ارتبطت صورة نظام التعليم المنزلي في مصر بالطلاب الذين رسبوا لأكثر من عامين أو أولئك الذين التحقوا بسوق العمل دون إنهاء مرحلة تعليمية معينة –غالبًا ما كانت المرحلة الإعدادية أو الثانوية- أو الحاصلين على شهادات الدبلوم الفني الراغبين في الحصول على الثانوية العامة للالتحاق بالتعليم الجامعي، الأمر الذي أدّى إلى ترسيخ نظرة مجتمعية سلبية للنظام المعروف وسط الفئات الاجتماعية المختلفة بنظام “المنازل”؛ إلا أن مفهوم التعليم المنزلي يتجاوز المعنى الضيق للحصول على شهادة إتمام الدراسة في مرحلة تعليمية معينة إلى نظام متكامل يحقق أهداف الأسرة في تعليم أبنائها، وقد يمثل حلًا لعدد من مشكلات النظام التعليمي المصري إذا ما تم وضع الضوابط الصحيحة وإنفاذها بشكل قانوني في ظل واقع انقطاع الطلاب عن المدارس في المرحلتين الإعدادية والثانوية.
لماذا تلجأ الأسر للتعليم المنزلي؟
يعد التعليم المنزلي نهجًا تعليميًا بديلًا يرتكز على تولي الوالدين مسئولية تعليم أبنائهم خارج إطار المدارس بشكلها التقليدي، وغالبًا ما يتضمن مناهج دراسية تتناسب مع احتياجات الأطفال الفردية وأساليب تعلمهم الخاصة؛ ويتم تقديم تلك المناهج عن طريق الآباء أنفسهم، أو من خلال برامج عبر الإنترنت، أو بمساعدة مدرسين خصوصيين، كما أن الآباء قد يلجئون لتكوين تجمعات تعاونية من عائلات مختلفة يتناوب فيها الآباء على تدريس مواد معينة للأطفال، أو يدفعون لمدرس خاص إذا افتقروا للخبرات اللازمة في مادة أو أكثر. علاوةً على ذلك، فإن تسجيل الطالب في مدرسة ما بشكل جزئي هو أحد أشكال التعليم المنزلي التي يلجأ إليها الآباء لضمان مستوى تعليمي أفضل لأبنائهم.
شكل (1)
أشكال التعليم المنزلي
وفي معظم الأحوال، ينظر الآباء إلى التعليم المنزلي على أنه خيار أفضل بسبب عدم رضاهم عن خيارات التعليم التقليدية المتاحة، حيث يعتقد البعض أن المدارس التقليدية غير قادرة على تلبية احتياجات جميع المتعلمين، في حين يستهدف هؤلاء الآباء توفير تجربة تعليمية تتناسب مع قدرات أبنائهم وسرعتهم في التعلم. الدافع الثاني يتمثل في المرونة التي يتمتع بها التعليم المنزلي، حيث يمكن للآباء تنسيق جدول الدراسة ليتناسب مع الأنشطة الحياتية الأخرى؛ كما يعتبر بعض الآباء أن الاعتماد على التعليم المنزلي يمكنهم من تعزيز علاقاتهم مع أبنائهم، ويحمي الأبناء من كافة أشكال التنمر والعنف التي قد يتعرضون لها في المدارس.
شكل (2)
أسباب لجوء الأسر للتعليم المنزلي
وعلى الرغم من توجيه النقد للتعليم المنزلي بسبب إمكانية أن يفقد الأطفال القدرة على التواصل الاجتماعي، إلا أن التجمعات التعاونية بين العائلات المختلفة توفر فرصًا كافية لتفاعل الأطفال مع أقرانهم والقائمين بالتدريس، بما يعزز مهاراتهم على التواصل وتكوين شبكات اجتماعية. يُضاف إلى ذلك أن التعليم المنزلي حظي باهتمام واسع النطاق في مختلف الدول أثناء فترة غلق المدارس بسبب جائحة كوفيد-19، وقد ساعد الاعتماد الكبير على التكنولوجيا في التعليم خلال تلك الفترة على زيادة رغبة الآباء في تعليم أبنائهم من المنزل.
