في ظل تصاعد التحديات والأزمات التي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي بشكل عام وقطاع الشحن بصفة خاصة، عاد البحر الأحمر على مدار الأيام السابقة للظهور كمسرح للتنافسات الجيوسياسية العالمية ليضيف متغيرًا جديدًا يهدد سلاسل الإمداد والتوريد إلى جانب المتغيرات التي نشأت مؤخرًا كانخفاض منسوب المياه في قناة بنما، وتفاقم الظواهر المناخية المتطرفة، عطفًا على إبرام اثيوبيا اتفاقية مع أرض الصومال لتأمين منفذ على البحر الأحمر. ومن شأن اضطراب قطاع الشحن البحري أن يفاقم حدة الأزمات التي تواجه الاقتصاد العالمي نظرًا لارتفاع أسعار الشحن، واضطراب حركة التجارة العالمية بما سيؤدي إلى خلق موجات تضخمية جديدة، وتباطؤ النشاط الاقتصادي.
تحديات متتالية
يواجه قطاع الشحن العالمي تحديات متعاقبة منذ انتشار جائحة كورونا عام 2020 وحتى الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت عام 2022 وتسببت في أزمات واسعة النطاق، سواء على المستوى الكلي أو المستوى الجزئي، حيث فاقمت اضطرابات سلاسل التوريد التي كانت لا تزال تتعافى بصورة هشة من ارتدادات أزمة كورونا، مما أسفر عن حدوث حالة من عدم الانتظام في أحوال الشحن العالمي، بسبب ارتفاع أسعار الشحن بشكل غير مسبوق نظرًا لارتفاع أسعار الحاويات وأسعار النفط والوقود، وتعليق شركات الخدمات اللوجستية خدماتها، وتعطيل حركة التجارة مع روسيا وأوكرانيا –اللاعبين الرئيسيين في سوقي الطاقة والغذاء- فضلًا عن تعرض بعض السفن للقصف في منطقة البحر الأسود.
ولكن ما شهده قطاع الشحن منذ نهاية عام 2023 هو التحدي الأصعب، لا سيما في ظل تصاعد الأزمات الاقتصادية العالمية كنقص المعروض من السلع الأساسية، وارتفاع معدل التضخم العالمي، وتباطؤ النشاط الاقتصادي، وفيما يلي أبرز مهددات سلاسل الإمداد والتوريد:
• هجمات الحوثيين: شنت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات في الثاني عشر من يناير 2024 ضد أهداف لجماعة الحوثي في اليمن، حيث قصفت نحو 60 هدفًا في 16 موقعًا تابعًا للحوثيين، منها مركز قيادة وذخيرة وقواعد مرتبطة بالمسيرات والصواريخ الباليستية والرادارات، وذلك للرد على الهجمات المتكررة التي بدأتها الجماعة على السفن التي تعبر البحر الأحمر منذ نهاية ديسمبر 2023، احتجاجًا على الحرب الإسرائيلية في غزة. وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أن واشنطن ستواصل الرد إذا استمر الحوثيون في مهاجمة السفن في البحر الأحمر مما ينذر باتساع دائرة الصراع في المنطقة. وبناءً على ذلك، أوقفت ثمانٍ من أكبر عشر شركات لسفن الحاويات حركة المرور في البحر الأحمر، من بينها “ميرسك” و”بريتش بتريلوم”، و”هاباغ لويد”، وتسيطر تلك الشركات على 61% من إجمالي قدرة الشحن العالمي.
• الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال: أبرمت إثيوبيا في الأول من يناير 2024 اتفاقًا مع إقليم “أرض الصومال” للوصول إلى البحر الأحمر تمهيدًا لإقامة قاعدة بحرية تجارية إثيوبية بالقرب من ميناء بربرة لمدة 50 عامًا، مقابل حصول “أرض الصومال” على حصة قدرها 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية. وتكمن أهمية الاتفاقية لإثيوبيا في محورية البحر الأحمر بالنسبة للاقتصاد الإثيوبي، لا سيما أنها تعاني من كونها دولة حبيسة منذ تسعينيات القرن الماضي. ومن جهتها، قالت الحكومة الصومالية: إنها ستتصدى لهذه الاتفاقية بكافة الوسائل القانونية، كما طلبت من الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عقد اجتماعات حول هذه القضية، واستدعت سفيرها لدى إثيوبيا للتشاور.
• جفاف قناة بنما: تواجه قناة بنما تحديًا منذ نهاية عام 2023 بسبب موجة جفاف تضرب بحيرات ألاخويلا وجاتون، مما شكل أزمة جديدة لقطاع الشحن العالمي، وتهديدًا لانتظام حركة الملاحة، خاصة وأن 3% من حجم التجارة العالمية يمر من القناة، إلى جانب 46% من الحاويات التي تنتقل من شمال شرق آسيا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
وكان المعدل اليومي لعبور السفن عبر قناة بنما 37 سفينة في مايو 2023، ومع تراجع منسوب المياه، قررت الهيئة تخفيض الطاقة الاستيعابية بشكل تدريجي، لتصل إلى 22 سفينة يوميًا بحلول نهاية ديسمبر 2023، إلا أن هيئة قناة بنما قد أعلنت أنها ستسمح بنحو 18 سفينة فقط للعبور يوميًا بحلول فبراير 2024. كما تدرس الهيئة إجراء عدد من الإصلاحات لمواجهة حالة الجفاف الشديد عبر إنشاء بحيرة صناعية لضخ المياه إلى القناة أو استمطار السحب لزيادة هطول الأمطار، إلا أن كلا الخيارين سيستغرقان سنوات لتنفيذهما، إذا كانا ممكنين.
• الظواهر المناخية المتطرفة: يركز تقرير المخاطر العالمية لعام 2024 والصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي على أن المخاطر البيئية هي الخطر الأكبر الذي يواجه العالم على المدى الطويل (10 أعوام)، وكان من أبرزها انهيار النظام البيئي، ونقص الموارد الطبيعية. وبطبيعة الحال، تؤثر هذه المخاطر على حركة الملاحة العالمية، نظرًا لازدياد حالات الفيضانات والأعاصير أو انتشار حالات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة فوق المستويات الطبيعية. ووفقًا لدراسة صادرة عن معهد “أر. تي. أي إنترناشيونال“، فمن الممكن أن تتكلف صناعة الشحن خسائر قدرها 10 مليارات دولار سنويًا بحلول عام 2050 بسبب التغيرات المناخية وحدها؛ إذ يُعد قطاع الشحن البحري أحد القطاعات الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ.
انعكاسات كارثية
يسيطر الشحن البحري على نحو 90% من التجارة العالمية، ومن المتوقع أن يتضاعف حجم التجارة البحرية ثلاث مرات بحلول عام 2050، لذا، فإن أي اضطراب يحدث لهذا القطاع سيترتب عليه عدد من الارتدادات على قطاع الشحن بشكل خاص، والاقتصاد العالمي بشكل عام، إعمالًا بمبدأ “تأثير الدومينو”، وتتجلى تلك الانعكاسات على النحو الآتي:
• ارتفاع أسعار الشحن: تؤثر الأزمات سالفة الذكر على أسعار الشحن العالمية وتكلفة التأمين على السفن مما يزيد من التكلفة الإجمالية لشحن السلع من دولة إلى أخرى، حيث إنه من المتوقع أن تكلف إعادة توجيه السفن لمسارات أخرى ما يصل إلى مليون دولار من الوقود الإضافي لكل رحلة ذهابًا وإيابًا بين آسيا وشمال أوروبا.
