هل باتت حرب السودان “أزمة منسية؟”. تساؤل يطرحه كثيرون في ظل اتجاه العالم نحو التركيز بشكل أكبر على حرب إسرائيل في غزة، والغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يودع السودانيون عام 2023 على أمل أن تُشكل العملية التفاوضية بين طرفي النزاع بارقة أمل وذلك من أجل الخلاص من حالة الانقسام السياسي والوضع الكارثي على كافة المستويات. رغم ما يمتلكه السودان من ثروات هائلة وموارد طبيعية ضخمة، فإن التدهور الاقتصادي الحاد وذلك بعد سنوات قليلة من تأسيس الدولة الحديثة، بعد أن تسببت حالة عدم الاستقرار السياسي تارة ونشوب الحروب الأهلية تارة أخرى في ضياع كثير من الفرص على السودان، أدّت إلى تأخره وعدم تطوره رغم أنه يُعد ثالث الدول الأفريقية من حيث المساحة وعدد السكان، إذ يصل عدد سكانه نحو حوالي 48 مليون نسمة بحسب تقديرات عام 2023.
ويبقى السؤال الأهم: هل الآثار والنتائج التي ترتبت على اندلاع الصراعات في مناطق متعددة داخل السودان ستؤدي إلى عدم الاستقرار، والفشل في تحقيق الحد الأدنى من التنمية؟
مدخل:
لم تتوقف أصداء الاضطرابات التي نشبت في السودان خلال الفترة الماضية، عند حدّ التأثيرات الداخلية على الاقتصاد والوضع السياسي والأمني والمعيشي بالبلاد، إنما امتدت بشكل واسع خارج السودان بدءًا من دول الجوار التي تُواجه مخاطر توسع الصراع في السودان، السياسية والاقتصادية والأمنية على حد سواء. حيث يأتي ذلك تبعًا للموقع الجيواستراتيجي الذي يمثله السودان، وما يزخر به من ثروات تجعل منه قاعدة رئيسية للعديد من الصناعات المهمة بالنسبة للعالم، وبالتالي فإن أي تطورات هناك عادة ما تصاحبها انعكاسات حادة سواء مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد العالمي.
الأهمية الاستراتيجية للسودان:
إذا أردت أن تعرف لماذا السودان مُهم لدول أخرى عديدة، ما عليك سوى أن تلقي نظرة على الخريطة وموقع السودان. حيث تتنوع طبوغرافيا السودان من أراضٍ صحراوية وتلال وجبال بركانية متفرقة إلى أودية، هذا التنوع في التضاريس أدّى لتنوع في التواجد المعدني، حيث تحتوي منطقة البحر الأحمر في شمال شرق السودان على النحاس والذهب وخام الحديد والفضة والزنك فضلًا عن الرمال السوداء والعقيق والجبس والملح والتلك. أما صحراء بيوضة التي تقع في شمال وسط السودان فإنها تحتوي على رواسب الفسلسبار والذهب والحديد وسيليكات الألمونيوم والمنغنيز والرخام والمايكا. يستضيف جبل مرة البركاني الواقع في غرب السودان رواسب من المعادن الأساسية والعقيق وسيليكات الألمنيوم والملح والكبريت. حيث ينعم السودان بثروات معدنية هائلة ومتعددة، ففيه خامات للحديد والنحاس (حيث تُقدر الاحتياطيات بحوالي 5 ملايين طن) والفضة (حيث تُقدر الاحتياطيات بحوالي 1500 طن) والمايكا والتلك والمنجنيز والكروم الذي يتواجد معه البلاتين، وبه كذلك الرمال السوداء والذهب (حيث تُقدر الاحتياطيات بحوالي 1550 طن) والرخام وغيرها من المعادن، بالإضافة إلى حوالي 1.5 مليون طن من اليورانيوم. ورغم هذا الكم الهائل من الثروات إلا أنه لا يكاد يوجد لها أثر في الاقتصاد ولا يلوح لها نبض في التنمية. فعلى مر السنوات التهمت الحروب والصراعات جزءًا كبيرًا من ثروات السودان، حيث حالت دون الاستفادة المثلى من عائدات تلك الثروات الطبيعية وتحويلها إلى استثمارات عامة في رأس المال البشري والاجتماعي وإرساء البني التحتية وتراكم الثراوات وخلق فرص عمل جديدة على نطاق واسع، ويوضح الشكل التالي حجم وتنوع الثروات الطبيعية في السودان.
