ما الذي يدعوني للكتابة عن نظرية الأمن القومي في عصر الإنترنت؟ وما الذي يدعوني لكتابة تحليل مطول في هذا الشأن؟ وهل التحليل يكفي للإشارة إلى عناصر التغيير التي طرأت على هذه النظرية نتيجة ظهور الإنترنت في مطلع التسعينيات؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات، والإجابات تحتاج بدورها إلى تحليل وعصف ذهني. أتمنى أن يؤسس هذا التحليل لسلسلة من عمليات العصف الذهني داخل مراكز الفكر ومؤسسات الدولة حرصًا على مستقبل هذا الوطن.
بدايةً يمكنني تأكيد أن العالم يشهد حاليًّا درجات متزايدة من التعقيد وعدم اليقين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأن انتشار عدم اليقين يقوض بطبيعة الحال كفاءة مناهج البحث المستخدمة في صنع القرار السياسي، وأن التحول من المناهج الخطية المعتادة إلى المناهج اللا خطية يتطلب بدوره تحولات ثلاثة مهمة:
التحول الأول: هو تحول ثقافي ينصرف إلى ضرورة نشر فكرة التعاون والتشاركية، واشتراك المواطن الفرد في المعرفة، وتقديم قيم جديدة للتعبير عن الذات، على أن تسمح هذه القيم في مجملها ببناء نمط جديد من الشرعية يتناسب وعصر المعرفة، نمط يقوم على الإنجاز والاتجاه إلى مشروع المستقبل، بدلًا من الشرعية التاريخية والوراثية السائدة حاليًّا في عددٍ من الدول.
التحول الثاني: هو تحول هيكلي مؤسسي، ينصرف إلى ضرورة بناء سياسات متعددة الأبعاد والمستويات، لمواجهة حالة عدم اليقين والتعقيد التي طرأت على المجال السياسي، فإذا كانت البيئة السياسية تتسم بالتعقيد والتركيب التفاعلي المتزايد، فلا بد من تعديل المؤسسات السياسية وما تطرحه من سياسات وقوانين وتوجهات لتتناسب وطبيعة هذه البيئة التي تعمل فيها، ودرجة تعقيد النظام السياسي القائم.
التحول الثالث: هو تحول ينصرف إلى ضرورة الاستمرار في التأكيد على تنوع وحداثة ردود الفعل الحكومية لسد الاحتياجات المتزايدة للمواطنين. بل والأهم العمل على أن تسبق الحكومة المجتمع ولو بخطوة واحدة في هذا المجال حتى لا تعمل في ظل أزمة أو على الأقل في ظل وجود مشكلة، إذ لا يزال المجتمع في مصر والعالم العربي إجمالًا يسبق الدولة.
التأثيرات السياسية للإنترنت
الإنترنت ليس مجرد اختراع تكنولوجي ناتج عن الثورة العلمية التي يشهدها العالم في كل مجالات الحياة، بدءًا من مفهوم الأسرة إلى مجالات الفيزياء والهندسة والطب والسياسة والاقتصاد والفلسفة، وحتى علم الدراسات المستقبلية الذي أصبح بمثابة النظرية الذرية ونظرية الكوانتم، ليس للعلوم السياسية فقط وإنما لكافة العلوم التي يمكن أن تخطر على بالنا حتى إن لم تكن موجودة اليوم.
هنا ينبغي التمييز بين الإنترنت -بوصفه شبكة مفتوحة للمعلومات- وتطبيقاته، مثل مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكات المهن المختلفة الموجودة على شبكة المعلومات، ومواقع الإيميل المختلفة، ومحركات البحث العديدة الموجودة على الإنترنت، ومختلف مواقع الشركات ومراكز البحوث ومراكز الفكر القائمة، لأن لكل منها تطبيقاته السياسية وانعكاساته الاقتصادية، وآثاره الاقتصادية، وتبعاته الهندسية والطبية والفيزيائية، والتزاماته الفلسفية، وتطبيقاته الاجتماعية. ونشير فيما يلي إلى أهم التأثيرات السياسية للإنترنت.
