بمنطق الرهان على الاختبار الحاسم لتوازنات القوى، نشبت المعركة حول العاصمة طرابلس بين الجيش الوطني الليبي والميليشيات التابعة لحكومة الوفاق الوطني، يوم الخميس 4 أبريل 2019، والتي قد تشكل تحولًا كبيرًا على الساحة الليبية، نظرًا للرمزية السياسية والدلالة الميدانية لمن يُسيطر على العاصمة، حيث سيكون عندها لدى الجيش القدرة على توحيد مؤسسات الدولة وسلطاتها المنقسمة شرقًا وغربًا.
وبينما اعتبر الجيش الوطني أن هدفه من العملية هو تحرير العاصمة طرابلس من قبضة الإرهاب والميليشيات التي كرست نفوذها في السنوات الماضية، عبر شبكات مصالح أمنية ومالية في العاصمة؛ فقد رفضت حكومة الوفاق ذلك الأمر، وأعلنت النفير العام لحشد حلفائها الميليشياويين، سواء في طرابلس أو مصراتة، برغم ما بينهما من خلافات تسببت في هشاشة تلك الحكومة، منذ أن دخلت إلى طرابلس في مارس 2016.
إزاء ذلك، اكتفت ردود الفعل الإقليمية والدولية والأممية -حتى اللحظة الراهنة- بنمط من الخطاب التحذيري الذي تضمّن إما الدعوة لضبط النفس، أو “القلق” من مغبة نشوب حرب أهلية، أو حتى رفض العمليات العسكرية والدعوة لوقفها. كما ذهب مجلس الأمن في اجتماعه الطارئ حول ليبيا يوم الجمعة 5 أبريل، وكذلك مجموعة السبع الصناعية (G7) التي تعهدت بالضغط على المسئولين في ليبيا لمنع أي تصعيد عسكري، لكن ذلك كله لم يمنع استمرار الاشتباكات العنيفة الدائرة حاليًّا حول العاصمة طرابلس.
هل ما حدث يُمثل مفاجأة؟
لعل السؤال الأساسي الذي تم طرحه مع إعلان الجيش الوطني معركة طرابلس هو: لماذا الآن؟ خاصة أنه سبق ذلك مؤشرات أساسية تشير إلى إحياء العملية السياسية المتعثرة. إذ يُفترض أن يُعقد الملتقى الوطني الليبي في منتصف أبريل الجاري، والذي تُراهن عليه الأمم المتحدة للخروج بخارطة طريق لإنهاء المرحلة الانتقالية. كما أن معركة طرابلس تأتي بعد أكثر من شهر من انعقاد لقاء بين المشير “خليفة حفتر” قائد الجيش الوطني، ورئيس حكومة الوفاق “فايز السراج” في أواخر فبراير الماضي في أبوظبي، حيث اتفقا على إنهاء الانقسام بين السلطات، وعقد انتخابات عامة.
بل إن “حفتر” ذاته قال قبل عملية طرابلس بعدة أيام إبان الملتقى الأول للشباب الليبي (31 مارس 2019)، إن ليبيا ستشهد خلال الأسبوعين المقبلين انفراجةً للأزمة، عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية، تنهي الانقسام بين مؤسسات الدولة. وبينما اعتبر البعض ذلك دعمًا للمسار السياسي، لكن مع بدء عملية طرابلس بدا أن المقصد كان هو التوحيد عبر القوة العسكرية التي تشكل الأداة الأكثر تأثيرًا في التوازنات الليبية، بعد سقوط نظام “القذافي” قبل أكثر من ثماني سنوات.
لكن المفأجاة -على ما يبدو- لم تكن إلا لدى الأطراف المعولة على حلول سياسية خاض الفرقاء من أجلها جولات تفاوضية عدة منذ اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، ثم مبادرات باريس وباليرمو، دون نتائج ملموسة، اللهم إلا مزيدًا من الانقسام، في ظل احتماء كل طرف ليبي بميليشيا مسلحة، وقوة خارجية تؤثر في مواقفه واتجاهاته تجاه الأزمة. فمع قدرة الجيش الوطني الليبي منذ إطلاقه عملية “الكرامة” في مايو 2014 على بلورة نفسه كفاعل عسكري نظامي رئيسي، حسم السيطرة الميدانية على الشرق، ثم الجنوب، فلم يكن يبقى لديه سوى المنطقة الغربية التي تتمترس فيها حكومة الوفاق خلف ميليشيات حماية طرابلس.