أولًا- النفط:
بشكل عام، يؤدي النفط دورًا حاسمًا في السياسة والاقتصاد في السودان، خاصة بعدما ساهم في أحدث طفرة اقتصادية كبيرة في البلاد، ولكنه عمق جراحها وذلك بعد انفصال جنوب السودان، والتي تمتلك غالبية الاحتياطيات النفطية المؤكدة. وبشكل خاص، واجه قطاع النفط تحديات كبيرة، جرّاء عدم الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى تضاؤل الاحتياطيات ونضوب الحقول النفطية في ظل ضعف الاستثمارات ومع تقادمها والسحب المستمر من الخزانات البترولية.
خلفية سياسية:
بعد استقلال السودان عام 1956، عانت البلاد العديد من النزاعات الداخلية، أبرزها حربان أهليتان، انتهت الأولى عام 1972، بعد اتفاقية أديس أبابا للسلام، التي منحت جنوب السودان قدرًا من الحكم الذاتي. وفي عام 1983، دقت طبول الحرب الأهلية الثانية، بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تُعد من أطول الحروب الأهلية في أفريقيا، إذ استمرت حتى عام 2025، وانتهت بالتوصل إلى اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والفصائل المتمردة في المنطقة الجنوبية.
ووضعت هذه الاتفاقية مبادئ لتقاسم عائدات النفط الخام وموعدًا لإجراء استفتاء لاستقلال الجنوب، حتى صوت جنوب السودان بأغلبية كبيرة لصالح الانفصال في يناير من عام 2011، لتصبح دولة قومية مستقلة منفصلة عن السودان في يوليو من عام 2011.
ووفقًا لما سبق، تسبب انفصال جنوب السودان في صدمات اقتصادية متعددة، والتي كان من أكبرها خسارة عائدات النفط الخام والتي شكلت أكثر من نصف عائدات الحكومة السودانية، وحوالي 95% من صادراتها، كما أدّى اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان إلى إلحاق الضرر بكلا الاقتصادين، مع حرمان السودان من عائدات خطوط الأنابيب.
الحرب الحالية لم تخلق أزمة السودان الاقتصادية التي تتفاقم منذ سنوات من دون أي أفق للحل لكنها باتت تهدد بتأجيجها.
احتياطيات السودان من النفط الخام
يمتلك السودان احتياطيات مؤكدة من النفط تبلغ حوالي 1.5 مليار برميل وذلك وفقًا لتقديرات عام 2022، وذلك دون تغيير منذ استقلال جنوب السودان في عام 2011، ونجد أنه بعد الانفصال التاريخي يوليو من عام 2011، خسر السودان أكثر من حوالي 75% من احتياطياته النفطية المؤكدة وذلك لصالح جنوب السودان، وبحسب تقديرات مُعلنة فإن إجمالي احتياطيات السودان وجنوب السودان النفطية بلغ حوالي 5 مليارات برميل وذلك في يناير من عام 2023، كما يوضح الشكل التالي مستويات الاحتياطيات النفطية المؤكدة.