1- نقلت شبكة الإنترنت الصراع في المجتمع من حالة الفعل ورد الفعل بين الدولة والمواطن إلى عالم موازٍ افتراضي، وبالتالي فإنها منحت المواطن أو المجتمع ميزة نسبية في مواجهة الحكومة، باعتبار أن العالم الافتراضي أكثر حرية وغير خاضع للرقابة، وهذا يفسر استخدام بعض الألفاظ البذيئة في مدونات وتعليقات البعض.
2- نجحت شبكة الإنترنت في أن تجعل التفاعل بين الدولة والمواطن (المجتمع) تفاعلًا لحظيًّا، أي إن رد الفعل الحكومي والمجتمعي على حدث يكون في نفس لحظة وقوع الحدث (الزمن الحقيقي) بعد أن كان رد فعل الحكومة أو الدولة يحدث أولًا، ثم يعقبه رد فعل المواطن الذي كان متأثرًا بالطبع بقرارات الحكومة رفضًا أو قبولًا.
3- ترتب على الترتيب السابق أنه ألغى تمامًا الفاصل الزمني الذي ميّز الصراع السياسي عبر التاريخ في جميع المجتمعات دون أي استثناء، ومن ثمّ منح المجتمع فرصة بلورة رأي عام افتراضي منفصل تمامًا عن توجهات الدولة وسياساتها، بكل ما يعنيه ذلك من اختلاطه بالمشاعر، وما اطلع عليه من معلومات قد تكون مضلِّلة -أو على الأقل ملونة- تستهدف تحقيق أهداف قد تكون مرسومة من أشخاص أو مؤسسات أو الاثنين معًا لتحقيق أهداف سياسية معينة، مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار قد تكون غير مرغوب فيها، أو غير مطلوبة على الإطلاق، أو الاثنين معًا.
4- هناك تأثير سياسي رابع للإنترنت يمكن استنتاجه بسهولة بالغة من جملة التأثيرات السابقة، وأهمها على الإطلاق أن تأثيرات الإنترنت السياسية هي تأثيرات على مستوى التحليل الكلي Macro- Analysis، أي إنها تأثيرات تنطبق على علاقة الدولة (باعتبارها مؤسسات، وعملية سياسية، وسياسات، وقوانين، وكإطار ثقافي حضاري) بالمجتمع (باعتباره مواطنين، ومجتمعًا مدنيًّا، وشبكات اجتماعية، ومؤسسات، وموظفين)، وبالتالي فهذه العلاقات هي أساس الصراع المجتمعي، وهي الوظيفة الأولى للدولة حتى اليوم، وحل هذا الصراع وأسلوب حله يعكسان مدى فعالية الدولة داخليًّا وخارجيًّا، ويعكسان أيضًا أولوياتها وأسلوب اتخاذ القرار السياسي.
5- التأثير السياسي الخامس يتعلق بتحول الدولة والمجتمع من الشكل الهرمي المتدرج من أعلى إلى أسفل، إلى الشكل الشبكي، واستناد عملية اتخاذ القرار عمومًا على أكبر عملية تفاعل سياسي داخل مختلف مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية وفيما بينها وبين بعضها، وفيما بينها وبين مؤسسات وسياسات المجتمع المدني.
تفاعل الدولة والمجتمع في عصر الشبكات
هنا سنُواجَه بطبيعة الحال بتفاوت في درجة تحول الدولة والمجتمع إلى الشكل الشبكي الذي أصبح أساس التفاعل السياسي في كلٍّ منهما وداخل مؤسسات كل منهما، خاصة أن الفكرة الشبكية أكثر وضوحًا في المجتمع عنها في الدولة، وبالتالي تُولّد نوعًا من الحذر لدى السياسيين من المساس بمؤسسات الدولة خشية انهيارها. وهذا أمر لا مبرر له، لأنه يعكس إدراكًا يحتاج إلى تصحيح، إذ إن جميع مؤسسات السلطات الثلاث للدولة (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) ستظل في إطارها الطبيعي، أما التحولات الشبكية فستكون خلال عملية صنع السياسات العامة والقوانين وباشتراك عناصر من شبكات المجتمع المدني نفسه وفق آليات معينة سيتم شرحها وتناولها تفصيلًا في حينه.
