يُعتبر مؤشر القدرات العسكرية أحد أبرز أدوات قياس عودة روسيا مجددًا كقوة على الساحة الدولية. وقد استعرضت روسيا هذه القدرات في العديد من المحطات، منها حرب جورجيا (أغسطس 2008)، واستعادة شبه جزيرة القرم (مارس 2014). لكن تُعد الحرب السورية التي دخلتها روسيا في سبتمبر 2015 أبرز هذه المحطات وأطولها، كما مثّلت ساحةً أوسع للتفاعلات العسكرية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي. ومن المتصور أن هناك تباينًا في عملية تقييم تلك القدرات وانعكاساتها على التحولات الجيوسياسية، ومستقبل الترتيبات الأمنية على تلك الأصعدة. فبينما تعتبره بعض القوى الإقليمية بمثابة قوة إسناد لنظم إقليمية تواجه تحدي عدم الاستقرار، فقد نظر لها الغرب في المقابل على أنها تشكل قوة تهديد باعتبارها الأداة الرئيسية التي تستند إليها روسيا في مسار التمدد العسكري الخارجي في إطار مسعى استعادة إرث الاتحاد السوفيتي بصورة أو بأخرى.
المختبر السوري للسلاح الروسي: قائمة طويلة بدون تقييم
في سياق استعراض القدرات العسكرية الروسية على الساحة السورية، صرّح وزير الدفاع الروسي “سيرجي شيوجو” (مارس 2019) بأنه تم اختبار 316 نموذجًا من الأسلحة الجديدة في سوريا. وفي واقع الأمر، لم يكن هذا التصريح مفاجئًا، إذ إنه يأتي ضمن سلسلة من التصريحات المماثلة التي تداولها العديد من القادة العسكريين الروس منذ بدء الانخراط الروسي في الحرب، وكان اللافت فيها غياب عملية التقييم لأيٍّ من التجارب أو بعضها، أو الكشف عن قائمة كاملة لتلك الأسلحة وأنواعها، المسموح بها أو المحظورة دوليًّا، ومواقع الاستخدام، ومن كان المستهدف بها؟ فبخلاف التقييم الأخلاقي في هذا الصدد، فإن كافة التصريحات عكست سلوكًا براجماتيًّا غير مسبوق في الاعتراف العلني بتوظيف الساحة السورية كحقل تجارب للأسلحة الروسية لأغراض تجارية تهدف إلى تنشيط مجالات التصنيع العسكري، الأمر الذي يجعلها عرضةً للمساءلة الدولية حال التحقق من طبيعة تلك التجارب وتداعياتها. فقد أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان -في هذا السياق- إلى أن هناك أكثر من 6 آلاف من المدنيين كانوا ضحايا للهجمات الروسية، كما تم استخدام بعض الأسلحة المحظورة دوليًّا، ولا سيما القنابل العنقودية في إحدى معارك حلب بشكل مفرط. وفي المقابل، استهدفت هذه العمليات الهجومية الروسية أقل من هذا العدد من عناصر “داعش”، بما يقدر بأكثر من 5 آلاف عنصر من عناصر التنظيم.
وثمة حقائق لا يمكن تجاهلها في هذا السياق، منها -على سبيل المثال- أن روسيا لم تكن الطرف الوحيد الذي قام بمثل تلك التجارب في سوريا، بل إن أغلب الأطراف التي انخرطت في الصراع السوري أو ساحات الصراع الإقليمي الأخرى (مثل ليبيا واليمن، ومن قبل العراق وأفغانستان) قامت بالسلوك نفسه. فهناك تقديرات تركية تشير إلى أن أنقرة اختبرت ثلث أسلحتها الحديثة في سوريا، وكذلك إيران، وإن لم تكن هناك إحصاءات دقيقة وموثّقة يمكن الرجوع إليها في هذا الصدد، لكنّ هناك رصدًا لتجاربها في اليمن، خاصة اختبار العديد من الأسلحة غير التقليدية. أيضًا اختبرت الولايات المتحدة أحد أحدث أسلحتها في أفغانستان، ففي أبريل 2017 أجرت الولايات المتحدة تجربة لقنبلة GBU-43/B المعروفة بـ”أم القنابل”. وبالتالي فالحرب السورية لم تكن استثناء، ما يؤكد أن ساحات الحروب تمثل بيئة مُثلى بالفعل لاختبار الأسلحة وقدرات الجيوش.