إنتاج السودان من النفط الخام
تاريخيًا، حصلت شركة أجيب الإيطالية على منطقة امتياز على طول ساحل البحر الأحمر السوداني، لتبدأ مرحلة التنقيب عن النفط، لكنها لم تتوصل إلى اكتشاف تجاري مهم، وذلك في عام 1959، ومع ارتفاع أسعار النفط في أوائل السبعينيات، أصبحت الدولة وجهة استثمارية للشركات الأجنبية، وعلى رأسها شركة شيفرون الأمريكية، والتي بدأت أنشطة استكشاف برية واسعة النطاق من عام 1974 فصاعدًا، وركزت على حوضي مجلد وميلوت، مع التوصل إلى اكتشافات نفطية في حقول الوحدة.
وتسارعت أعمال الاستكشاف وذلك منذ عام 1982، مع حفر حوالي 19 بئرًا في حوضي مجلد والنيل الأزرق، ثم حوالي 25 بئرًا خلال عام 1983، تضمنت الاكتشافين الأول والثاني للنفط في بئري هجليج 1 وتوما ساوث 1. ومع ذلك، بسبب الحرب الأهلية الثانية في عام 1984، علقت شركة شيفرون عملياتها، وأجبرت على الانسحاب من السودان وذلك في عام 1992 بعد زيادة حالة عدم اليقين السياسي والضغط من الحكومة الأمريكية.
وفي عام 1999 شهدت صناعة النفط السودانية تحولًا تاريخيًا، حيث بدأت شركات النفط الوطنية الآسيوية تهيمن على قطاع النفط في السودان، وعلى رأسها مؤسسة النفط الوطنية الصينية وشركة النفط والغاز الهندية، لتصدر السودان أول كمية نفط إلى الأسواق العالمية حيث بلغت حوالي 1500 برميل من النفط الخام وذلك في عام 1999.
ونتيجة لذلك، تضاعف دخل الفرد 3 مرات في غضون عقد من الزمان، وذلك مع اعتماد الاقتصاد أساسًا على النفط الخام، ونما إنتاج النفط بصورة كبيرة، خاصة بعد نهاية الحرب الأهلية الثانية عام 2005، ليصل إلى ذروته عند حوالي 485 ألف برميل يوميًا وذلك في عام 2007، وظل بالقرب من هذا المستوى حتى عام 2010. منذ الانفصال، ثم انخفض إنتاج النفط في السودان وجنوب السودان وذلك بسبب استمرار عدم الاستقرار السياسي المحلي في كلا البلدين.
وعليه اتخذ إنتاج النفط في السودان مسارًا هبوطيًا منذ استقلال جنوب السودان، إذ إن معظم حقول النفط تقع في الأخيرة، بيد أن حقول الخام اقتربت من النضوب. وفي عام 2020، تراجع إنتاج السودان من النفط الخام بأكثر من حوالي 13%، ليصل بذلك إلى حوالي 64 ألف برميل يوميًا (وذلك بعد زيادة قدرها حوالي 1.1% على أساس سنوي في عام 2021)، وذلك مقارنة مع 292 ألف برميل يوميًا في عام 2011، كما يوضح الشكل التالي مستويات الإنتاج في السودان.
واستكمالًا لما سبق، يملك السودان العشرات من حقول النفط ومصافي بترول أساسية أهمها مصفاة الخرطوم التي تبعد 70 كيلومترًا شمالي العاصمة. وتساهم هذه المصفاة بتأمين نحو حوالي 72% من استهلاك السودان للبنزين.
وفي المرتبة الثانية، تأتي مصفاة الأُبيض إلى الشمال من مدينة الأُبيض عاصمة ولاية شمال كردفان، وأُنشئت المصفاة عام 1996، ويمكنها تكرير أكثر من حوالي 15 ألف برميل نفط يوميًا. حيث يبلغ طول خط أنابيب الصادر انطلاقًا من حقول الإنتاج في حقل هجليج مرورًا بمصفاة الخرطوم والأُبيض وحتى ميناء بشائر على البحر الأحمر، نحو حوالي 16 ألف كيلومتر، كما يوضح الشكل التالي الحقول المنتجة للنفط.
