بدأ العام الدراسي 2023/2024 مطلع أكتوبر الماضي وفقًا للخطة التي أعلنتها وزارة التربية والتعليم، ولكن منذ الأسبوع الأول من أغسطس وبالتزامن مع بدء مدرسي ومراكز الدروس الخصوصية نشاطهم كما جرت العادة، انتشرت الكتب الخارجية أو ما يُطلق عليه في دول أخرى “مواد تعليمية تكميلية” أو “كتب الظل” وارتفع الطلب عليها، كما صاحب ذلك المشهد المعتاد شكوى عامة بسبب ارتفاع أسعار تلك الكتب في ظل أوضاع اقتصادية ضاغطة. فما هي السياسات الحاكمة لإنتاج وتوزيع الكتب الدراسية بأنواعها؟ وما هي العوامل المؤدية لزيادة الطلب على الكتب الخارجية، والضوابط الحاكمة لتلك العملية؟.
سياسات إنتاج الكتب الدراسية وتوزيعها
تغطي السياسة الشاملة للكتب كل عناصر سلسلة إنتاج الكتاب الدراسي: بناء المنهج، برامج التنمية المهنية، تطوير الكتاب المدرسي وتمويله وطباعته وتوزيعه واستخدامه داخل الفصل المدرسي بجانب المواد التعليمية الأخرى، ولكي تكون السياسة الوطنية المتبعة في هذا الشأن واضحة، فلا بد أن تجيب عن عدة أسئلة، أبرزها: هل ستوفر الحكومة الكتاب لكل الطلاب في كل المراحل التعليمية؟ هل توزع الكتب مجانًا أم يستعيرها الطلاب من المكتبات المدرسية والعامة أم تباع في الأسواق؟ هل هناك كتب لكل المواد الدراسية أم بعض منها فقط؟ كم عدد السنوات التي سيستخدم فيها الكتاب بشكل رسمي في المدارس؟ وفي كل الأحوال، لا بد أن يتم تصميم كل عناصر السياسة المتبعة للكتاب المدرسي لتحقيق تحسن في مخرجات التعلم، والتأكد من توفير عدد كافٍ من الكتب ومواد التدريس والتعلم بتكلفة مناسبة وفي توقيت مناسب.
ولأن الحكومات هي من تتحمل مسئولية توفير الكتب المدرسية للطلاب في معظم دول العالم، فإن الحكومات تشارك في تطوير وتنظيم سوق النشر التربوي، أو نشر الكتاب المدرسي، وتتنوع تلك المشاركة وفقًا للنظام المتبع على المستوى الوطني، والذي يمكن أن يكون واحدًا من أربعة أنظمة، هي:
- النظام المركزي: حيث تتحكم وزارة التعليم كليًا في عملية نشر الكتب المدرسية بدايةً من إعداد نسخة أصلية من الكتاب وتنقيحها وصولًا إلى طباعة الكتاب وتوزيعه على الطلاب، وقد تلجأ الوزارة لتنفيذ تلك الخطوات بنفسها أو طرح كل مرحلة في شكل مناقصات، ويسود هذا النظام في دول مثل (الهند – بنجلاديش – إيران – قرجيزستان – أوزباكستان – طاجيكستان – المجر).
- نظام اعتماد وزارة التعليم قائمة كتب اختيارية: حيث تختار المدارس أو إدارة التعليم الإقليمية أو حكومة المدينة بمشاركة مديري المدارس وموجهي المواد التعليمية ومعلمي الفصول الدراسية وأولياء الأمور الكتب المدرسية من القائمة الموصى بها. ويتيح هذا النظام فرصًا كبيرة أمام الناشرين للتطوير في ضوء الفرص الاستثمارية الجديدة. ويشتهر هذا النظام في دول مثل (بعض الولايات الأمريكية – معظم مقاطعات ألمانيا – التشيك – النمسا – تشيلي – اليابان – إندونيسيا – هونج كونج – سنغافورة – تركيا – جورجيا).