مسار عكسي: تجارب أكثر.. مبيعات أقل
فيما يتعلق بالبُعد التجاري لتجارب الأسلحة الروسية، تكشف تقارير التسلح أنه على العكس مما تروج له روسيا من أن تلك التجارب جعلت روسيا وجهة مهمة في سوق السلاح في العالم، كان هناك تراجع في مبيعات الأسلحة الروسية خلال فترة الحرب السورية. على سبيل المثال، يكشف مؤشر 2018 SIPRI- عن انخفاض المبيعات الروسية من السلاح خلال السنوات (2014-2018) بمقدار 17%، مقارنة بالفترة (2009-2013). وقد جاء هذا التراجع مدفوعًا بتراجع واردات كل من الهند وفنزويلا. أما بالنسبة لسوريا، صاحبة النصيب الأكبر من السلاح الروسي خاصة منظومات الدفاع والمركبات، فلا توجد إشارات على تحصيل أثمانها رغم تسليمها الذي يُعد شكليًّا. ووفقًا للمؤشر ذاته، حلّت سوريا في الترتيب رقم 60 على قائمة المستوردين، بينما جاء العراق الذي يخوض مواجهة مماثلة للحرب على “داعش” في الترتيب الثامن. وإجمالًا، بلغت حصة الشرق الأوسط (ثاني أكبر منطقة لاستيراد السلاح في العالم) 19% من إجمالي مبيعات السلاح الروسية، كان النصيب الأكبر فيها لكل من مصر والعراق، خلال الفترة نفسها (2014- 2018). وقد استفادت روسيا هنا من اتجاه مصر إلى تنويع مصادر التسلح، والتقارب الروسي-العراقي على حساب العلاقات مع الولايات المتحدة.
في السياق ذاته، يبدو في المقابل مستوى تصاعد تكاليف الحملة الروسية في سوريا، والتي تُعد استثناء في موازنات الدفاع الروسية، فالتكلفة الرسمية التي أعلن عنها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للعمليات العسكرية في سوريا في مارس 2016 -أي قبل ثلاث سنوات- بلغت نحو 2.87 مليون دولار في اليوم الواحد. وفي ضوء هذا الرقم، يُعتقد أن المقابل الحقيقي لتكلفة الحرب لا يتعلق بالعوائد الاقتصادية للسلاح دون استبعادها كلية، إذ لا تزال تمثل إحدى ركائز الاقتصاد الروسي، بقدر ما تمثله كتكلفة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية، التي تعتمد على الأداة العسكرية في التمدد الخارجي المتعدد الاتجاهات. فمن الناحية الواقعية، تقوم روسيا بنقل تلك الأسلحة إلى ساحة الحرب في سوريا لصالح مجهودها الحربي من خلال قيادة عملياتها العسكرية في قاعدة حميميم وفي ظل خطة بقاء طويل الأمد لروسيا. كما يحقق تمددها العسكري أهدافًا استراتيجية في مواجهة أوروبا والناتو، وهو ما تركز عليه التقارير الروسية التي تعتمد على إظهار مديات تلك الأسلحة المختبرة ودقة قدراتها على إصابة أهداف على الساحة الأوروبية، وهو ما أكده “بوتين” في حديثه الأخير في الجمعية الفيدرالية الروسية بأن السلاح الروسي قادر ليس فقط على الاعتراض وإنما استهداف مراكز القيادة والتحكم. ويهدف بذلك إلى أن تُعيد القوى الغربية حساباتها الخاصة بالقوة العسكرية الروسية مرة أخرى، وهو ما كانت له انعكاساته على إعادة إطلاق سباق التسلح العالمي مجددًا في سياق انهيار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى INF في غمرة تصاعد تجارب السلاح الروسي التي كانت سوريا أحد ميادينها.
تقييم أمريكي للتجارب الروسية في سوريا.. الدرس الأفغاني
اللافت في تقييم العديد من الدوائر الأكاديمية العسكرية الأوروبية والأمريكية لصعود القوة الروسية أنه ركز على المقارنة بين خبرتي الاتحاد السوفيتي في الحرب الأفغانية (1979-1989) والخبرة الروسية في سوريا، وإن كانت تلك المقارنات تقتصر فقط على مجال التسلح دون الأبعاد الأخرى للأداء على الساحتين. إذ يمكن القول إن روسيا استفادت من كافة الدروس، ومنها كيف يُمكن الانتصار في حرب العصابات التي سبق ووظفتها ضدها الولايات المتحدة في الحرب الأفغانية، وبناء تحالفات قوية في الحرب من خلال استقطاب الحلفاء (تركيا – العراق) وحتى الأعداء (إيران). كما سعت موسكو إلى الظهور كداعم للدول التي تعرضت لهزات عنيفة في مقابل واشنطن التي تسعى إلى تفكيك تلك الدول والإطاحة بنظمها الحاكمة.
ومن الواضح أن أغلب تحليلات الخبراء الأمريكيين للأداء والسلاح والروسي تُبرز نتائج فارقة إيجابيًّا لصالح الحملة الروسية في سوريا مقارنةً بحملتها السابقة في أفغانستان. على سبيل المثال، يُشير “مايكل كوفمان” (من مركز ويلسون، وهو متخصص في الشئون العسكرية الروسية) إلى أن القوات الروسية كانت لديها مساحة أكبر في سوريا لتجريب الأسلحة الجديدة، وتقييم نمط الأداء، فقد قامت باختبار إطلاق صواريخ “كاليبر” من على متن السفن، وزوّدتها لغواصاتها التي تتحرك على طول الطريق من بحر قزوين إلى البحر المتوسط. بالإضافة لتطوير قاذفات القنابل الاستراتيجية طويلة المدى Tu-95MS Tu-160 المعروفة باسم “البجعة البيضاء”، وفقًا لما أعلنه قائد الطيران “سيرجي كولبياش”، ومروحيات “k –52″ (“التمساح”) وغيرها، والصاروخ KH-101.