تقع معظم منشآت تخزين النفط الخام والمنتجات المكررة في السودان في ميناء البشاير، الذي يحتوي على محطة تخزين بسعة حوالي 2.5 مليون برميل يوميًا، وأخرى للتصدير والاستيراد بسعة تكرير حوالي 1.2 مليون برميل يوميًا.
وفى السياق نفسه، يستفيد السودان من النفط الذي تُنتجه جارته الجنوبية، إذ تحصل الخرطوم على عوائد جرّاء نقل نفط جنوب السودان والذي يقدر حجمه بنحو حوالي 170 ألف برميل يوميًا، إلا أن الاقتتال الحالي أعاق الروابط اللوجستية وأنابيب النقل بين حقول النفط في جنوب السودان (قضية شائكة).
وبعد الانفصال، حصل السودان على رسوم نظير عبور نفط جارتها الجنوبية عبر خطوط الأنابيب إلى التصدير وفق الاتفاقية الموقعة بين البلدين عام 2012، حتى انتهى العمل بها في مارس 2022، إذ كان يُنقل بموجبها النفط الخام من الجنوب مقابل 13 دولارًا للبرميل، تحصل عليها الخرطوم. وفي مايو من عام 2022، بدأت المفاوضات بين البلدين على تجديد اتفاقية نقل نفط الجنوب وذلك مقابل 25 دولارًا للبرميل النفطي الواحد.
ورغم أن الجنوب ورث حوالي 75% من احتياطي النفط الخام، فإنه عاجز عن تصديره مع افتقاره إلى البنى التحتية التي يحتكرها الشمال.
انفصال جنوب السودان في يوليو من عام 2011 أخذ معه أكثر من ثلثي مصدر النقد الأجنبي في الموازنة، حيث كانت صادرات السودان الرسمية من النفط في عام 2011 حوالي سبعة مليارات دولار وتراجعت في عام 2012 (أول عام بعد الانفصال) إلى حوالي 255 مليون دولار.
وفي عام 2022، أعلن السودان خطة لرفع إنتاج النفط وذلك من خلال 3 مراحل، لتحقيق الاكتفاء الذاتي للاستهلاك المحلي، مع توقعات أن تستغرق الاستراتيجية من 3 إلى 5 سنوات بعد توفير التمويل اللازم. حيث تستهدف الدولة زيادة إنتاج الخام بنحو حوالي 10 آلاف برميل يوميًا في المرحلة الأولى، ثم إلى 105 و155 ألف برميل يوميًا في المرحلتين الثانية والثالثة على التوالي. والجدير بالذكر إن حصة السودان تصل إلى حوالي 72 ألف برميل يوميًا في اتفاقية تحالف أوبك بلس الأخيرة المتعلقة بخفض إنتاج النفط الخام خلال عام 2024، في حين تبلغ حصة جنوب السودان حوالي 124 ألف برميل يوميًا.
والجدير بالذكر، إن إنتاج جنوب السودان من النفط الخام قد انخفض إلى حوالي 124 ألف برميل يوميًا، وذلك في مقابل حوالي 350 ألف برميل من النفط الخام يوميًا، ومنذ عام 2019 يحاول جنوب السودان العودة لتلك المستويات المرتفعة من الخام، حيث لا تزال صناعة النفط في جنوب السودان تعتمد على الاستثمارات الخارجية، كما هو موضح في الشكل التالي.
واستكمالًا لما سبق، يمتلك السودان وجنوب السودان معًا احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي تبلغ حوالي 3 تريليونات قدم مكعبة، ورغم ذلك، يُعد تطوير الغاز الطبيعي محدودًا في السودان (فرصة واعدة)، إذ يُحرق الغاز الطبيعي المصاحب لإنتاج النفط أو يُعاد حقنه. (لا ينتج السودان أو جنوب السودان الغاز الطبيعي للاستهلاك التجاري أو المحلي).
