أضفى قرار الحكومة الائتلافية الإسرائيلية برئاسة رئيس الوزراء وزعيم حزب الليكود “بنيامين نتنياهو”، بحل الكنيست والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة في أبريل 2019؛ حالة من الزخم على الساحة السياسية الإسرائيلية، خاصة في ظل التنافس الحزبي الشديد بين تيارات اليمين والوسط واليسار. فقد اقترنت معظم الاستحقاقات السياسية في إسرائيل بميلاد مجموعة من الأحزاب أو التحالفات، واندثار مجموعة أخرى. وانطلاقًا من هذه الفرضية، تذهب بعض التحليلات إلى أن حزب العمل الإسرائيلي يواجه مأزقًا سياسيًّا قد يُطيح به، ولو مؤقتًا، من المشهد السياسي، خاصة أن بعض استطلاعات الرأي كشفت أن الحزب قد لا يتمكن من تجاوز نسبة الحسم المطلوبة (3.25%).
في هذا السياق، يتناول هذا المقال دور حزب العمل في الحياة السياسية، ووزنه النسبي الحالي مقارنةً بالفترات السابقة، مرورًا بالأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية الحزب، ووصولًا إلى محاولة تقييم مستقبل الحزب، وفرصه في الانتخابات المزمع عقدها في التاسع من أبريل القادم.
من الهيمنة المُطلقة إلى التراجع التدريجي
تعود جذور حزب العمل الإسرائيلي إلى عام 1930 عندما أقدم “ديفيد بن جوريون” على تأسيس حزب “ماباي”. وقد تشكّل الحزب بصيغته الحالية عبر مجموعة من التفاعلات، جاء في مقدمتها اندماج الأحزاب الثلاثة (الماباي، أحدوت هعفودا، رافي) في كيان واحد. وهيمن الحزب على الساحة السياسية -التي عملت الحركة الصهيونية من خلالها- منذ نشأته، إذ لم يسيطر فقط على القطاع الأكثر في الحركة الصهيونية بل سيطر على مؤسسات الاستيطان التي كانت النواة الأولى في إقامة الدولة. كما سيطر على الاتحاد العام للعمال اليهود “الهستدروت”، والمنظمة الصهيونية. وشكل الحزب النواة الأولى للجيش الإسرائيلي “الهاغانا” و”بالماخ”.
وتمتع الحزب منذ نشأته بدرجة كبيرة من الفاعلية والتأثير، فكان أكثر الأحزاب السياسية مشاركة في الحكم ووصولًا للكنيست، حيث تسيّد المشهد، وظل يحكم إسرائيل خلال الفترة (1948-1977)، ثم عاد مرة أخرى للمشهد عبر الحكومة الائتلافية مع الليكود خلال الفترة (1984-1990). وقاد الحكومة خلال الفترة (1992-1996)، قبل أن يعود مرة أخرى لرئاسة الحكومة في الفترة (1999-2001). ومنذ ذلك الحين بدأت شعبية الحزب في التراجع بشكل تدريجي، إلى درجة جعلت البعض يعتقد أن مصير الحزب إلى الزوال، خاصة في ظل الرئاسة الحالية لـــ”آفي غاباي”، الأمر الذي يُحيلنا للبحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى تراجع شعبية الحزب، وانحسار دوره في الحياة السياسية الإسرائيلية.
تراجع شعبية العمل.. عوامل مُفسِّرة
يُمكن تفسير تراجع دور حزب العمل في الحياة السياسية في إسرائيل استنادًا إلى مجموعةٍ من العوامل، نوجزها فيما يلي:
1- التحول في المزاج العام للناخب الإسرائيلي
ظلت رمزية حزب العمل، كونه الوريث الشرعي لحزب “ماباي” الذي أسس إسرائيل، مصدرًا من مصادر قوته، وهو ما انعكس على دور الحزب في الحياة السياسية لفترات طويلة. غير أن الوقت كان كفيلًا ليتحول الناخب الإسرائيلي تجاه اليمين، وذلك بفعل مجموعة من الأسباب، من بينها أن الخطاب الاشتراكي والدعوة للمساواة الاقتصادية والاجتماعية لم تعد تلقى رواجًا داخل إسرائيل مقارنةً بتصاعد الأهمية النسبية للقضايا والتحديات الأمنية، بجانب هدف الحفاظ على وحدة إسرائيل، وهو ما فشل فيه حزب العمل.