أضف إلى ذلك، فإن سيطرة الجيش على الحقول النفطية -كمورد رئيسي لهذا البلد- خلال السنوات الماضية، لم يعنِ استفادته من إيراداته في تطوير هيكله وقدراته العسكرية، خاصة أن بعضها يذهب إلى الميليشيات، في ضوء تمسك القوى الكبرى بأن تظل إدارة الموارد النفطية تحت سيطرة المؤسسة الوطنية الليبية، ورقابة حكومة الوفاق وحدها. كما برز مثلًا إثر سيطرة الجيش على حقل الشرارة في جنوب ليبيا، والذي يُعد أكبر الحقول النفطية، حيث يمثل ربع طاقة الإنتاج الليبي.
دوافع متعددة
في ضوء ذلك، يمكن تفسير بدء الجيش الوطني الليبي معركة تحرير العاصمة طرابلس من سيطرة الميليشيات، من أكثر من وجه:
أولًا: فرض الجيش الوطني شرعيته العسكرية، كمؤسسة أمنية وحيدة على أراضي ليبيا، ويعني ذلك إنهاء أية سيناريوهات كانت تتطلع لها قوى غربية، في بناء مركزين للقوة العسكرية، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، كنوع من تقاسم السلطة العسكرية لاستيعاب انتشار الميليشيات في الغرب. ولعل ذلك السيناريو بدت نُذُره الأولية مع الترتيبات الأمنية في طرابلس للحد من الاشتباكات الميليشياوية التي كانت قد جرت في أغسطس وسبتمبر الماضيين، فمن بعدها، برز كيان ميليشيات حماية طرابلس في ديسمبر 2018، الذي يضم ميليشيات متعددة تتنازع على العاصمة.
ثانيًا: تحويل الجيش الوطني إلى فاعل مركزي ضامن لإنفاذ اتفاقات العملية السياسية، خاصة أن الضغوط الميليشياوية على السياسيين عرقلت التفاوض أكثر من مرة. ولعله لوحظ أن بيانات الجيش الليبي حول معركة طرابلس لم تغفل المسار السياسي، عندما أعلن المتحدث باسم الجيش دعم عقد الملتقى الوطني، جنبًا إلى جنب مع تحرير طرابلس. لكن بالمقابل، فإنه حال سيطرة الجيش على العاصمة، فربما يدفع ذلك لاحقًا إلى سيناريو محتمل من قبيل انتقال “حفتر” إلى لعب دور القائد السياسي، وهو أمر تخشاه بعض القوى الليبية، سواء من تلك التي شاركت في ثورة 17 فبراير، أو من القذاذفة العائدين للساحة السياسية بقوة، ويراهنون على دور سياسي أكبر لـ”سيف الإسلام القذافي” في المرحلة القادمة.
ثالثًا: نزع الدعم الدولي عن حكومة الوفاق، كسلطة معترف بها في العاصمة طرابلس، خاصة أن القوى الدولية (الولايات المتحدة، وإيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا) تتعامل ببراجماتية مع الصراع الليبي. فبرغم دعم هذه القوى العلني لحكومة الوفاق؛ إلا أنها تدرك هشاشة هذه الحكومة، وصعوبة التوصل إلى تسوية سياسية ما لم يكن هنالك فاعل عسكري قادر على إنفاذ الاستقرار وتأمين مصالحها. وبالتالي، فلم تمانع القوى الكبرى -من قبل- في سيطرة الجيش الوطني على منطقة الشرق، ثم الجنوب لمكافحة الإرهاب والميليشيات.
وعليه، من المتوقع أن تتعامل القوى الكبرى مع معركة طرابلس، إن لم تستطع وقفها، بمنطق انتظار من يفرض إرادته عسكريًّا على العاصمة. ساعتها لن يكون لديها مانع في التعاطي معه، حتى لو أبدت علنًا قلقها من تلك المعركة ودعت لوقف التصعيد العسكري. كما برز مثلًا بيان مجلس الأمن حول معركة طرابلس، والذي لم يترافق معه أي إجراءات محددة على الأرض لدعم حكومة الوفاق.
ناهيك عن أن “حفتر” نفسه استطاع بناء علاقات وثيقة خلال السنوات الماضية مع فرنسا وروسيا، بل ودفع إيطاليا (القوة النافذة في غرب وجنوب ليبيا) إلى الاعتراف به، كطرف رئيسي في التفاوض في الصراع، كما برز في اجتماع باليرمو في نوفمبر الماضي. ولذا، فمن المحتمل أن توافق تلك القوى الكبرى -ولو ضمنًا- على نتائج معركة طرابلس، ولكن بشرطين أساسيين؛ أولهما ألا تتعارض مع مصالحها في منع الهجرة واستمرار إمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب. وثانيهما ألا تأخذ أمدًا طويلًا أو تكلفة باهظة للمدنيين، بما لم يتمكن معه الجيش من السيطرة على العاصمة وإنهاء حكم الميليشيات.
