وقّع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” قرارًا تعترف فيه الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة إسرائيل على الجولان السوري، الذي يُنظر إليه من خلال القرارات الدولية العديدة منذ عام ١٩٦٧ وحتى الآن على أنه إقليم تحت الاحتلال، ولا تمتلك إسرائيل أية شرعية لضمه إليها تحت أي مبرر. هذا القرار يبدو مفاجئًا، كون “ترامب” الذي “برّ” بوعده الانتخابي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في العام الماضي، لم يكن قد ذكر موقفًا مشابهًا من الجولان أثناء حملته الانتخابية. فما هي دوافعه لاتخاذ مثل هذا القرار حتى ولو على سبيل المصلحة الشخصية له؟
تشديد الضغط على إيران وروسيا وتركيا هو الهدف
لا يبدو منطقيًّا أن قرارًا بهذا الحجم قد اتُّخذ من جانب “ترامب” بشكل مفاجئ ودون دراسة مسبقة، أو أن دوافع اتخاذه جاءت في سياق مجاملةٍ انتخابيةٍ لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” لدعمه في الانتخابات المزمع إجراؤها في التاسع من أبريل الجاري! فالقرار قد يرتب تداعيات سلبية على المصالح الأمريكية في المنطقة، كما أن وضع “نتنياهو” في السباق الانتخابي ليس سيئًا، وما تزال الاستطلاعات في إسرائيل ترشحه لقيادة الائتلاف المقبل. ولا يُعقل أن تُختزل دوافع القرار من جانب “ترامب” في هذا السبب وحده، أو حتى اعتباره هدفًا مركزيًّا للقرار.
الأكثر منطقية وقبولًا هو ربط القرار بالتطورات الإقليمية التي بدأت في مطلع هذا العام، وعلى رأسها إعلان “ترامب” نهاية تنظيم “داعش”، وعزمه سحب القوات الأمريكية من سوريا. وكذلك إعلان “ترامب” نيته طرح خطته لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل نهائي (صفقة القرن) عقب الانتخابات الإسرائيلية.
قد يبدو ظاهريًّا أن قرار “ترامب” بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان سوف يؤدي إلى تقوية التحالف بين نظام “الأسد” وكلٍّ من روسيا وإيران، ولكن العكس ممكن أيضًا، وهو ما يأمل فيه “ترامب”. بمعنى إمكانية أن يدفع القرارُ الرئيسَ السوري “بشار الأسد” نحو إعادة التفكير في جدوى بقائه في محور غير متماسك، ولا يمتلك أدوات تأثير قوية في القضايا الثلاث التي تهم سوريا حاليًّا، وهي: محاولة استعادة السيطرة على كافة الأقاليم والأراضي التي خرجت عن سيادة الدولة إبان الحرب الأهلية، وإعادة إعمار البلاد، واستعادة الجولان.
هدف “ترامب” من قرار الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان يبدو قريبًا من التكتيك الذي اتبعته إدارة الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” (١٩٦٩-١٩٧٤) عندما أغرت الرئيس المصري “أنور السادات” بالانقلاب على حليفه (الاتحاد السوفيتي) لضمان استعادته لسيناء المحتلة منذ عام ١٩٦٧، وذلك بإقناعه بأن السوفيت لن يمنحوه السلاح المتقدم الذي يمكنه من تحرير أرضه عبر الحل العسكري، كما أن سياسة الوفاق التي كان السوفيت قد بدؤوها في ذلك الوقت لتخفيض حدة المواجهة مع الولايات المتحدة والمعسكر الغربي، وهو ما كان يعني أن السوفيت لن يضحوا بمصالحهم مع الغرب من أجل مصر؛ لن تخدم التطلعات الوطنية المصرية. وبالتالي إذا كان السوفيت يستخدمون مصر لتعزيز مواقعهم في الشرق الأوسط بهدف التفاوض مع المعسكر الغربي من موقع أفضل لتحقيق مصالح سوفيتية محضة، فلماذا لا يبادر “السادات” بمساعدة الولايات المتحدة لإخراج السوفيت من المنطقة التي تحتوي على مصالح أمريكية وغربية كبيرة مقابل أن تساعد الولايات المتحدة مصر على استعادة أرضها، وتقديم مساعدات اقتصادية لها لاحقًا؟
كما هو معروف كانت بداية النهاية للاتحاد السوفيتي هي خروجه “مطرودًا” من مصر والمنطقة في السبعينيات. وعلى المنوال نفسه، يأمل “ترامب” أن تصل الرسالة إلى نظام “الأسد”، وهي أن روسيا وإيران اللتين تعانيان من وضع اقتصادي مأزوم، ومن عجز عن مواجهة التحالف الأمريكي-الإسرائيلي في المنطقة والذي قد يتسع ليشمل أطرافًا عربية أخرى، لن تكونا قادرتين على مساعدته على البقاء وإعادة توحيد وإعمار الدولة السورية، وأنه يجب أن يفهم أن مطالبته برحيل الاحتلال الإسرائيلي عن الجولان لا يتسق مع قبوله وجود قوات “احتلال” أخرى لأراضيه من جانب روسيا وإيران. أو بمعنى أدق، عليه أن يختار -كما فعل “السادات” من قبل- بين البقاء في محور إيران-روسيا ليكون مجرد ورقة مساومة وتهديد للمصالح الأمريكية دون أن يحقق أي هدف من أهدافه الخاصة، أو أن يقلب تحالفاته ويحصل على مكأفاة مقابل مساعدته في إخراج روسيا وإيران من المنطقة.