أضف إلى ذلك أن عددًا كبيرًا من مكونات المجتمع الإسرائيلي باتت تنظر لحزب العمل على أنه حزب “الأثرياء”، ولم يعد حارسًا ومدافعًا عن مطالبهم. من ناحية أخرى، قام إدراك الناخب الإسرائيلي للحزب على أنه الداعم الرئيسي لعملية السلام، بدءًا من اتفاق أوسلو 1993، وصولًا لتأييد “آفي غاباي” لحل الدولتين. ومن ثم، فقد أدى تراجع الأهمية النسبية لعملية السلام إلى حدوث تراجع مماثل في أهمية ودور الحزب في إسرائيل.
كل ذلك ساهم في تغيير المزاج الجمعي للناخب تجاه الحزب، ثم التحول بعيدًا عنه. وقد جاءت زيارة “غاباي” إلى الإمارات مطلع ديسمبر 2018 كمحاولة لاستعادة دعم وثقة الناخب الإسرائيلي مرة أخرى؛ إلا أن هذه المحاولة لم يكن لها تأثير مهم، بدليل تراجع نتائج الحزب في عدد من الاستطلاعات التي أُجريت مؤخرًا.
2- الإرث التاريخي في التمييز
على الرغم من أن “ديفيد بن جوريون” –زعيم حزب ماباي، وهو الحزب المؤسس للتيارات الاشتراكية التي انتبثق منها حزب العمل وأحزاب يسارية أخرى- قد وضع خطة للصهر والاندماج المجتمعي بين اليهود الغربيين والشرقيين المهاجرين إلى إسرائيل؛ إلا أن هذه الخطة فشلت ولم تؤتِ ثمارها، وأصبح حزب العمل متهمًا بترسيخ سياسة عنصرية وتمييزية أقصت اليهود الشرقيين الذين هاجروا إلى إسرائيل مطلع عام 1950، وأفضت إلى مزيدٍ من التمكين لليهود الغربيين على كافة المستويات، وهو ما خلق جيلًا يسعى للتمرد على السلطة التي مارست التمييز ضده، الأمر الذي جعل هذا الجيل من الشرقيين يُفضل أحزاب اليمين والليكود على حساب حزب العمل. وقد ساهم ذلك في تقليص وتحجيم دور الحزب بشكل عام في الحياة السياسية، خاصة مع ارتفاع نسبة اليهود الشرقيين مقارنةً باليهود الغربيين، حسبما أفاد مركز الإحصاء الإسرائيلي عام 2015.
3- غياب الزعامة الكاريزمية
لا شك أن افتقاد حزب العمل للشخصية الكاريزمية، وغياب القيادة الجماهيرية الفاعلة والمؤثرة، قد ساهم في تراجع قوة الحزب ووزنه النسبي مقارنة بغيره من الأحزاب السياسية. فقد تمكن الحزب من الفوز بالانتخابات الإسرائيلية في الأوقات التي تزعّم فيها الحزبَ شخصيات ذات ثقل مثل “ديفيد بن جوريون” و”غولدا مائير” و”يستحاق رابين”، و”إيهود باراك” الذي قدم استقالته من الحزب عام 2011، وهو ما يعني أن حزب العمل طوال تاريخه تمكن من لعب دور مؤثر، كلما تقلد زمام الأمور داخل الحزب شخصية كاريزمية تمتلك مقومات وروح الزعامة.
4- الانشقاقات الحزبية
انعكست حالة التصدع داخل “المعسكر الصهيوني” على شعبية حزب العمل، إذ جاء إعلان زعيم حزب العمل “آفي غاباي” بفض التحالف مع زعيمة حزب “الحركة” “تسيبي ليفني” ليترك ظلاله على قوة وتماسك أكبر كيان معارض لليكود. وكان “المعسكر الصهيوني” قد تشكل في نهاية سنة 2014 قبل الانتخابات التشريعية عام 2015، وتمكن من حصد 24 مقعدًا من أصل 120 مقعدًا، ليأتي في المرتبة الثانية بعد الليكود الذي نجح -آنذاك- في حصد 30 مقعدًا. وسوف يؤثر تفكيك “المعسكر الصهيوني” بالسلب على حظوظ وفرص حزب العمل في انتخابات أبريل القادم.
