخة مطورة من الصواريخ التي تمتلكها حصرًا كل من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتحديدا فجر/ إم– 75 المطور بما يسمح بزيادة مسافته لتصل إلى 120-140 كم، بما يعزز فكرة استمرار حماس والفصائل في العمل على تطوير قدراتهم العسكرية. وفي المقابل، هناك سيل من الانتقادات الإسرائيلية ظهرت في ردود الأفعال العديدة التي تبلورت في سياق فكرة أساسية، وهي تآكل مبدأ الردع الذي اعتمدته إسرائيل، وعدم فاعلية سياسة الاحتواء التي تنتهجها حكومة “نتنياهو” تجاه القطاع كتكيتك ضمني مقابل تكيتك حماس بعدم تجاوز الخطوط الحمراء في سياق مناوراتها السياسية الهادفة لممارسة ضغوط على إسرائيل لتخفيف أثر سياسة الحصار.
هذه المقابلة بين تنامي قدرات حماس، مقابل تراجع قدرات الردع الإسرائيلية، اعتبرتها تحليلات إسرائيلية إخلالًا يُشكّل نقطة ضعف لدى إسرائيل، وهو ما يُعد بمثابة تحدٍّ تواجهه إسرائيل في الوقت الحالي. من ذلك -على سبيل المثال- رؤية “أودي ديكل”، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، الذي رأى أن حماس رفعت عتبة الخطر في مواجهة إسرائيل بالقصف في العمق بما يُعد انحرافًا عن قواعد اللعبة التي صاغها الجانبان (حماس وإسرائيل) ضمنيًّا، وأنه لم يعد مقبولًا التبريرات الخاصة باستمرار الهجمات كتحديات صيانة الصواريخ، أو التباينات داخل حماس بين المستويين السياسي والعسكري التي كانت تُفسر لصالح دعم نظرية الاحتواء والإبقاء على آلية الردع.
لكنّ هناك تحديًا آخر أوسع نطاقًا أثاره “شموئيل إيف” و”ساسون حداد” في تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS، ويتعلق بالسؤال المتكرر منذ فترة في إسرائيل على أكثر من منصة أكاديمية وإعلامية، مفاده: هل الجيش قادر على الحرب؟ إلا أن تفاصيل إثارة السؤال هذه المرة بعد عملية الأمس شملت نقطة إضافية تتعلق بالقدرات الفنية الخاصة بأداء منظومة “القبة الحديدية” التي فشلت للمرة الثانية في غضون شهر في اعتراض الصواريخ التي يتم إطلاقها من القطاع.
وفي إطار التحديين السابقين، يمكن تصور أن هناك متغيرًا محتملًا لإنهاء حالة “الردع التكتيكي”، بما يعني وضع حد لسياسة الاحتواء القائمة، لكن ذلك يظل رهن الخيارات المتاحة، ورهن قدرة إسرائيل على التعاطي مع التحديات المثارة.
ففيما يتعلق بتحدي تآكل الردع، وانتهاء صلاحية سياسة الاحتواء، طُرح خياران: الأول، هو منح اعتراف رسمي لحماس كسلطة أمر واقع في غزة على حساب الاتصال بالضفة الغربية. لكنه خيار يحتاج إلى ضوابط، منها أنه سيتعين على إسرائيل السماح بزيادة المساعدات الخارجية لحماس، وإنشاء مشاريع اقتصادية، ورفع الحصار البحري، وفتح القطاع على العالم الخارجي، وهو خيار من ثمّ يواجَه بتحدي مدى قبول الأطراف الخارجية لذلك. الخيار الثاني، يتمثل في تفكيك حماس من خلال تصفيتها سياسيًّا، وتدمير منظومتها العسكرية من خلال مواجهة كبيرة وعنيفة. لكن هذا الخيار يواجه معضلة “اليوم التالي” فيما يتعلق بالآثار السياسية والأمنية، فضلًا عن الكلفة البشرية التي ستسفر عنها تلك المواجهة. وتجدر الإشارة إلى أن “أودي ديكل” يحبذ هذا الخيار من خلال استعدادات وخطة عمل.