رابعًا: تحجيم المحاور الإقليمية المضادة، خاصة قطر وتركيا الداعمتين لحكومة الوفاق وحلفائها من الإسلاميين ومصراتة. ولعل الدولتين قد هاجمتا عملية الجيش الوطني في طرابلس، إذ اتهمت الدوحة مثلًا الإمارات بدعم عملية الجيش الوطني سرًّا، والمطالبة بوقفها عندما انضمت الأخيرة لبيان القوى الكبرى حول معركة طرابلس المطالب بوقف التصعيد.
الأهم من ذلك، أن عملية طرابلس تأتي في توقيت انشغال الجزائر -ذات العلاقات والمصالح الوثيقة في غرب ليبيا- بأوضاعها الداخلية حاليًّا بعد استقالة الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” في الثاني من أبريل الجاري، ومن ثم الدخول في مرحلة انتقالية، من المحتمل أن تعيد ترتيب أوراق السياسة الجزائرية تجاه ليبيا. في الوقت نفسه، فإن تونس التي تواجه أوضاعًا اقتصادية وأمنية صعبة تعاملت مع عملية طرابلس بمنطق منع أي ارتدادات محتملة عابرة للحدود، لذا دفعت بقوات إضافية لتأمين حدودها مع ليبيا، وإن كانت حركة النهضة الإسلامية قد أعلنت معارضتها لعملية طرابلس.
على الجانب الآخر، في حال نجاح الجيش الوطني في معركة طرابلس، فإن ذلك سيزيد من توثيق العلاقات بينه وبين محور “مصر، الإمارات، السعودية” الذي يدعم بالأساس بناء مؤسسة عسكرية وطنية تحتكر الوظيفة الأمنية، وتكافح الإرهاب والميليشيات. ولعله لوحظ أن زيارة “حفتر” للسعودية كانت قبل أسبوع من انطلاق العملية، وهو ما قد يشي بأمرين محتملين، هما: اجتذاب دعم الرياض، كونها قوة إقليمية يمكنها التأثير في ردود الفعل الدولية تجاه عملية الجيش الوطني من جهة، ورفع الغطاء عن بعض ميليشيات السلفية المدخلية التي تدعم حكومة الوفاق ضمن قوة حماية طرابلس، من جهة أخرى. لكن مع ذلك، فإن القوى الإقليمية الداعمة للجيش الوطني، ومنها مصر، قد أكدت خلال مؤتمر صحفي لوزير الخارجية “سامح شكري” مع نظيره الروسي “سيرجي لافروف”، السبت 6 أبريل، في القاهرة على أهمية الحل السياسي، وأنه لا حل عسكريًّا للأزمة الليبية.
نمط السيطرة المتسارعة
لعل ما حفز الجيش الوطني الليبي أيضًا على خوض معركة طرابلس، تبلور نمط من “السيطرة العسكرية” المتسارعة، فبعدما أخذ الجيش قرابة ثلاث سنوات (ما بين عامي 2014 و2017) حتى تكتمل سيطرته على مناطق شرق البلاد، وبعض المواقع الاستراتيجية في الجنوب، فقد انخفض ذلك المعدل زمنيًّا عند استكمال السيطرة على الجنوب، حيث استغرق الجيش أكثر من شهر للسيطرة على الجنوب منذ إطلاق عمليته في منتصف يناير 2019، وبالتالي بدا هناك تصور نظري بأن معركة طرابلس قد تأخذ وقتًا أقل، بمنطق نظرية الدومينو في التأثيرات المناطقية في الصراعات.
ويمكن تفسير تسارع سيطرة الجيش على عدة مناطق ليبية بثلاثة أمور أساسية. أولها، قدرته على بناء تحالفات محلية مع القبائل والقوى السياسية المسيطرة مناطقيًّا، وهو ما ظهر بجلاء عندما سيطر الجيش الوطني على مساحات شاسعة في الجنوب دون قتال، إلا في بعض المناطق في حوض مرزق. وثانيها، طبيعة الثقافة القبلية الليبية التي تتعامل مع الأقوى، أو الذي يفرض إرادته بالقوة في الميدان، خاصة أن “حفتر” بات يحظى باعتراف دولي في المفاوضات حول أزمة ليبيا. وثالثًا، تململ الليبيين أنفسهم من الفشل المزمن للمسار السياسي بسبب مراوغات الفرقاء السياسيين، وانقسام البلد إلى سلطتين متنازعتين.