5- نقص الخبرة السياسية
لا يتمتع زعيم الحزب “آفي غاباي” بخبرة سياسية كافية، حيث التحق بالعمل السياسي في وقت مبكر، كما أن حياته العملية كرجل أعمال خصمت من رصيده السياسي بشكل كبير، حيث يرى البعض أنه لا يملك تصورًا أو رؤية واضحة بشأن القضايا والأمور السياسية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. كما أن الخلفية ذاتها جعلته يتخلى عن عدد من القيم المهمة في إدارة العمل الحزبي، مثل: التشاركية في صنع القرار، وتجنب القرارات الفوقية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال قراره المفاجئ بفض الائتلاف مع “تسيبي ليفني” دون مشاركة القرار مع أحد، الأمر الذي جعل “ليفني” تصفه بأنه سياسي أناني يفتقد قيمَ العمل الجماعي، ولا يدرك قواعد اللعبة السياسية.
فرص محدودة وعودة مشروطة
يمكن القول إن حزب العمل يواجة تحديًا كبيرًا، بل يذهب البعض إلى أن الحزب على أعتاب مرحلة مفصلية لم يمر بها منذ تأسيسه، خاصة في ظل رئاسة حزبية ضعيفة وغير مؤثرة، وكذا مع تصاعد حدة الغضب الداخلي ضد “آفي غاباي”، الأمر الذي عبّر عنه بعض أعضاء الحزب من خلال قيامهم بجمع توقيعات للإطاحة به من رئاسة الحزب. كما ذهب اتجاه آخر للتأكيد على وجود نية لدى 10 نواب من الحزب في الانشقاق، ومن ثمّ تشكيل حزب جديد، بحسب ما ورد في صحيفة “إسرائيل اليوم” في فبراير 2019.
ومع استمرار تراجع شعبية الحزب، وفض التحالف مع “المعسكر الصهيوني”؛ يتوقع أن يتراجع تمثيله داخل الكنيست مقارنةً بالمقاعد التي كان قد حصل عليها أثناء تحالفه مع “تسيبي ليفني”. كما أن بروز ائتلافات حزبية جديدة من شأنها أن تُعزز هذا التراجع، وهو ما ظهر خلال استطلاع الرأي الذي أجراه التليفزيون الإسرائيلي (5 مارس 2019)، والذي كشف عن حصول حزب “كحول لفان” -أزرق أبيض- على 36 مقعدًا، مقابل 30 مقعدًا لليكود، مقابل 9 مقاعد فقط لحزب العمل، وفقًا للاستطلاع.
وفي ظل المعطيات الراهنة والتفاعلات الحزبية على الساحة الإسرائيلية، تبقى فرص حزب العمل محدودة، وإذا بقيت الأمور كما هي فقد يجد الحزب صعوبة في حصد أكثر من 4 مقاعد في الانتخابات القادمة، إلا إذا بحث الحزب عن بديل لــــ”آفي غاباي” يمتلك الثقل والحضور لدى الناخب الإسرائيلي، خاصة إذا كان البديل ذا خلفية عسكرية وأمنية، وهو ما أكدته الخبرة التاريخية والانتخابية للحزب. كما أن الحزب بإمكانه أن يعيد ترتيب أوراقه مرة أخرى عبر تكوين ائتلاف مع قوى اليسار، وهو ما دعت إليه زعيمة حزب “ميرتس” (اليساري) “تمار زاندبرغ”، إذ وجّهت دعوتها للحزب بضرورة خوض الانتخابات في شكل ائتلاف وتحالف يساري قوي يمكنه مواجهة اليمين والتحالفات الجديدة الناشئة. إلا أن هذا الطرح قوبل بالرفض من جانب رئيس حزب العمل الذى رأى أن الاندماج من شأنه أن يُضعف الكتلة اليسارية لا أن يقويها.
خلاصة القول، تظل كافة الاحتمالات قائمة، سواء فيما يرتبط بتراجع حزب العمل واندثاره وعدم قدرته على بلوغ نسبة الحسم، أو فيما يتعلق بقدرته على العودة مرة أخرى من خلال تحالفات أو بصورة فردية، لكن هذه العودة قد لا تكون على الدرجة نفسها من الثقل التي تُمكّن الحزب من لعب دور فاعل في المشهد السياسي مستقبلًا.