- نظام مختلط: حيث تتحكم الوزارة في إصدار وإتاحة الكتب المدرسية للمدارس الابتدائية، في حين يتم اعتماد قائمة للكتب المدرسية للاختيار من بينها في المراحل التعليمية العليا، وفي هذا النظام، يمكن للمدرسة أن تصبح قوة دافعة للتحسين المستمر لجودة الكتب المدرسية كما هو الحال في كل من كوريا الجنوبية وبولندا.
- نظام السوق الحر: حيث تتخلى الوزارة عن دورها المركزي وتترك الجزء الأكبر من النشاط للسوق، فيتمكن الناشرون من إنتاج كتب مدرسية وفقًا لأولوياتهم التجارية وبيعها مباشرة للمدارس، في حين يقتصر دور الوزارة على تطوير المعايير التربوية وتنظيم البرامج الدراسية وتقديم التوصيات المناسبة لاعتماد واستخدام المواد التعليمية، وتتبنى عدة دول هذا النظام، منها: (المملكة المتحدة – بعض الولايات الأمريكية – أستراليا – فرنسا – كندا – هولندا – السويد – الدنمارك – فنلندا – إيطاليا – إسبانيا).
وبتقييم تلك الأنظمة، يتضح أنه غالبًا ما تواجه الكتب الدراسية في الدول المركزية انتقادات واسعة من قبل أولياء الأمور والخبراء ووسائل الإعلام، في حين أن النظم المختلطة للنشر غالبًا ما تؤدي إلى توترات بين دور النشر المملوكة للدولة وتلك المملوكة للقطاع الخاص، أما في السوق الحر الذي يمثل فيه المستهلك القوى الدافعة، فيكون التأثير ملحوظًا على تطوير محتوى الكتب بسبب حاجة الناشرين للبقاء في السوق، وقد أشارت نتائج اختبار بيزا إلى أن استقلالية المدارس وحريتها في تحديد مناهجها ونظم التقييم لها تأثير إيجابي على فعالية النظام التعليمي كليًا، كما أوضحت نتائج بعض الدراسات أن الدول صاحبة النتائج الأعلى فيما يتعلق بالتعليم أجرت تغييرات جوهرية على عملية نشر الكتب الدراسية وتوزيعها خلال السنوات العشر الماضية.
الكتب الدراسية في مصر: بين المركزية وطلب الكتب الخارجية
على الرغم من وجود نص صريح في قانون التعليم 139 لسنة 1981 بشأن الكتب الدراسية، إلا أن القانون لم يتطرق لسياسة توفير الكتب الدراسية في المدارس الحكومية، أو تحديد الشكل الأنسب لتوفير تلك الكتب في المدارس ورقيًا كما هو معمول به في المرحلتين الابتدائية والإعدادية أم إلكترونيًا كما هو معمول به في المرحلة الثانوية مع بدء تطبيق النظام الجديد في 2018، ولكن بوجه عام تتبنى وزارة التربية والتعليم سياسة مركزية بالكامل لتوفير الكتب للمدارس بدايةً من وضع المعايير والأطر العامة للمناهج، مرورًا باختيار المؤلفين وطرح مناقصات طباعة الكتب وصولًا إلى توزيعها على المدارس.