التعليم المنزلي بين الانتشار الواسع والتحجيم
تنتشر ظاهرة التعليم المنزلي بشكل واسع في عدد من دول العالم، إلا أنها بلغت أعلى مستوياتها في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ارتفع عدد الطلاب الذين يدرسون منزليًا في جميع المراحل الدراسية من 2.3 مليون طالب في 2016 إلى 3.7 ملايين طالب خلال 2021، ثم انخفض العدد إلى 3.1 ملايين طالب في 2022 بما يمثل حوالي 6% من إجمالي عدد الأطفال في سن الدراسة في مختلف الولايات الأمريكية؛ ولكن السبب وراء هذا العدد الكبير قد يرجع إلى التعددية العرقية في المجتمع الأمريكي، حيث أشارت دراسة أجريت على المستوى الوطني في 2019 إلى أن 41% من الطلاب الذين يدرسون منزليًا هم من السود والآسيويين، ورغبة نسبة لا بأس بها –تقدر بحوالي 16%- من أولياء الأمور في تقديم تعليم ديني لأبنائهم؛ بالإضافة إلى أن وجود إطار قانوني حاكم لهذا النوع من التعليم ساهم في نمو ظاهرة التعليم المنزلي، ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن أيضًا في دول مثل النمسا وأستراليا وكندا وتشيلي ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة.
على الجانب الآخر، هناك عدد من الدول التي لا تسمح بالتعليم المنزلي على المستوى الوطني وتعتبره مخالفًا للقانون مثل البرازيل والصين وفرنسا وألمانيا، ولكنها تسمح بحالات قليلة من التعليم المنزلي وفق قيود مشددة أو شروط خاصة؛ فترفض تلك الدول التعليم المنزلي خوفًا من تكوين مجتمعات ذات أيديولوجيات موازية، أو تنمية التطرف الديني أو السياسي، أو تنمية النزعة الانفصالية لدى النشء؛ ومع ذلك، يتم تقديم شكل أو أكثر من التعليم المنزلي بطريقة غير رسمية.
أما التوجه الثالث، فيبدو واضحًا في معظم دول الشرق الأوسط وبعض دول أوروبا وآسيا التي لم تحظر التعليم المنزلي بشكل قانوني، إلا أنها لا تشجعه ولا تشرف عليه، كما أن اللوائح والتشريعات المنظمة لهذا النوع من التعليم إما غير موجودة أو محدودة، كما هو الحال في الدول العربية باستثناء الإمارات التي بدأت في تقنين التعليم المنزلي بشروط محددة منذ 2019، وتتميز تجربة الإمارات بكونها تقبل تسجيل الطلاب في مسار التعليم المنزلي بدايةً من الصف السابع وحتى الثاني عشر، أي بعد أن يكون الطلاب قد اكتسبوا القدرة على التعلم الذاتي، مع التزام وزارة التعليم الإماراتية بتقديم الكتب والمواد التعليمية لكل الطلاب وإجراء اختبارات نهاية الفصل أو العام الدراسي لهم.
التعليم المنزلي في مصر
بمراجعة قانون التعليم وبعض القرارات الوزارية، يتضح أن مفهوم التعليم المنزلي في مصر يختلف كثيرًا عما هو معمول به في الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا؛ فالأمر هنا يقتصر على “تحويل الطالب لنظام المنازل إذا قلت نسبة حضوره عن 85% من أيام الدراسة الفعلية، أو التقدم بطلب لمدير المدرسة للتحويل لهذا النظام”، ويلتزم الطالب بدراسة المناهج الدراسية المتبعة في المدرسة المسجل بها، ويتقدم للامتحان نفسه الذي يؤديه الطلاب المنتظمون سواء بنهاية الفصل الدراسي أو العام ككل، ويكون ولي الأمر مسئولًا عن متابعة تقدم أبنائه في الدراسة؛ أي أن الاختلاف يكمن فقط في عدم التزام الطالب بالحضور إلى المدرسة.
وعلى الرغم من تصريح وزير التربية والتعليم أثناء القمة العالمية للحكومات في فبراير الماضي بأن عدد طلبة المنازل في مصر كبير جدًا، إلا أن البيانات المتاحة حول هذا النظام غير كافية لتحديد حجم الظاهرة ودوافع الأسر لإلحاق أبنائهم بنظام التعليم المنزلي؛ ولكن إذا كان الفارق الوحيد بين التعليم التقليدي والتعليم المنزلي في مصر هو عدم التزام الطالب بالانتظام في الحضور إلى المدرسة، فقد لا تعبر أعداد الطلاب المسجلة لدى الوزارة عن واقع الظاهرة، حيث يسهل ملاحظة عدم التزام طلاب الصف الثالث من الشهادتين الإعدادية والثانوية العامة بالحضور للمدارس في ظل اعتماد الأسر على معلم خاص أو مركز للدروس الخصوصية لتأهيل أبنائهم لامتحان إنهاء المرحلة، أي أن هناك حوالي 2 مليون طالب يتعلمون منزليًا بغض النظر عن تسجيلهم كطلاب منتظمين في مدارسهم.