تأثيرات حادة، مع ما ورثه السودان بعد الانفصال من حقول نفط صغيرة في مناطق متفرغة، إضافة إلى مراكز للمعالجة وخطوط الأنابيب وعدد من المصافي، فكانت النتيجة تراجع الإنتاج وهروب الشركات المستثمرة وشح النقد الأجنبي، وتأزم الوضع السياسي، وتواصل التدهور الاقتصادي والغلاء والتضخم.
الأثر المترتب على هذا التطور هو لجوء السودان إلى استيراد النفط ومشتقاته المختلفة وذلك بهدف تغطية الطلب المحلي، مما يؤدي إلى المزيد من التراجع الاقتصادي والمرتبط بالصرف على الحرب، كما أن الأثر الآخر مرتبط بدولة جنوب السودان المتعامل عبر الخط وما يترتب من خسارات على كليهما جرّاء ذلك.
سيكون تأثير الصراع السوداني الحالي على النفط السوداني (كمصدر رئيس للاقتصاد السوداني) معتمدًا على عدة محاور:
- مدة الحرب والصراع الحالي.
- قدرة صمود الاقتصاد السوداني أمام تداعيات تلك الحرب.
- تطور الحرب (من الناحية الجغرافية) مما قد يشمل الحقول النفطية، وذلك بالنظر إلى استهداف منطقة أم عليلة فهي تحتضن مستودعات الوقود الرئيسية لولاية الجزيرة عبر الخط الناقل للنفط، هذا يقودنا إلى قصف مصفاة الجيلي للنفط بالخرطوم بحري، مع تبادل الاتهامات بين طرفي الحرب حول المسئولية بما جعلها تخرج من الخدمة.
- قد لا يؤدي الصراع الحالي إلى تأثر إمدادات النفط العالمية من النفط الخام، وذلك نظرًا لحجم الإنتاج الحالي للسودان (مستويات منخفضة).
- مصالح الشركات الأجنبية قد تكون على المحك، وفي مقدمتها الشركة الصينية التي تمتلك حصصًا رئيسية في المصافي السودانية وخطوط الأنابيب. حيث إن الأحداث الجارية في السودان، قد تكون نوعًا من المخاطر السياسية على المشاريع الصينية في السودان (تأثير محدود)، ولكن مواصلة الصراع قد يكون لها تأثير بشكل أكبر على قطاع النفط الذي تستثمر الصين فيه بشكل كبير.
- يُشكل ملف النفط أحد القضايا الشائعة بين دولتي السودان وجنوب السودان، ليأتي الصراع الراهن ليزيد من وتيرة الصراع عبر تهديد سلامة خط الأنابيب لحين توقف القتال بشكل دائم.
- يعتمد السودان على استيراد المنتجات والمشتقات النفطية من الخارج، وذلك لعدم وجود كميات كبيرة من النفط الخام، بالإضافة إلى عدم وجود مصافي تكريرية تكفي الطلب المحلي، وبالتالي قد يعزز الصراع المخاوف من تأثر واردات هذه المشتقات البترولية.
- ارتباط الدول الأفريقية بالسودان سيؤثر عليها سلبًا الآن خاصة المغلقة منها مثل إثيوبيا، وذلك نظرًا للاعتماد على الموانئ السودانية في التجارة الدولية، بالإضافة إلى أن مرور بضائعها عبر ميناء بورتسودان، أصبح محل تهديد كبير منذ بداية الصراع.
- شدة النزاع ومحاولة كل طرف الانتقام من الآخر، ليكون النفط ضحية هذا الانتقام، وبالأخص أن هناك استهدافًا ومستوى من الدمار الواضح طال البنى التحتية للدولة السودانية، مع محاولة تكبيد الحكومة أكبر الخسائر.
- الاستهداف لقطاع النفط يكشف عن خريطة مسار الحرب في الفترة القادمة بتركزها على مسارات مرتبطة بوصول النفط من مصفاة بورتسودان إلى المناطق الأخرى.