وارتفعت أسعار الشحن من آسيا إلى شمال أوروبا بأكثر من الضعف لتتجاوز 4000 دولار لكل حاوية 40 قدمًا خلال الأسبوع الأول من يناير 2024، مع ارتفاع الأسعار من آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط إلى 5175 دولارًا، كما قفزت أسعار الشحنات من آسيا إلى الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية بنسبة 55% لتصل إلى 3900 دولار لكل حاوية سعة 40 قدمًا. وصعد مؤشر شنغهاي القياسي للشحن بالحاويات كما يتبين من الرسم أدناه:
الشكل 1 – مؤشر شنغهاي القياسي للشحن بالحاويات (نقطة)
Source: China – Shanghai Export Containerized Freight Index.
يتبين من الشكل السابق أن المؤشر ارتفع بأكثر من 16% على أساس أسبوعي في الثاني عشر من يناير 2024، وحوالي 113.8% على أساس سنوي إلى 2206.03 نقاط، وهو أعلى مستوياته في عام، مقابل 1031.42 نقطة في الأسبوع نفسه من شهر يناير عام 2023، ورغم ذلك، فأن المؤشر لم يصل بعد إلى المستويات القياسية التي سجلها في عامي 2020 و2021 عند 5097.36 نقطة.
• اضطراب حركة التجارة العالمية: تتجنب السفن عادة حركة الملاحة في الممرات التي تعاني من اضطرابات، ولهذا تم تغيير مسار مئات من سفن الحاويات والسفن الأخرى حول رأس الرجاء الصالح بجنوب أفريقيا مما يضيف وقتًا إضافيًا لمدة الرحلات الطبيعية بحوالي 7 أيام إلى 20 يومًا، وهو ما يزيد أيضًا من تكاليف استهلاك الوقود والتشغيل فضلًا عن تكاليف التأخير بالنسبة للمصدرين والمستوردين والمستخدمين النهائيين، ويُمكن الاستعانة بالخرائط التوضيحية الآتية لعرض المسافة الإضافية التي سوف تقطعها السفن من أجل المرور عبر رأس الرجاء الصالح:
ومن شأن تأخير السفن عن موعد وصولها وتحويل مسار سيرها، أن يتسبب في حدوث اضطراب كبير في التجارة العالمية، حيث أظهرت أحدث بيانات مؤشر “كييل – Kiel ” التجاري لشهر ديسمبر 2023، الذي يصدره معهد كييل الألماني، أن التغييرات الأخيرة التي طرأت على قطاع الشحن تسببت في انخفاض حجم الحاويات المنقولة بالبحر الأحمر بأكثر من النصف، أو بحوالي 70% تقريبًا، كذلك انخفضت التجارة العالمية بنسبة 1.3% في الفترة من نوفمبر 2023 إلى ديسمبر 2023.
• صعود أسعار النفط: أسفر ارتفاع استهلاك الوقود المرتبط بتحويل مسار السفن لرأس الرجاء الصالح مع تزايد احتمالية حدوث تعطل في إمدادات النفط إلى ارتفاع أسعار الخام الأمريكي وخام برنت، كما يوضح الشكل الآتي:
الشكل 2- سعر الخام الأمريكي وخام برنت يوميًا (دولار للبرميل)
Source: Energy Information Administration (EIA (, Spot Prices.
يتبين من الشكل السابق أن أسعار النفط الفورية قد ارتفعت في ختام تعاملات يوم الجمعة الثاني عشر من يناير 2024 مع تقييم الأسواق توقعات ارتفاع الطلب على الخام، في ظل تجدد مخاوف نقص الإمدادات، حيث صعد سعر الخام الأمريكي إلى 72.26 دولارًا للبرميل فيما ارتفع سعر خام برنت إلى 78.32 دولارًا للبرميل، ولكن تجدر الإشارة إلى أن أسعار النفط تتأثر بعوامل أخرى بخلاف تطورات قطاع الشحن العالمي، كاستمرار الصراع في غزة، وتوقعات الطلب الصادرة عن الوكالات الدولية، وبيانات المخزونات الأمريكية إلى جانب قرارات منظمة “أوبك +” خاصة في ظل استمرار السعودية وروسيا في اتباع نهج خفض إنتاج النفط.
