اعتمدت قوات حلف الناتو خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات استراتيجية “Air/ Land Battle”، والتي اعتمدت في المقام الأول على مهاجمة خطوط العدو الخلفية بضربات تكتيكية دقيقة بواسطة الذخائر الموجهة لإفقاد العدو توازنه، من خلال التركيز على مهاجمة مراكز القيادة، وشبكات الاتصالات، وعرقلة دائرة اتخاذ القرار بواسطة الذخائر الموجهة مع مرونة كافية للقيام بالعديد من المناورات الهجومية للقتال في عمق قوات الخصم، وقد تم استغلال مواطن الضعف في الاستراتيجية السوفيتية المتمثلة في:
* الجمود التكتيكي: المتمثل في دائرة اتخاذ القرار، والتي تمنع أي طريقة لتعديل الأوامر العسكرية أو المراحل التكتيكية لتنفيذ المهمات بسبب التداخل المباشر من مراكز القيادة في كل تفاصيل المهمات، وتحد أي نوع من الابتكار، والتطوير؛ مما يساعد الخصم على توقع الأداء للقوات العاملة في مسرح العمليات.
* سوء العمل بقوات النسق الثاني: حيث يتم تحديد المهمات، وبناءً عليها يتم استدعاء قوات الاحتياط، ووضع التشكيل القيادي لهم، ويتم تدريبهم بناءً على المهمات المحددة، ومن ثم يتم نشرهم عادة على الخطوط الأمامية للمعركة الدفاعية أو الهجومية مما يحد من قدرتهم على تطوير الهجوم أو نجاح مجهوداتهم في الخطوط الدفاعية بشكل مستمر.
* الضعف التقني: على الرغم من التطويرات خلال عقدين من الزمان، إلا أن المنظومات السوفيتية لم تكن على المستوى المكافئ لمنافستها الغربية آنذاك، وبالأخص في جودة الذخائر للمدفعية، وأنظمة الدبابات، والطائرات.
ولكن منذ بداية حقبة الألفية كان التكيف الشرقي حاضرًا، وبالأخص بعد مراقبة أداء الناتو في معارك يوغوسلافيا والعراق، ليتم العمل على استراتيجية جديدة بمفهوم جديد يعرف باسم “Anti Acess/ Area Denial- A2/ AD” أو “منع الدخول وإنهاء الوجود”، والتي كان لها أثر كبير في حتمية تغيير الناتو بشكل سريع لاستراتيجياته القديمة، والعمل على مفهوم استراتيجي جديد منذ عام 2010، وليظهر بشكله النهائي في عام 2013 “Air Sea Battle -ASB” المقتصر على العمليات “الجوية والبحرية” فقط ويتم تطويره عام 2015 إلى مفهوم أكثر شمولًا ” Joint Access and Maneuver Concept for the Global Commons “(JAM-GC) بعدما انضم الجيش الأمريكي، ومن الممكن توضيح هذه الاستراتيجيات من خلال النقاط الآتية:
1- مفهوم A2/AD “منع الدخول وإنهاء الوجود”.
2- استراتيجية “ASB”.
3- تطوير مفهوم العقيدة المشتركة (JAM-GC).
1- مفهوم “منع الدخول وإنهاء الوجود”.
* منع الدخول- A2: هو مجموعة الإجراءات التي من شأنها إبطاء حضور القوات الصديقة لمسرح العمليات أو حتى العمل من مسافات بعيدة.
* إنهاء الوجود- AD: هو مجموعة الإجراءات التي من شأنها إعاقة عمليات المناورة للقوات الصديقة داخل مسرح العمليات.
ولكي تنجح الاستراتيجية الشرقية الجديدة “روسيا والصين، وإيران، وكوريا الشمالية.. إلخ” بالشكل الكامل يجب امتلاك القدرات الآتية أو بعض منها:
1- امتلاك وسائل لتدمير أو إعاقة الأقمار الصناعية للناتو التي تستخدم للملاحة أو التوجيه للذخائر أو الاستطلاع.