- المخاطر الاقتصادية من الممكن أن تتزايد وذلك مع استمرار تفاقم الأزمة، وعدم وضوح الرؤية الخاصة بشأن حل هذا النزاع العسكري.
- استمرار النزاع، وتوسع دائرة الاشتباكات سوف يؤدي إلى تأثر حاد لسلاسل الإمداد السودانية، وبالتالي يؤثر على كافة مؤشرات الاقتصاد الكلي.
ثانيًا- التعدين:
قطاع التعدين يُعد من القطاعات الواعدة التي يعتمد عليها الاقتصاد السوداني بعد انفصال دولة جنوب السودان في 2011، والذي يضم أكثر من حوالي 400 شركة حاصلة على رخص وعقود للبحث والاستكشاف عن المعادن تتوزع على 14 ولاية.
وتأتي ولاية البحر الأحمر على رأس قائمة الولايات المستحوذة على حوالي 51 مربعًا للاستكشاف والبحث، ثم ولاية نهر النيل بعدد حوالي 23 مربعًا ونصيب الولاية الشمالية حوالي 17 مربعًا، وولاية جنوب كردفان بها حوالي 12 مربعًا، ويعمل بالنشاط نحو مليوني شخص في الوديان والجبال والصحاري، وأكثر من حوالي 80 سوقًا تقليدية (الطواحين) تنتشر من المناطق القريبة من مراكز التعدين.
حيث تغطي المعادن حوالي 47% من مساحة السودان (فرصة واعدة) وتنتشر في مناطق البحر الأحمر وشرق السودان وصحراء بيوضة بشمال السودان وجبال النوبة، وتلال الأنقسنا في جنوب شرق السودان، وسهول البطانة في الوسط، وشمال كردفان وتشمل المعادن، الذهب والفضة والنحاس والزنك والحديد والكروم والمنغنيز والجبس والرخام وغيرها، وقد ازداد نشاط التنقيب التقليدي عن الذهب في الآونة الأخيرة في مختلف المناطق، والجدير بالذكر إن المساحة الحالية المستغلة في التعدين لا تتعدى حوالي 20% من مساحة السودان (فرصة واعدة).
واستكمالًا لما سبق، يُعد السودان منتجًا رئيسيًا للذهب في أفريقيا، ويعتبر هذا المعدن عنصرًا أساسيًا من صادراته الخارجية، إلا أن القطاع محاط بمشكلات مستمرة تتعلق بالتهريب، كما لم يتضح بعد تأثير الأحداث الراهنة على عمليات إنتاجه وتصديره.
يعاني قطاع الذهب في السودان من عمليات تهريب واسعة النطاق، حيث وصلت نسبة تهريب الذهب المنتج لتصل إلى حوالي 85%.
ووصل إنتاج السودان من الذهب إلى ذروته وذلك في عام 2017 بواقع حوالي 107 أطنان، وتشير البيانات الرسمية إلى تراجع إنتاج الذهب، العام الماضي، إلى حوالي 41.9 طن، وتصدّر الذهب أعلى صادرات البلاد غير البترولية بنسبة حوالي 46.3% من جملة صادرات السودان الخارجية بقيمة نقدية تساوي حوالي 2.02 مليار دولار وذلك من إجمالي 4.357 مليارات دولار هي إجمالي صادرات البلاد للعام الماضي، وفق الشركة السودانية للموارد المعدنية. وعليه يمكن القول إن إنتاج السودان من الذهب شهد تراجعًا كبيرًا في مستويات الإنتاج عن السنوات السابقة، فقد كان الإنتاج في الشهور الـ9 الأولى من عام 2019، على سبيل المثال، قد بلغت حوالي 78 طنًا، بما يفوق توقعات الحكومة بنحو حوالي 12%. وقبل اندلاع الحرب كان السودان يسعى لجعل الذهب مصدرًا أساسيًا للنقد الأجنبي بعد فقدانه لثلاثة أرباع عائداته النفطية، وذلك بسبب انفصال جنوب السودان في يوليو من عام 2011، حيث يُشكل قطاع التعدين 46.3% من صادرات السودان بقيمة نقدية تساوي حوالي 2 مليار دولار من إجمالي 4.3 مليارات دولار هي إجمالي صادرات البلاد للعام الماضي، كما هو موضح في الشكل التالي.