هذا فيما يتعلق بالمدارس الحكومية التي تعاني بسبب ارتفاع كثافات الفصول والعجز في أعداد المعلمين بشكلٍ ساهم في تراجع حالة الرضا المجتمعي عن مستوى الخدمة التعليمية ولجوء أولياء الأمور إلى بدائل قد تحقق مستوى تعليميًا أفضل لأبنائهم خاصةً في المرحلة الثانوية. على صعيد آخر، تلجأ بعض الأسر لتسجيل أبنائهم في المدارس الدولية بنظام التعليم المنزلي منذ الصف العاشر أو الأول الثانوي لإعدادهم وتأهيلهم للاختبارات المطلوب اجتيازها للالتحاق بالمرحلة الجامعية، ولكنهم يعتمدون بشكل أساسي على معلم خاص لهذا الغرض. الجدير بالذكر أيضًا أن الفترة الأخيرة شهدت ظهور بعض الأكاديميات والمراكز التدريبية التي تتولى مسئولية تعليم الأطفال بدلًا من الوالدين، على أن يتم تسجيل الأطفال في إحدى المدارس لخوض الاختبارات والحصول على الشهادة.
بديل جيد وفق شروط محددة
من النقاط سالفة الذكر، يتضح أن التعليم المنزلي في مصر لا يشبه نظيره في الدول الغربية، ولا يوجد تشريع واضح لتنظيم هذا النوع من التعليم على الرغم من أنه قد يمثل بديلًا يمكن اللجوء إليه لحل مشكلات عديدة في التعليم قبل الجامعي. على سبيل المثال وليس الحصر، سيسمح تطبيق نظام التعليم المنزلي في الصفين الثالث الإعدادي والثانوي –اللذين تظهر فيهما مشكلة غياب الطلاب- بتخفيف أعباء حوالي مليوني طالب عن كاهل وزارة التربية والتعليم، بما يسمح بإعادة توزيع الموارد المخصصة لهذا العدد للصفوف الدراسية الأدنى، كما سيوفر فصولًا يمكن استغلالها لتقليل كثافة الفصول في المراحل الدراسية الأخرى، ويعيد توزيع أعباء التدريس على المعلمين في المدارس بما يضمن تحمل كل معلم عدد ساعات تدريسية محددة بشكل واقعي، حيث إن تسجيل الطلاب ضمن قوائم المنتظمين يفرض على المدارس توزيع الفصول والجداول الدراسية كما لو كان هؤلاء الطلاب منتظمين في المدارس طوال العام، وهو ما يتنافى مع الواقع.
وللتعرف على واقع الظاهرة في المجتمع المصري وتحديد آليات التعامل معها بشكل دقيق، فإن إتاحة البيانات حول أعداد طلاب نظام التعليم المنزلي في مصر، والصفوف الدراسية التي ترتفع فيها نسبة طلاب المنازل، وتوزيعهم الجغرافي، والمستوى التعليمي والاقتصادي للأسر التي يلتحق أبناؤهم بالتعليم المنزلي يعد أمرًا واجبًا على وزارة التربية والتعليم، بما يسمح لصانعي السياسة التعليمية وللمشرعين بصياغة التعديل المناسب على قانون التعليم لإدراج نظام التعليم المنزلي على قائمة الخيارات المتاحة أمام الطلاب، ويسهل وضع السياسات اللازمة لتفعيله دون إضرار بمصالح الطلاب، ويمنع انتشار ممارسات غير قانونية مثل تلك التي تقوم بها الأكاديميات ومراكز التدريب التي تشهد رواجًا بسبب تفضيل أولياء الأمور لها.
في الأخير، يمكن القول إن وجود تشريع مناسب منظم للتعليم المنزلي إما أن يعيد الطلاب للمدارس، أو يعيد تنظيم وتوزيع موارد الوزارة بما يحسن الخدمة التعليمية في الصفوف الدراسية الدنيا.