2- المنظومات المتطورة للحرب الإلكترونية، والسيبرانية من الإعاقة، والتشويش والعزل، والتنصت على الاتصالات أو الرادارات.
3- امتلاك وسائل الرصد، والاستطلاع بمختلف أنواعها بمدى بعيد من منظومات جوية، وبرية وبحرية.
4- امتلاك آلاف الذخائر، والصواريخ الموجهة بدقة عالية بمختلف أنواعها بمدى بعيد، وتطلق من العديد من المنظومات البرية، والبحرية والجوية.
5- الاهتمام الكبير بسلاح الغواصات، وتعزيز قدراتها بإمكانية إطلاق صواريخ الكروز والمضادة للسفن.
6- امتلاك شبكة دفاعية طبقية “IADS” للدفاع الجوي من منظومات متحركة “GBADs” للتعامل مع الأهداف البعيدة، والقريبة، ويتم تدعيمهم بواسطة مقاتلات الدفاع الجوي، والسيطرة الجوية.
7- الاهتمام بتطوير غرف القيادة، والسيطرة “C 2” ذات الألياف الضوئية العاملة بوصلات البيانات “Data Links” للتنسيق بين التشكيلات الجوية، والأرضية والبحرية.
8- تطوير القدرات الجوية للقيادة، والسيطرة، والاستطلاع لتنسيق العمليات الهجومية مثل القتال الجوي والاستهداف.
9- امتلاك غواصات لإطلاق الصواريخ الباليستية ذات الرءوس التدميرية التقليدية أو النووية.
10- تأمين الحدود البحرية بآلاف الألغام مختلفة الأنواع.
تزداد فرص النجاح للقوات العاملة بهذه الاستراتيجية، في حالة البدأ بالعمليات الهجومية؛ مما يمثل خطرًا على القوات الصديقة في الخطوط الأمامية أو الحلفاء الذين سيكونون بشكل مباشر في مواجهة القوات المعادية آنذاك، وسيكون الغرض الأول لقوات الخصم هو إحباط قوات الدعم للحلفاء أو حتى القدرة على إحداث نتيجة فعالة من خلال الضربات بعيدة المدى، بجانب الحصول على الزخم القتالي المناسب، والنجاح في عملية تشتيت المجهود القتالي لقوات الناتو عن طريق فتح أكثر من جبهة قتالية في وقت واحد.
2- استراتيجية “ASB” وتطوير مفهوم “العقيدة المشتركة- JAM-GC”
الفكرة الرئيسية: يعتبر المفهوم الاستراتيجي الجديد هو الحل الأمثل (من وجهة نظر حلف الناتو) للرد على الاستراتيجية الشرقية، من خلال تطوير قدرات الترابط، والدمج ما بين أفرع الجيش المختلفة عبر مختلف الأبعاد “الجو والأرض والبحر والفضاء”، للعمل على مهمات هجومية في عمق العدو “NIA”، لتحقيق الأهداف الثلاثية، وهي الإعاقة والتدمير والهزيمة “D3” للقدرات الدفاعية للخصم “A2/ AD”، للسماح للقوات الحليفة من العمل بحرية للهجوم أو الدخول، والمناورة في مسرح العمليات.
وتنجح بواسطة تحقيق 3 أهداف رئيسية تتمثل في:
1- تعطيل قدرات القيادة، والسيطرة، والاستطلاع والرصد “C4ISR” للخصم.
2- تدمير القدرات الدفاعية للخصم.
3- تحييد المنظومات التسليحية التي يتم إدخالها للميدان.
ويتم تحقيق هذه الأهداف من خلال مرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى: بداية العمليات العسكرية، وتنقسم إلى:
* الصمود أمام الهجمات الأولية على الخطوط الأمامية أو الخلفية لقوات حلف الناتو أو القوات الحليفة، مع تخفيف حدة الخسائر بواسطة الوسائل الدفاعية أو المناورات.