ورغم مركزية إعداد وتوزيع الكتب على المدارس الحكومية، إلا أن المدارس الخاصة لها حرية اختيار كتب المواد الإضافية مثل كتب اللغات من بين قائمة معتمدة من قبل الوزارة، ما يعني أن هناك نظامًا آخر غير النظام المركزي يتم تطبيقه ولو بشكل جزئي، كما أن الطلاب لا يعتمدون بشكل كلي على كتب الوزارة، ما أدّى إلى ظهور الكتب الخارجية التي تم تنظيم إصدارها ونشرها وفق الشروط المنصوص عليها في القرار الوزاري رقم 19 لسنة 2003 والقرار الوزاري رقم 52 لسنة 2010، وقد فرضت الوزارة وقتها رسومًا تراوحت بين 400 ألف جنيه وبين مليون و250 ألف جنيه مقابل الانتفاع بالمادة العلمية التي تتضمنها كتب الوزارة، إلا أن هذا المبلغ تم تعديله في 2019 ليصبح 10 آلاف جنيه عن كل 50 ألف نسخة يلتزم بسدادها كل طالب ترخيص لطباعة ونشر كتاب خارجي، مما يعني أن نظام السوق الحر القائم على العرض والطلب مطبق أيضًا على الكتب الدراسية في مصر؛ الأمر الذي غالبًا ما ينتج عنه انتقادات عديدة لسياسات الوزارة في هذا الشأن قبل كل بداية كل عام دراسي.
ولا ترتبط ظاهرة الكتب الخارجية بنظام التعليم المصري فقط، حيث تواجه بعض الدول التي تعتمد على النظام المركزي في إنتاج وتوزيع الكتب الدراسية الظاهرة نفسها، فالهند على سبيل المثال لا تمتلك آلية منظمة لعملية إنتاج وبيع الكتب الخارجية؛ الأمر الذي أدّى إلى ظهور مراكز موازية للكتب الدراسية منذ بداية الألفية تقوم بإنتاج وتوزيع كتب تدريبات وبنوك أسئلة وإجابات وكتب خاصة بتوقعات ما يمكن أن تتضمنه الامتحانات، وغالبًا ما تتبع دور النشر آلية تشبه ما يحدث في مصر، حيث يقدم مندوبوها نسخًا مجانية للمعلمين وتطلب منهم أن يوصوا طلابهم أثناء الدروس الخصوصية بشراء كتب بعينها، ويتمثل وجه التشابه الآخر في عدم وجود قانون أو آلية لنشر وتوزيع تلك الكتب وارتفاع سعرها.
أما في بعض الولايات الأمريكية التي تعتمد على نظام السوق الحر في إنتاج وتوزيع الكتب الدراسية، فيختلف الأمر في هذا الشأن، حيث تقدم دور النشر كتبًا خارجية تحت مسمى “مصادر تعلم تكميلية”، يكون هدفها تحسين أداء الطلاب وإعدادهم للامتحانات، وتقوم كبرى دور النشر هناك بإصدار كتب لطلاب التعليم قبل الجامعي في القراءة والكتابة والرياضيات بالإضافة إلى كتب إعداد الطلاب لاختبارات إنهاء مرحلة التعليم قبل الجامعي، تتضمن تلك الكتب نماذج امتحانات متنوعة وبنوك أسئلة وإجابات، ويتمثل الاختلاف هنا في أن دور النشر تقدم تلك الكتب في صيغة مطبوعة وأخرى إلكترونية بالإضافة إلى إصدار تطبيقات إلكترونية مدفوعة، يتحمل الطلاب تكلفة مرتفعة للحصول عليها.
عوامل زيادة الطلب على الكتب الخارجية
يتمثل الانتقاد الأبرز لوزارة التربية والتعليم قبل بداية العام الدراسي الحالي في الزيادة الكبيرة التي شهدتها أسعار الكتب الخارجية، إلا أن وظيفة الوزارة في هذا الشأن تتمثل في مراجعة الكتب الخارجية وترخيصها دون التدخل في تحديد أسعارها، كما أن الوزارة لم تفحص أو تمنح ترخيصًا لعدد كبير من الكتب الخارجية المطروحة في السوق. وإذا كانت الكتب الخارجية تخضع لمبادئ السوق الحر، فإن تحديد سعرها يتوقف على الاختلاف في تكلفة عناصر الإنتاج من جانب وحالة الطلب عليها من جانب آخر. وبالنظر إلى هذين العاملين، فإنه قد يكون مفهومًا زيادة تكلفة عناصر الإنتاج في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، أما زيادة الطلب فقد ترجع في الأساس إلى:
- لجوء أولياء الأمور والطلاب لمراكز الدروس الخصوصية قبل بدء الدراسة بفترة تتراوح بين شهر وشهرين، ويحتاج الطلاب خلال هذه الفترة إلى كتاب يمكن الرجوع إليه أثناء الشرح والمذاكرة وحل التدريبات، وهو ما لا توفره الوزارة إلا مع بدء الدراسة، فيضطر الطلاب لشراء كتاب خارجي يحدده المعلم الخاص، بما يخلق حالة طلب كبيرة على الكتب الخارجية.