تأثير حاد، منذ اندلاع الحرب في السودان، تراجع إنتاج السودان من الذهب ليصل إلى طنين فقط، مقارنة بإنتاج العام الماضي والذي تجاوز حوالي 18 طنًا، حيث يرجع التجار الأسباب إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج. ويعتمد السودان في إنتاج الذهب على القطاع التقليدي الذي ينتج حوالي 90% من إجمالي الإنتاج المحلي. حيث وجهت الحرب في السودان ضربة قوية لعمليات إنتاج الذهب الذي يُعد أحد أهم القطاعات التي تعول عليها الدولة في جني الإيرادات من العملة الصعبة.
تقدر الكميات التي فقدها السودان خلال فترة الحرب بحوالي 550 مليون دولار كان من المتوقع تحصيل عوائد الصادر منها، إضافة إلى كميات أخرى يُرجح أنه تم تهريبها يصعب تقدير كمياتها. بالإضافة إلى أنها تسببت في أضرار بالغة لمصفاة السودان للذهب في الخرطوم الواقعة في نطاق الاشتباكات، وغير معلوم حجم التخريب الذي طال المصفاة حتى الآن، ولكنها توقفت عن العمل تمامًا منذ اندلاع هذه الحرب. وأيضًا حدوث فجوات كبيرة في مدخلات إنتاج الذهب، إذ إن السودان يعتمد بروتوكول معالجة مخالفات الذهب بنسبة محددة من المواد الكيماوية (الزئبق السيانيد)، لكن بسبب الحرب هناك شحًا شديدًا في مادة الزئبق نسبة إلى توقف عمل شركة سودامين المسئولة عن توريد هذه المواد والتحكم في توزيعها وتحت إشراف الجهات المتخصصة، وغياب هذا الدور يجعل السودان تحت خطر كبير من جرّاء التوسع في استخدام مادة السيانيد في الاستخلاص.
يتضح مما تقدم أن إدارة قطاع المعادن في السودان كانت تواجه صعوبات كبيرة، نسبة لتقاطع المصالح بين الجهات المختلفة والصراع بين شبكات المصالح المرتبطة بالصراع الحالي وضعف الرقابة الحكومية وضعف جهاز الدولة الإداري في مواجهة هذه المجموعات، مما تسبب في كارثة التهريب. بالإضافة إلى أن المساحة الحالية المستغلة في التعدين لا تتعدى حوالي 20%، وعليه يمكن القول إن الحرب ستفاقم من هدر هذا المورد المهم، وسوف تزيد من المخاطر الاقتصادية ومن معاناة الشعب السوداني.
مجمل القول، تفاقم معاناة الاقتصاد السوداني هو آخر ما كان ينتظره الشعب السوداني، حيث إن استمرار الصراع مع توسيع رقعة التدمير الممنهج للبنى التحتية في السودان. ودخول الحرب إلى نفق مظلم لن يكون الخروج منه أمرًا ممكنًا، حيث إن استمرار تعنت الأطراف في الوصول إلى اتفاق يضع حدًا لهذه الأزمة سيكلف السودان معاناة حادة، بالإضافة إلى الأزمات المستقبلية المرتبطة بتضرر قطاع الطاقة في السودان وما قد ينتج عنها لتمتد إلى دولة جنوب السودان.
وفي الأخير، مع كل يوم يمر في ظل استمرار الاشتباكات، تتعقد الأوضاع الاقتصادية والإنسانية لا سيما مع حالة الدمار الهائل التي أصابت البنى التحتية والمنشآت النفطية السودانية.