بعد العصور الوسطى الأوروبية اندلعت حروب دينية بين الكاثوليك والبروتستانت، انتهت مع ظهور الدولة الحديثة في صيغتها الأولى، الملكية المطلقة؛ مطلقة ضد نفوذ رجال الدين. وكان مفهومًا -ولو ضمنيًّا- أن التعسف الملكي في استخدام السلطة المطلقة سيقابله تمرد شعبي مشروع، أو على الأقل مقاومة شعبية مشروعة. ثم ظهرت الدولة الديمقراطية الحديثة، ولم ينتبه الكثيرون (المؤرخ الفرنسي “فرانسوا فوريه” أبرز من أثار تلك النقطة) إلى إحدى تبعات هذا التطور، وهو تأثيره على الحق في التمرد، لأن التمرد ضد السلطة أصبح تمردًا ضد سلطة منتخبة وضد سيادة الشعب. وأصبح العقد السياسي يفرض احترام الكل للقوانين مقابل فرص متساوية أمام كل التيارات للوصول إلى الحكم عبر انتخابات نزيهة.
تلك هي النظرية، ولكن الواقع مختلف، لأن هناك من لن يصل إلى الحكم أبدًا عبر الانتخابات نظرًا لضعف قواعده الاجتماعية. ومن بين تلك القوى هناك من لا يؤمن بالعنف، لكن هناك أيضًا قوى تؤمن به أو تعتنق أيديولوجيات ترى فيه أهم محرك للتاريخ أو أسمى تجليات الرجولة والولاء للوطن أو للجنس أو للدين. وتذهب إلى أنه تم تغييب أو تزييف وعي الأغلبية، أو أن الأغلبية أصابها الوهن واليأس والضعف، مما يُلقي على أكتاف الأقلية الفتية الواعية مسئولية خاصة. فتبنى الكثير من المؤمنين بهذا أشكالًا متنوعة من العنف، منها العنف الإرهابي، إما لإضعاف السلطة وإرهاقها، أو لجذب الانتباه، أو لفرض موضوعات معينة على طاولة الحوار المجتمعي.
وعرفت الديمقراطيات الغربية إرهابًا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وواجهت موجة عاتية في سبعينيات القرن الماضي. وكانت أغلب المجموعات التي تسلك طريق الإرهاب معتنقة أيديولوجيات يسارية ماركسية، سواء كانت أناركية أو نسخًا يسارية من أيديولوجيات التحرر الوطني.
نخلص مما سبق إلى أن المجتمعات الديمقراطية معرضة دائمًا للإرهاب، كونه منهج من يؤمن بالعنف كوسيلة لتحقيق غايات سياسية، ويرى أن المجرى الطبيعي للأمور لن يعطيه فرصة للوصول إلى الحكم أو لتحقيق أهدافه. ولكن المشكلة تفاقمت في العقدين الأخيرين لأسباب متعددة، نذكر بعضها باختصار:
1- أزمة الديمقراطية التمثيلية: في كل الدول الغربية دون استثناء اتسعت الهوة بين النخب السياسية والاقتصادية وبين قطاعات كبيرة من الشعب. وتضاءلت الفروق بين سياسات اليمين واليسار التقليديين، على الأقل فيما يتعلق بالاقتصاد. وساد بالتالي انطباع يرى أن النظام الحالي لم يعد ممثلًا حقيقيًّا للأغلبية، ولا يقدم بديلًا للسياسات التي تتبناها النخب الليبرالية التي يرى فيها الكثيرون خطرًا جسيمًا على مصالحها وعلى الصالح العام وعلى مستقبل الأمة. ويترتب على هذا التشخيص صعود القوى الشعبوية اليمينية واليسارية باعتبارها الوحيدة القادرة على تقديم بديل. هذه القوى تتبنى خطابات تحمل قدرًا كبيرًا من العنف والكراهية اللذين اكتسبا قدرًا من القبول المجتمعي الضمني. ويمكن القول إن اليائسين من النظام الحالي، ومن قدرته على إصلاح نفسه وعلى تمثيل مصالحهم؛ أصبحوا في تكاثر.
2- تغير خطاب وممارسات الفاعلين: فقد ظل هناك تناقض بين “الليبرالية الاقتصادية” التي تقدس المنافسة والتي تدعم الأقوى، وتتبنى خطابًا داروينيًّا (البقاء للأصلح)، وبين “الليبرالية السياسية” التي تعترف بتساوي الحقوق وبالتنوع، والتي تعني ضمنًا توفير الحماية للضعيف والأقلية. وكان هذا التناقض خلّاقًا في العقود الماضية لصيغ سياسية توفيقية، لكن الميزان اختل مع العولمة لصالح الليبرالية الاقتصادية. وتبنت فروع كثيرة من الليبرالية السياسية مذهب التعددية الثقافية المرفوض من قبل قطاعات عديدة من الشعوب. وترتب على ذلك ميل متزايد لدى النخب إلى السلطوية، وظهر ما يُسمى “الليبرالية المتسلطة” التي ترى في الشعوب تجمعًا من الجهلاء ومن العنصريين يرفض ما هو حديث وضروري اقتصاديًّا ويجب تأديبه.. إلخ.