وقد يدعم ذلك التفسير جزئيًّا أول بادرة ميدانية برزت في معركة طرابلس، عندما دخلت قوات الجيش غريان (80 كلم جنوبي طرابلس) دون قتال، حيث انسحبت الميليشيات المسلحة إلى قلب العاصمة طرابلس، كما أن القوى المدنية والاجتماعية في مدينة الزنتان أصدرت الجمعة بيانًا رحّبت فيه بتقدم الجيش الوطني إلى طرابلس لتخليصها من الميليشيات.
عوائق واحتمالات
لكن مع ذلك، لا تزال الأوضاع الميدانية في طرابلس متحركة حتى اللحظة، وتشهد نمطًا من تبادل السيطرة على المواقع والمناطق، بما يصعب معه الجزم بأن معركة السيطرة على العاصمة قد تكون يسيرة، أو أنه يمكن إنهاؤها بكلفة محدودة، على غرار ما جرى في جنوب ليبيا، وذلك لبروز عدة عوائق، منها: أن الغرب الليبي هو الأكثر كثافة سكانيًّا مقارنةً بالشرق والجنوب، وبالتالي فإن المعارك قد تُصبح أكثر صعوبة نظرًا لوجود المدنيين، بخلاف وجود مؤسسات دبلوماسية أجنبية من المتوقع أن يحرص الجيش الوطني على عدم المساس بها خشية إغضاب القوى الدولية، كما قد تشكل ورقة للميليشيات للضغط بها في اشتباكات العاصمة. والأهم أن ميليشيات الغرب، وخاصة مصراتة، تُعد الأكثر عددًا وعتادًا، قياسًا بنظيرتها في مناطق الجنوب والشرق.
إضافة إلى ذلك، فإن ثمة مخاوف ميدانية من التفاف قوات من غرب ليبيا على الجيش الوطني لقطع خطوط الإمدادات الطويلة له مع شرق ليبيا أو استهداف المنشآت النفطية، كجزء من محاولة جر الجيش لمعركة خلفية تحد من تقدمه الميداني باتجاه طرابلس. ناهيك عن أن معركة طرابلس قد وحدت أعداء الأمس في العاصمة، خاصة مع إعلان مصراتة، وهي تملك قوة جوية، إرسال قوات للعاصمة للدفاع عنها. ولعل المتحدث باسم الجيش الليبي كان قد اتهم طائرة أقلعت من مصراتة بأنها قصفت قوات للجيش في منطقة أبو غيلان جنوب طرابلس. كما أعلنت “قوات سرايا الدفاع عن بنغازي” -المصنفة كجماعة إرهابية- دعمها لميليشيات طرابلس في مواجهة الجيش الوطني الذي كان قد هزم تلك السرايا إبان سعيها للسيطرة على الهلال النفطي في مارس عام 2017.
في ضوء ذلك، يمكن الإشارة إلى عدة مسارات محتملة لمعركة طرابلس. أولها، سيطرة الجيش الوطني الليبي على العاصمة، وقد يمثل ذلك تغييرًا كاملًا لقواعد اللعبة السياسية والميدانية في ليبيا، لأن ذلك ببساطة سيعني عمليًّا سقوط حكومة الوفاق كأحد أطراف التفاوض السياسي. وثانيها، انقسام طرابلس بين نمطين من السيطرة الميدانية، أحدهما للميليشيات في قلب العاصمة وأخرى للجيش الوطني في المناطق المحيطة بطرابلس، وهو ما قد يحدث إذا طالت المعركة وتدخلت قوى إقليمية مضادة للجيش لدعم الميليشيات في العاصمة عسكريًّا.
أما المسار الثالث، فيتعلق برضوخ الجيش الوطني للمطالبة الدولية ووقف عمليته العسكرية إذا تزايدت الضغوط الدولية وارتبطت بالتهديد بإجراءات فعلية، لكن “حفتر” رفض -حتى اللحظة- ذلك المطلب الذي ألحّ عليه “أنطونيو جوتيرش” الأمين العام للأمم المتحدة، عندما اجتمع معه مؤخرًا في الرجمة شرقي ليبيا، خاصة وأن ذلك قد يُضعف صورته كقائد عسكري أمام الليبيين، بل وقد يؤثر على سيطرة الجيش الوطني في مناطق حازها من قبل في الجنوب والشرق. لكن أيًّا تكن السيناريوهات المحتملة، والتي ستتبلور أكثر في ضوء تطورات ونتائج الأوضاع الميدانية التي لم تثبت في معركة طربلس، فمن المؤكد أن المشهد الليبي ما بعد تلك المعركة ليس كما قبلها.