• موجة تضخمية جديدة: يتبين من التحليل السابق أن أزمات سلاسل الإمداد والتوريد تؤثر على المعروض من السلع بسبب تأخير وصول السلع في موعدها وتكدسها في الموانئ، بالتزامن مع استمرار الطلب في الارتفاع مما سيؤدي إلى خلق المزيد من الضغوط التضخمية على الاقتصاد العالمي، فخلال جائحة كورونا، قدر صندوق النقد الدولي أن اضطرابات سلاسل التوريد العالمية أضافت وحدها نحو 1% إلى معدل التضخم، وحوالي 25% إلى فاتورة واردات الدول.
وبناء على ذلك، من المرجح أن يؤدي تعطيل سلاسل التوريد العالمية إلى ارتفاع التضخم ورفع أسعار السلع الأساسية، مما قد يمثل عبئًا إضافيًا على الدول النامية والناشئة المعتمدة على الخارج في تأمين احتياجاتها والتي تعاني من عجز تجاري يؤثر على قيمة عملتها المحلية.
• قيود على قطاع السيارات: فرضت أزمات سلاسل الإمداد والتوريد العالمية قيودًا جديدة على قطاع السيارات خاصة في أوروبا التي تعتمد على القارة الآسيوية في المكونات التكنولوجية اللازمة لصناعة السيارات، وفي هذا الشأن، أعلنت شركتا “تسلا” و”فولفو” تعليق الإنتاج مؤقتًا في بعض مصانعهما الأوروبية بسبب نقص الإمدادات، وصرح “إيلون ماسك”، الرئيس التنفيذي للأولى، أن التوقف المؤقت في الفترة من 29 يناير 2024 إلى 11 فبراير 2024 قد يؤدي إلى عدم تصنيع ما بين 5000 إلى 7000 سيارة.
• زيادة البصمة الكربونية: لا تقتصر التداعيات الناتجة عن الأزمات العاصفة بقطاع الشحن على الجانب الاقتصادي فحسب، بل إنها تمتد إلى نظيره البيئي، حيث يُعد قطاع النقل البحري إحدى أكثر الصناعات تلويثًا في العالم، كونه يساهم بحوالي 3% من جميع انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، ولارتفاع الانبعاثات الدفيئة الناتجة عن هذا القطاع بنسبة 20% خلال العقد الماضي. وفي حين أن نسبة 3% قد لا تبدو نسبة مؤثرة، إلا أن نمو الطلب على الشحن بجميع أنحاء العالم قد يؤدي إلى تسارع الانبعاثات الحرارية بشكل أسرع مقارنة بمعظم القطاعات الأخرى، وفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية. وتهدف المنظمة البحرية الدولية، إلى خفض انبعاثات السفن إلى النصف بحلول عام 2050 حتى لا يصبح قطاع الشحن البحري مسئولًا عن نسبة تتراوح بين 10% إلى 13% من الانبعاثات العالمية، ولهذا، فإن المرور عبر مسارات أطول سيزيد من بصمة القطاع الكربونية، نظرًا لحرق السفن كمية أكبر من الوقود بسبب ازدياد المسافة.
استخلاصًا لما سبق، أضافت التوترات الجيوسياسية والمناخية تحديًا جديدًا لجملة التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي كونها ألقت بظلالها على قطاع الشحن العالمي الذي يُعد حلقة وصل بين دول العالم أجمع، ويعمل بمثابة حجر الأساس الذي يجمع بين أطراف متعددة في سلسلة التوريد الدولية. ولهذا، فإن أي أزمات تواجه هذا القطاع من شأنها أن تؤثر على الاقتصاد والتجارة العالمية.