أما بالنسبة للتحدي الخاص بتراجع القدرات العسكرية الإسرائيلية الذي أثاره الجنرال احتياط “إسحاق بريك”، أمين ديوان الشكاوى في الجيش، والذي يرى أن قدرات المواجهة تعرضت هي الأخرى للتآكل بسبب تراجع قدرات الجيش، لا سيما القوات البرية، وهو ما استدعى تشكيل لجنة برئاسة المراقب المالي في الجيش “إيلان هراري” مطلع العام الجاري والتي توصلت إلى الإجابة على السؤال الرئيسي الخاص بخوض الحرب، لكنها في الوقت نفسه أظهرت 8 مشكلات على الأقل تتعلق بجاهزية القوات البرية للحرب.
على الجانب الآخر والخاص بأداء “القبة الحديدية”، فقد أُعلن عن تشكيل لجنة تحقيق في هذا الأمر بحسب “تايمز أوف إسرائيل”، لكن حتى يصدر تقرير اللجنة كانت هناك عدة تكهنات من الخبراء في إسرائيل والتي وضعت احتمالين: الأول، أن تكون هناك ثغرات في عمليات نشر المنظومة، بحيث إن هناك مناطق لا تشملها تغطية المنظومة وهو ما يستند إلى قيام الجيش الإسرائيلي بنشر المزيد من تلك المنظومات، لكنه يثير على الجانب الآخر قضية استخبارية تتعلق بكيفية تعرف حماس على تلك الثغرات. الاحتمال الثاني هو حدوث خلل فني في عملية التشغيل، لا سيما وأنها كانت تعمل، حيث اعترضت بالفعل بعض الصواريخ (قدرت بحوالي 10-15 صاورخًا) بينما سمحت باختراق صواريخ أخرى.
وفي واقع الأمر، هناك اتصال بين السياقين، سواء الخاص بتقييم قدرات القوات البرية ومستوى أداء “القبة الحديدية”، وهو ما يظهر من خلال ما كشف عنه العميد “آفي مزراحي”، الذي ترأس اللجنة التوجيهية للجنة هراري، بأن النجاحات التي حققتها “القبة الحديدية” أثارت تصورًا خاطئًا بين صانعي القرار بأنه يمكن كسب الحروب دون مناورات برية. وأوصى “مزراحي” في هذا السياق بتخصيص ميزانية كبيرة لدعم القوات البرية (حوالي ملياري دولار سنويًا على مدى خمس سنوات)، بالإضافة إلى الميزانية الحالية المقررة في خطة جدعون.
وأخيرًا، هناك احتمال بأن تمر الجولة الحالية من الاشتباك كسابقتها مع استمرار التصعيد نسبيًّا وبشكل مؤقت لإظهار محاولة رفع فاعلية مستوى الردع ومع رفع زيادة الأهداف الممكن الوصول إليها. وفي المقابل ستعمل حماس هي الأخرى على الاستمرار في تحسين قدراتها مستغلة نقاط الضعف الإسرائيلية ومأزق الوقت حتى تنتهي الانتخابات. وبالتالي هذا السيناريو يظل مؤقتًا، لا سيما مع الإعلان عن أوامر أصدرها قائد الجيش “أفيف كوخافي” بالاستعداد لشن عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة ربما بحلول الصيف. وهو ما يعني أن هناك معركة مؤجلة لم تحن بعد، خاصة أنه سيكون قد تجاوز فترة تشكيل الحكومة المقبلة وإقرار خطة الدفاع 2030 التي تتضمن تعزيز أنظمة الدفاع، ورفع كفاءة القدرات والقوات. وهذا السياق سيفرض على حماس في المقابل تغيير تكتيكاتها الحالية.