وبرغم صعوبة تحقق أو حتى تخيل هذا السيناريو الذي ربما كان في خلفية قرار “ترامب” حيال الجولان، فإنه ليس مستبعدًا في إطار أسلوبه في إدارة ملفات السياسة الخارجية عبر الصدمة والصفقة، وليس البناء على الحقائق الماثلة على أرض الواقع أو عبر التفاوض الطويل ولعب دور الوسيط في بعض الأحيان.
وفيما يتعلق بتركيا التي تمر علاقتها بواشنطن وبالقوى الأوروبية الكبرى بمرحلة توتر بالغة، قد يكون قرارُ “ترامب” بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان ذا آثار متناقضة. فمن ناحية، يمكن استثمار تبرير “ترامب” لقراره بأنه يدعم الأمن الإسرائيلي، للزعم بأن تركيا أيضًا لها الحق في الاستيلاء على أراضٍ سورية لتأمين حدودها في الشمال. ومن ناحية أخرى، ما زالت تركيا تعتقد أن بوسعها إقناع العرب الغاضبين من السياسة الأمريكية بأن تركيا يمكن أن تتولى الدفاع عن مصالحهم، وهو ما يضمن لها دورًا إقليميًّا أوسع، ووسيلة للمساومة ضد محاور القوى الأخرى في المنطقة وعلى رأسها إسرائيل ومصر.
ويبدو أن تركيا لا تزال مقتنعة بتبني المنحى الأخير، حيث صرح وزير خارجيتها “مولود أوغلو” بأن بلاده ستقوم بالدور اللازم في جميع المحافل الدولية، ومنها الأمم المتحدة، ضد قرار الرئيس “ترامب” بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
الموقف التركي المرتبك والمظهري من قرار “ترامب” سيزيد الهوة بينه وبين واشنطن، والتي ستتسع حتمًا حال طرح “ترامب” لمبادرته لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي التي لن يكون لتركيا دور في الترتيبات الإقليمية التي ستنجم عنها إذا ما أمكن تمريرها، وبالتالي فإن قرار “ترامب” سيدفع تركيا وروسيا وإيران مؤقتًا نحو مزيدٍ من التفاهم حول إدارة الوضع في سوريا، ولكن مثل هذا التفاهم غير مرشح للاستمرار، وقد تظهر الخلافات بين هذا المحور الهش سريعًا، خاصة وأن إخراج إيران وروسيا من سوريا سيظل هدفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. والمهم في النهاية أن “ترامب” سيكون قد نجح في زرع الشقاق داخل هذا المحور، على أمل أن يعي السوريون أن مصالحهم الحقيقية مع واشنطن وليس مع إيران أو روسيا.
حدود صلاحية قرار “ترامب”
من الناحية الفعلية، تُسيطر إسرائيل على الجولان منذ عام ١٩٦٧، ومن الناحية الواقعية لن تكون سوريا التي مزقتها الحرب الأهلية قادرة على استعادتها عسكريًّا (وهو أمر منطقي في ظل أنها لم تحاول استردادها بالقوة حتى عندما كانت الدولة والجيش السوريان في أوج قوتهما قبل أحداث عام ٢٠١١). أيضًا لن يغير قرار “ترامب” من الواقع القانوني المستقر بأن الجولان إقليم واقع تحت الاحتلال في نظر الشرعية الدولية، مثلما لم يتغير هذا الواقع بقرار إسرائيل الصادر عام ١٩٨١ بضم الجولان إلى حدودها. فإذا كان هذا القرار الأخير لم يمنع رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق “إسحاق رابين” من التفاوض على الانسحاب من الهضبة مقابل السلام والتطبيع عام ١٩٩٥، فالأمر نفسه يصدق على قرار “ترامب” بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، فهو قرار قابل للنقض حال أبدت سوريا الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل حول الجولان، واستعدادها أيضًا لدعم الجهود الأمريكية-الإسرائيلية لإخراج إيران وروسيا من المنطقة.
إسرائيل وخطاب الانتصار المتردد
رغم المديح الذي كاله “نتنياهو” لـ”ترامب” أثناء مراسم توقيع القرار في واشنطن، إلا أن “نتنياهو” راح يتحدث عن حقوق تاريخية ودينية لليهود في الجولان، بالمخالفة للخطاب السائد حتى في أوساط الصهاينه المتدينين الذين لم يزعموا وجود رابطة تاريخية لليهود بالجولان. محاولة “نتنياهو” توسيع الاعتراف الأمريكي من حدود الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان لدواعٍ أمنية تخص إسرائيل وتخص الاستقرار الإقليمي (مواجهة التوسع الإيراني في المنطقة)، إلى الاعتراف بحقوق دينية وتاريخية لليهود بها؛ يعكس في الواقع عدم اقتناع “نتنياهو” بأن القرار الأمريكي نهائي ولا يمكن الرجوع عنه، بل يدعم الاحتمال الذي ذكرناه من قبل بأن “ترامب” أراد فقط أن يضغط على نظام “الأسد” على أمل تحويل توجهاته، أو إثبات عجز حلفاء “الأسد” عن معاونته على تحرير الجولان، أو حتى إجبار واشنطن على الرحيل عن القواعد التي تمتلكها في سوريا حاليًّا، وأن هذا الاحتمال هو ما يحمل “نتنياهو” على محاولة تصوير القرار الأمريكي بأنه يتضمن الاعتراف بحقوق تاريخية لليهود في الجولان تحسبًا لاحتمالات التراجع عنه مستقبلًا في سياق مختلف.