* تقديم ضربات مضادة لأهداف تم تحديدها مسبقًا، وتتمثل في غرف قيادة أو أهداف حيوية من شئنه عرقلة العمليات.
* تقديم ضربات على الترسانة الصاروخية الهجومية للخصم المتمثلة في الصواريخ الباليستية.
* البدء بمجهود قتالي لاسترداد زمام المبادرة في الجو، والبر والبحر والفضاء.
المرحلة الثانية “عمليات ملحقة”: غرضها خلق خيارات أفضل في حالة المفاوضات للحصول على أفضل مكاسب ممكنة للخصم، وتشمل:
* التوسع في العمليات القتالية لاستدامة المبادرة في “الجو والبر والبحر”.
* القيام بعمليات الحصار سواء كان بواسطة القوات أو بالعقوبات الاقتصادية.
* استدامة الدعم اللوجستي بالتوازي مع العمليات القتالية.
* زيادة الإنتاج العسكري، وبالأخص في حالة “الذخائر الموجهة”.
ولتظهر النسخة الأحدث والأشمل في عام- 2015 التي تعرف بـ”Joint Access and Maneuver Concept for the Global Commons”.
وهو عبارة عن تطوير للمفهوم السابق “ASB”، ليس مقتصرًا على عدو أو مسرح عمليات محدد، وقد كان نتاج الكثير من المناورات الحربية للجيش الأمريكي، والمحاكاة لكثير من السيناريوهات بطريقة إلكترونية، ويركز في الأساس على هزيمة خطة العدو الأساسية، وليس فقط حرمانه من قدرات “A2/ AD” العملياتية من خلال استغلال كافة الوسائل ذات التقنيات المتطورة، وغير المتطورة حسب وجودها في مسرح العمليات، وبفاعلية قتالية كبيرة مع مراعاة جانب التكلفة، وقد أضاف المفهوم الجديد مواصفات أساسية لقوات الناتو تمكنها من النجاح في الميدان وهي:
* أن تكون لديها القدرة على الانتشار، والعمل من خلال قواعد، ونقاط فرعية، وليس فقط الالتزام بالقواعد الأساسية، ولكن مع الاحتفاظ بإمكانية المناورة لتقديم الزخم القتالي المطلوب عند الطلب.
* القدرة على التعافي السريع عند النكسات لتنظيم الصفوف، والرد بعمليات هجوم مضاد أو التماسك لتقليل الخسائر.
* قابلة للتخصيص في أي هيكل قيادي بشكل مؤقت أو دائم لتنفيذ مهام مختلفة، ويتم اكتساب هذه الميزة من خلال التدرب على الكثير من المهمات لإكساب المقاتلين الخبرة اللازمة للعمل ضمن تشكيلات وتجهيزات مختلفة.
* أن تمتلك قدرة استيعابية أكبر لاستخدام الكثير من المعدات العسكرية أو المدنية “التجارية”، والدمج بينها للقيام بالكثير من الأدوار، ومن أمثلة هذه المعدات التجارية “المُسيّرات”.
* استدامة القدرات اللوجستية حسب التوقيت الزمني المتوافق مع سير العمليات القتالية.ختامًا، التكيف القتالي هو العنوان الرئيسي لكل المفاهيم الاستراتيجية المذكورة. فكلا المعسكرين قد تعلموا من الدروس السابقة خلال الحرب الباردة، والتحديث السريع للمنتجات العسكرية، ومن خلال مراقبة بعضهم البعض، ليتم العمل على تأسيس مفاهيم جديدة تضمن استخدام كافة الوسائل المتاحة من أجل فرض قواعد الاشتباك على الخصم، لضمان الفاعلية القتالية، وبكل تأكيد فإن عملية التطوير ستستمر بمرور الوقت، وسينتج عنها منظومات تسليحية بشكل أقوى وأكثر فتكًا، ولكن عادة ستكون التجربة لهذه المنظومات هي حروب فرعية بين حلفاء، وليست مباشرة بين المعسكر الشرقي والغربي، ولكن هل ستُكسر هذه القاعدة الآن؟