بناء على ما تقدم، يمكن القول إن كفاءة عملية اتخاذ القرار السياسي لأي دولة في العالم قد اختلفت عن قبل، فإذا كانت في الماضي قد اعتمدت على مدى مهارة القيادة السياسية في تناول السياسات العامة بأسلوب الخطابة، وعلى مهارة تضمين رسائل الدولة للمجتمع سياسات مرغوبًا فيها كما علمنا مكيافيللي في كتابه الشهير “الأمير”، والمشاركة participation؛ فإنها اليوم ينبغي أن تقوم على الشفافية Transparency، والاستجابية Responsiveness، والشبكية Internetworking، وأخيرًا المشاركة غير الرسمية informed participants.
في هذا الإطار من التحولات الكلية فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالمجتمع في عصر المعلوماتية والإنترنت، من المهم أن نعيد دراسة نظرية الأمن القومي في ضوء عدد من الاعتبارات الجديدة التي تشكلت في قلب وصميم الدراسات المستقبلية. ويمكن وضع إطار عام لهذه المراجعة على النحو التالي:
- موت الزمن والمسافة.
- لحظية التفاعل السياسي.
- هشاشة مؤسسات الدولة رسميًّا وغير رسمي.
- فعالية وهشاشة المجتمع المدني.
- اندماج السياسة الداخلية والخارجية.
- ضعف السيادة وتحول الأمن القومي كقضية عالمية بدلًا من اعتباره قضية داخلية.
- دور الحركات الاجتماعية.
- العلاقات المدنية العسكرية.
- دور مواقع التواصل الاجتماعي.
- تحولات القوة واختلاف مكوناتها.
- تأكل الحمائية.
- التركيب الاجتماعي للمجتمع.
- ظهور اليمين المتطرف.
- تبعات اختلال العلاقة بين الدولة والمجتمع.
- تحولات الإرهاب وانتقاله للمناطق البينية.
- هل للجغرافيا السياسية دور؟
- كيف ظهرت العولمة؟ وكيف تحقق أهدافها؟
- تأثيرات أفكار وإنجازات ما بعد الإنسانية.
- التطرف الديني وكيفية التعامل معه.
- أسلوب إدارة الأزمات.
- مدى التقدم العلمي.
- التوازن بين العولمة والإقليمية والمحلية.
- تحول الحروب إلى ظاهرة مجتمعية.
- القضايا الاجتماعية.
- القيم ودورها في المجتمع.
- العلاقة مع الآخر.
- اتجاهات الهجرة الشرعية وغير الشرعية.
- الجريمة الإلكترونية.
- الحراك الاجتماعي واتجاهاته.
- احتمالات ظهور الإرهاب الناعم.
- الشبكية.
ومن ثم فإن عمليات التفاعل المختلفة فيما بين مختلف مؤسسات الدولة من جانب، ومختلف مؤسسات المجتمع المدني من جانب آخر، وفيما بينهما معًا على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي تكون قد اختلفت في المضمون والشكل تمامًا عن عناصر ومضمون صياغة مجمل نظريات الأمن القومي التقليدية التي سبق صياغتها في إطار ثوابت الجغرافيا ومتغيرات التاريخ.
وهنا يظل السؤال الأولي قائمًا: هل انتفت أهمية الجغرافيا والتاريخ تمامًا لدى صياغة نظرية الأمن القومي؟ أم إنها ما زالت قائمة؟ أم تراجعت في الأهمية إلى خلفية الصورة الفكرية لعملية صنع سياسات الأمن القومي؟.
سؤال نجيب عنه في تحليل مستقل يتناول دور الجغرافيا والتاريخ في نظريات الأمن القومي.