من ناحية أخرى، ترى التيارات اليمينية أن هناك فرصة تاريخية سانحة للوصول إلى الحكم؛ فشعبيتها في ارتفاع مطرد، ونجحت في فرض أجندتها (بخصوص الهوية/ والهجرة/ والإسلام) على المجال العام، وباتت قطاعات كبيرة من الشعوب أكثر ميلًا إلى خطابها. لكن في المقابل، عانت هذه التيارات من الانقسام إلى تيارات فكرية كثيرة (في فرنسا هناك ما لا يقل عن سبعة تيارات، منها: الوطنية الثورية، والنازية الجديدة، والمسيحية الرجعية، والهوياتيون) لا يجمعها عامة إلا الحنين إلى ماضٍ وهمي، ورفض العولمة والهجرة والمذاهب الفردية، والخوف على الهوية ومن تزايد عدد المسلمين، والتنديد بتدهور الأوضاع الأمنية، والميل القويّ إلى خطابات الكراهية. ولا تتبنى تلك التيارات نفس السياسات الاقتصادية ولا نفس السياسات الثقافية؛ فهناك من يؤمن بالمركزية والثقافة الوطنية، وهناك من يفضل اللا مركزية والثقافة السائدة في المحليات. وهناك تباينات كبيرة في موقفها من اليهود.
الشعور بوجود فرصة والانقسامات الداخلية، ترتب عليهما تبني هذه التيارات سياسات تسعى إلى اكتساب أنصار جدد وطمأنة المترددين. ولذلك تحاول الجمع بين التركيز على المشترك (التنديد بالهجرة وبالمسلمين) وبين لجم العنف رغم خطابها المحرض للكراهية ورغم وجود أفراد ومجموعات مارست العنف في صفوف كوادرها. وما حدث أن بعضهم ترك الحزب لجنوحه إلى الوسطية، وتغليبه العمل السياسي والسعي إلى الحكم. والبعض الآخر طُرد بعد تصريح عنصري أو ممارسة العنف، والبعض بقي في الحزب، إما لأن القيادات اختارت توظيفه لأنه يمتلك قدرات على الدعاية وعلى العمل التنظيمي، وإما لأنها أرادت الحفاظ على توازنات داخلية ما، وإما لأنها ترى في تطليق العنف خيارًا مرحليًّا لن يدوم، وقد يكون هو الذي اختار البقاء لأنه يحاول تغيير توجهات الحزب، ويسعى إلى ضمان تمثيل وجهة نظره فيه.
3- التحولات المجتمعية: لم يقتصر الأمر على التيارات السياسية والفكرية، ولكنه شمل أيضًا المجتمعات ذاتها. ونشير في هذا الإطار إلى ظاهرتين مهمتين: أولاهما، تنامي حجم المسلمين ومطالبهم (التمثيل، مناهضة التمييز، أماكن للصلاة، عدم التعرض لمعتقداتهم) وتبنيهم لعادات وتقاليد مختلفة عن تلك السائدة في هذه المجتمعات. وثانيتهما، تعرض مجتمعات كثيرة لهجمات إرهابية شنها جهاديون من حاملي الجنسيات الغربية ما ساهم في توتر “طائفي”.
كذلك، أدت ثورة الاتصالات إلى تمكين المتطرفين من عرض وجهات نظرهم على نطاق واسع ومن تأجيج الفتن. وأدت العولمة إلى أنواع من التفكك الاجتماعي، وإلى شيوع ثقافة الخوف، وشيوع نظريات المؤامرة المبسطة للقضايا والمشيطنة للغير. وتعد نظرية المؤامرة مكونًا رئيسًا من مكونات الكثير من خطابات التطرف، فهي ترى أن الشر يحكم العالم بفضل أقلية قوية، وأن الأغلبية إما عاجزة وإما مغيبة (الفارق بين المقولتين بالغ الأهمية لأن التصور حول إمكانية الاعتماد على العامة يختلف)، وأن فهم السياسة هو عملية “تسمية الأشرار وكشف المستور من أسرارهم”. وهناك خطابات ترى أن واجب المقاومة يقع على عاتق طليعة من الجنود تملك الوعي السليم، ولديها استعداد لممارسة العنف وربما للقتل والموت. وأخيرًا وليس آخرًا تشير كل التقارير إلى تزايد مضطرد في عدد الاعتداءات المستهدِفة للمسلمين أو اليهود أو “الغجر”. من المؤكد أنه لا يمكن اعتبار كل الاعتداءات عملًا إرهابيًّا، لأن الإرهاب يفترض أن للعنف غاية سياسية؛ إلا أن هذا التزايد مؤشر على تدهور الأوضاع، ولأن الاعتداء على أفراد قد يدفع إرهابيين إلى شن عمليات انتقامية.