- أحيانًا ما تتأخر وزارة التربية والتعليم في توفير كل الكتب الدراسية قبل بدء العام الدراسي، مما يدفع الطلاب لشراء كتب خارجية تمكنهم من متابعة الدروس، كما أن رغبة أولياء الأمور في توفير أكثر من مصدر للشرح والتدريبات تلعب دورًا في زيادة الطلب على الكتب الخارجية.
- تفضيل الطلاب –خاصةً في المرحلتين الإعدادية والثانوية- للكتاب الخارجي على حساب الكتاب المدرسي؛ بسبب اختلافه في طريقة عرض المحتوى وتنوع التدريبات التي تمكنهم من استيعاب الدروس.
وفي كل الأحوال، ليس هناك ما يمنع وجود كتب خارجية طالما أنها لا تخالف معايير وأطر المناهج التي وضعتها الوزارة، ولا تخالف الأطر القانونية المنظمة لهذا الشأن، خاصة وأن هناك طلبًا متزايدًا عليها، إلا أن عملية إنتاجها وتوزيعها تتطلب اتخاذ حزمة من الإجراءات التنظيمية التي من شأنها أن تضمن التزام الناشرين بالضوابط التي وضعتها الوزارة، وتقديمها بسعر مناسب.
الحاجة لمزيد من الضوابط
مما سبق، يتضح أن الاعتماد على النظام المركزي في إنتاج وتوزيع الكتب الدراسية في مصر يثير عدة انتقادات، أبرزها: (1)جمود المادة المقدمة في الكتب دون تطوير لفترات طويلة؛ وإن كان ذلك قد تغير في المرحلة الابتدائية بعد تطوير مناهج الصفوف من الأول حتى السادس. (2)التأخر في توزيع الكتب على الطلاب بما يفسح المجال أمام مراكز الدروس الخصوصية لفرض كتب خارجية بعينها على الطلاب. (3)انتشار كتب خارجية غير مصرح بنشرها من قبل الوزارة؛ وقد أصبح واضحًا أن ارتفاع الطلب المجتمعي على الكتب الخارجية كمواد تعليمية مكملة للكتاب المدرسي جعل التخلص من هذه الظاهرة في وقت قريب أمرًا صعبًا في ظل تراجع مستوى الخدمة التعليمية داخل المدارس الحكومية، والاعتماد على نظام التقييم المرتكز على الامتحانات بشكل شبه كلي في صفوف النقل، وكلي في الشهادتين الإعدادية والثانوية؛ الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى إقرار تشريع ينظم تأليف وطباعة ونشر وتوزيع الكتب الخارجية آخذًا في الاعتبار التزام مؤلفي تلك الكتب بأطر المناهج الصادرة عن وزارة التربية والتعليم، والتزام الناشرين بأسعار محددة تتناسب مع حجم كل كتاب لكل مرحلة تعليمية، وتحديد مواعيد طرح تلك الكتب للطلاب بما يتماشى مع مواعيد بدء وانتهاء العام الدراسي، على أن تتخذ الوزارة خطوات جادة نحو التحول الحذر والتدريجي لنظام السوق الحر فيما يتعلق بالكتب الدراسية، ومنح المدارس أو الإدارات التعليمية الحرية في اختيار الكتب التي يتم تدريسها، وتحديد طرق التمويل اللازمة لتنفيذ هذا التحول دون مشكلات مستقبلية.