وقارن “كوفمان” بين مستوى أداء القوات الجوية في الحالتين، فالطلعات الجوية في سوريا ما بين (30-50) طلعة، وأحيانًا كانت تصل إلى 100 طلعة يوميًّا في ذروة العمليات، لم تختلف كثيرًا عن نظيراتها في أفغانستان من حيث العدد، فالزيادة في سوريا تبدو طفيفة، لكن الخسائر في الحالة السورية في تلك المقارنة تبدو محدودة للغاية، حيث سقطت طائرة Su-24M2 بسبب عطل فني، بينما تسببت كل من تركيا وإسرائيل في إصابة طائرتين لاحقًا كان يمكن تفاديهما، وذلك على خلاف ما حدث في أفغانستان، حيث غيّر صاروخ “ستنجر” الأمريكي مسار الحرب، وكان سببًا في إسقاط الطائرات الروسية بأعداد كبيرة، في حين أدخلت روسيا في سوريا أسلحة دفاعية لردع مثل تلك الهجمات كمنظومات (بانتسير ،1،2) و((S-300 و(S-400).
لم تكن عملية التسلح تقتصر على تأمين الجبهة السورية فقط، وهو ما تظهره الاختبارات العديدة لبعضها، فوفقًا لكوفمان فإن روسيا جلبت العديد من الآليات العسكرية الحديثة التي لم تستخدم أغلبها في الحرب في سوريا كصواريخ “كروز” والعديد من القاذفات، لكنها أرادات من خلال جلبها إلى هناك العديد من الرسائل لأطراف أخرى، لا سيما الناتو والولايات المتحدة. وما تم استخدامه من تلك الأسلحة أظهر تفوقًا في الأداء عن الأسلحة القديمة، فمستوى نسبة الإصابات الروسية الدقيقة في المعارك سجلت 5% وكانت ناجمة عن استخدام الأسلحة الحديثة فقط، كالمقاتلة Su-34 المزودة بقنابل KAB-500S والموجهة بالأقمار الصناعية، بينما أغلب العمليات تمت بالأسلحة التقليدية والقديمة كمقاتلات SU-24 وSU-25. التي كانت تُستخدم على نطاق واسع في الحرب بهدف كسبها سريعًا، حيث كانت تحمل بحمولات قنابل أكثر من قدراتها.
معالجة نقاط الضعف الروسية في الأسلحة الهجومية
ربما كانت هناك بعض نقاط الضعف الروسية التي تتعلق بالطائرات بدون طيار (الدرونز) وفقًا لما تشير إليه العديد من التقارير الغربية، حيث كان لدى روسيا العديد منها المخصص للاستطلاع والمراقبة، ومنها طائرات محلية الصنع وأخرى إسرائيلية. لكن في أغسطس 2018، أعلن “سيرجي أبراموف” (رئيس قسم التسليح بمجموعة “روستيخ”) أن شركات المؤسسة بدأت تصنيع أول درونز هجومية. وكان اللافت في هذا الإعلان هو إشارته إلى أنه “رغم وجود روسيا في مكانة الصدارة في مجال تصنيع وسائل الدفاع الجوي والصواريخ، إلا أن لديها توجهًا نحو تخطي الغرب في تكنولوجيا صناعة الدرونز”، وهو ما يؤكد على مستوى سباق التسلح النوعي الذي تنتهجه روسيا في مواجهة الغرب. كذلك كان هناك تهكم واضح في العديد من التقديرات الأمريكية على استخدام روسيا حاملات الطائرات القديمة مع ظهور الحاملة “الأدميرال كوزنتسوف” في سوريا في 2016، ما كان سببًا في التأثير على مقاتلات Su-33 وMiG-29K؛ إلا أنه في مارس 2019 أعلنت روسيا عن إطلاقها مشروعًا لتحديث الفرقاطات 22350 M-، التي ستكون قادرة على حمل 48 صاروخ “كاليبر” المجنح و”تسيركون” الأسرع من الصوت، معتبرة أن الفرقاطات الجديدة ستكون أفضل من “الأدميرال جورشكوف” و”الأدميرال كاساتونوف” على مستوى كافة القدرات.أخيرًا، يمكن القول إن المختبر السوري مكَّن روسيا من إحداث نقلة نوعية في تجاربها التسليحية، وسمح لها بتحسين أدواتها العسكرية الدفاعية والهجومية بما يتجاوز ساحة الاختبار إلى ساحات أقاليم أخرى من العالم. لكن تظل هناك حاجة لتقييم الانعكاسات الاستراتيجية لاستخدام الأداة العسكرية بعد أن تفرغ من الحرب، لا سيما أن تكاليف الاستخدام والتطوير ربما تفوق ما يمكن أن تتحمله روسيا في ظل أوضاعها الاقتصادية الحالية وبسبب العقوبات التي تفرضها عليها الولايات المتحدة، والضغوط التي تُمارِسها على حلفائها أيضًا في هذا الصدد.