4- الخطابات المتبنية للعنف والمُقدِّسة له هي خطابات قديمة، لكن تطور المجتمعات والقوى السياسية أعاد لها قدرًا من الحياة، حيث يعتقد عدد متزايد من الناس أن العنف ضروري لتحقيق نتائج، ونقول إن ضرورات الاستعداد لتولي الحكم دفعت القوى السياسية المنتمية إلى أقصى اليمين إلى تهميش من يمارسون العنف، سواء كانوا من المنضمين إليها أو لا، في حين أن خطابها هو دعوة مستترة إليه. وترتب على ذلك انشقاق الكثيرين من أعضائها، وتشكّلهم إلى أحزاب أو مجموعات صغيرة أكثر تطرفًا من القوة الرئيسة. وفي الاتجاه نفسه، فإن شيوع خطابات الكراهية وبثها عن طريق الإنترنت أدى إلى نمو ظاهرة “الذئاب المنفردة”. والخلاصة أن هناك تكاثرًا في عدد الخلايا أو المجموعات الصغيرة المعتنقة لأيديولوجيات تتبنى العنف، ففي الولايات المتحدة وحدها توجد ألف مجموعة تتبنى أيديولوجيا يمينية عنيفة، إلا أن عدد الأفراد المنضمين إلى تلك التنظيمات ليس كبيرًا (في أغلب الدول لا يتجاوز هذا العدد بضعة آلاف موزعة على مجموعات في كل بلد)، وتتقن هذه المجموعات العمل التنظيمي والدعائي.
5- لا يتسع المجال لدراسة وضع كل دولة غربية على حدة؛ فالخطر يهدد الجميع وإن بدت الولايات المتحدة أكثر تعرضًا للإرهاب اليميني. وبشكل عام، يبدو لي أن هناك سمات مشتركة تجمع بين هذه الدول، أبرزها ما يلي:
أ- أن المنضمين للتنظيمات التي تمارس العنف لهم أصول اجتماعية متباينة، منهم من ينتمي إلى الطبقات الميسورة، ومنهم من ينتمي إلى البرجوازية الصغيرة أو الطبقة العاملة. كما أنهم ينتمون إلى أجيال مختلفة، وبعضهم طريد الأحزاب الشعبوية، والبعض الآخر لم ينضم إليها أبدًا.
ب- ليس كل عنف إرهابًا. الذئاب المنفردة لها دور كبير في الإرهاب، لكن التنظيمات تُجيد تنظيم عمليات عنيفة وربما قاتلة تجلب الأنظار. وهناك تنظيمات تركز على الاعتداءات والمعارك في الشارع مع الشرطة أو مع تنظيمات معادية أو مع ضحاياهم من أبناء الجاليات أو الطوائف أو الإثنيات غير المرغوب فيها.
ج- يمكن القول إن الأجهزة الأمنية لم تنتبه للخطر إلا مؤخرًا، وبدت مكافحة إرهاب تلك المجموعات أسهل من مكافحة الجهاديين، وبدا الحصول على معلومات وزرع مخبرين أقل صعوبة، لكن هذا غير مؤكد دائمًا. ففي أحوال ليست بالقليلة نجحت تلك التنظيمات في زرع عملاء لها في أجهزة الشرطة.
د- لجأت دول إلى حل التنظيمات أو الأحزاب، لكن هذا لم يقضِ على الفكر، بل بالعكس قوّى خطاب المؤامرة، وفي أحوال كثيرة أُعيد تشكيل التنظيم تحت اسم مختلف.
هـ- هناك جدل في الولايات المتحدة الأمريكية حول موقف الرئيس “ترامب” من “الإرهاب الأبيض” وحول تأثير هذا الموقف المفترض على سياسات مكافحة الإرهاب، حيث تم التركيز على الإرهاب الجهادي دون غيره.
و- هناك حاجة ماسة إلى مراجعة التشريعات والسياسات وأساليب التعاون بين الدول وآليات تبادل المعلومات.
ز- هناك شكوك حول سعي دول معادية للغرب إلى توظيف تلك الجماعات لإضعاف الجبهة الداخلية لتلك الدول.
الخلاصة، نود أن نشدد على أننا لا نريد أن نقلل من قدرة تلك المجتمعات على الحفاظ على التنوير وتطويره، وعلى مقاومة الانزلاق إلى سيناريوهات الثلاثينيات من القرن الماضي. في الثلاثينيات كانت المجتمعات تعاني من تبعات الحرب العالمية الأولى، ومن انهيار الاقتصاد العالمي سنة ١٩٢٩، ولا يمكن مقارنة أعداد أنصار العنف الحاليين بأعداد أسلافهم، لكن السيناريوهات السيئة لا يمكن استبعادها نظرًا لسهولة تفشي وباء الخوف والعنف، ونظرًا لتردي أداء النخب الليبرالية، وعجزها عن فهم التحديات الجديدة، وميلها إلى “الهروب إلى الأمام”، فالوضع الحالي يختلف عن وضع الثلاثينيات، ويتطلب قدرة على إبداع سياسات جديدة.
وللدول العربية مصلحة مؤكدة في المساعدة على تجاوز الأزمة، لأسباب جلية واضحة، منها أن تفاقمها قد يدفع قطاعات كبيرة من يهود أوروبا إلى الهجرة إلى إسرائيل.