كانت حرب غزة بمثابة نوبة إيقاظ نبهت كثيرين فى العالم إلى خطورة ترك القضية الفلسطينية بغير حل. فبعد نحو عقدين منذ آخر محاولة جادة للتوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، يعود الأمريكيون والبريطانيون، وآخرون غيرهم فى أوروبا وخارجها، للحديث عن حل الدولتين، وعن بحث إمكانية الاعتراف بدولة فلسطين بغرض إطلاق قوة دفع فى اتجاه الحل النهائى لصراع طال أمده. هذا كلام جيد، لكن علينا ألا نتعجل الاحتفال أو نبالغ فيه، فالقضية الآن أصبحت أكثر تعقيدا بكثير مما كانت عليه قبل عقدين، والحل الذى فشلنا فى تحقيقه وقتها لن يكون سهل المنال اليوم.
لاحت فرصة نادرة لحل القضية الفلسطينية عندما تم التوصل لاتفاق أوسلو عام 1993. ظلت هذه النافذة مفتوحة حتى عام 2000، لتنغلق تماما منذ ذلك الحين. فى هذه الفترة انسحبت إسرائيل من أراض فلسطينية، وتأسست السلطة الوطنية الفلسطينية، وعاد الآلاف من المناضلين الفلسطينيين لمناطق السلطة لوضع لبنات الدولة، واستعدادا ليوم تقوم فيه الدولة الفلسطينية كاملة الأهلية.
وقتها كانت منظمة التحرير الفلسطينية تتولى تمثيل الفلسطينيين والتحدث باسمهم. كانت حركة حماس تقف خارج إطار منظمة التحرير، لكنها كانت تعمل فى إطار السلطة الفلسطينية وعلى أرضها ووفقا لقواعدها، دون ادعاء حق التحدث باسم الشعب الفلسطيني. وقتها كانت الفصائل الفلسطينية المختلفة تقبل بقيادة الزعيم الوطنى التاريخى ياسر عرفات، الذى لعب، مع رفاقه من مناضلى حركة فتح، دورا محوريا فى بعث وتجسيد وتمثيل الهوية الوطنية الفلسطينية. كانت هناك تعددية سياسية فلسطينية، لكن كانت هناك وحدة وطنية، وقيادة موحدة. لم يعد شيء من هذا موجودا الآن. تصارع الفلسطينيون، وقتلوا بعضهم البعض، وانقسموا، فأصبحت لهم حكومتان، تنفرد كل منهما بحكم جزء من أرض فلسطين.
وقتها كانت إسرائيل مختلفة، تتسم بقدر من التعقل، يمكن التفاهم معها، وصولا إلى حلول وسط. تم توقيع اتفاق أوسلو مع حكومة يقودها حزب العمل، يسار وسط، مدعوما بأحزاب يسارية ووسطية، تتمتع بأغلبية ضئيلة فى الكنيست. وصل حزب الليكود اليمينى إلى الحكم، وعطل المفاوضات، لكن حزب العمل وحلفاءه فازوا بالأغلبية وعادوا للحكم مرة جديدة، واستأنفوا التفاوض مع الفلسطينيين. خرج اليسار الإسرائيلى من الحكم عام 2001، ولم يعد له منذ ذلك الحين، وانخفض تمثيل حزب العمل فى الكنيست إلى أربعة مقاعد. لم يعد للسلام مع الفلسطينيين أنصار بين الأحزاب الإسرائيلية ذات الشأن، ولم تعد إسرائيل التى كانت هناك عند عقد اتفاق أوسلو موجودة، ولم يعد للفلسطينيين شركاء إسرائيليون يمكن العمل معهم للتوصل إلى حلول وسط تضع حدا لهذا الصراع.
وقتها كان الاستيطان الإٍسرائيلى فى الضفة الغربية والقدس خطيرا، لكنه كان مازال على نطاق يمكن التعامل معه. الاستيطان الآن خطر سرطانى، يكاد يلغى إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. فى عام 1993، عندما تم توقيع اتفاق أوسلو، كان عدد المستوطنين الصهاينة فى الضفة الغربية والقدس الشرقية أقل من 265 ألفا، ليصبح عددهم فى عام 2022 أكثر من 733 ألفا. وقتها لم يكن للمستوطنين أى ممثلين منتخبين فى الكنيست، أما الآن فقد أصبحوا قوة سياسية لا يستهان بها، يشارك ممثلوهم المتطرفون فى حكومة رئيس الوزراء نيتانياهو بأكثر من وزير.
قبل ربع قرن كانت إيران دولة معزولة، تضمد جراحها بعد هزيمتها فى الحرب العراقية الإيرانية، تبحث عن طريقة لإقناع دول المنطقة بقبولها بينهم، ويطلق رئيسها دعوات رقيقة لحوار الحضارات. كان حزب الله تنظيما لبنانيا مقاوما مشغولا بإخراج إسرائيل من الجنوب اللبنانى الذى كان مازال محتلا. لقد أصبحت إيران الآن قوة إقليمية تحكم سيطرتها على عدة دول فى المنطقة،وتقف بثقة على العتبة النووية، وأصبح لحزب الله قوة عسكرية ضاربة، ضمن حزمة من الميليشيات التى تأتمر بأمر طهران، وتمد نفوذها من الخليج للبحرين المتوسط والأحمر.
قبل ربع قرن كان عالم القوة والتكنولوجيا العسكرية بسيطا يمكن حسابه، والتحسب له، والتوصل إلى ترتيبات أمنية تتعامل مع مخاطره. وقتها لم تكن الصواريخ بأنواعها قد حققت كل هذا التقدم والانتشار والشيوع. وقتها لم تكن هناك طائرات مسيرة، ولم يكن بإمكان ميليشيا موالية لإيران، من بين تلك الميليشيات الكثيرة الموجودة فى المنطقة قادرة على التدخل عسكريا فى الصراع. لو أن أحدا قبل ربع قرن تحدث عن شمول اليمن فى الترتيبات الأمنية المصاحبة لاتفاق إسرائيلى فلسطينى لأثار السخرية.
قبل ربع قرن كنا فى زمن العولمة والقطب الواحد. وقتها كان بإمكان الولايات المتحدة الانفراد بقيادة المفاوضات بين الفلسطينيين والإٍسرائيليين، وفرض إرادتها لو حسمت أمرها، ولم تكن هناك خيارات كثيرة فيما وراء التعاون مع الأمريكيين أو تجنب الصدام معهم. لم يعد الأمر كذلك فى زمن التعددية القطبية، وفى زمن تكون فيه حزام عريض من القوى المناوئة للولايات المتحدة، يمتد من بحر الصين حتى الشرق الأوسط.
لقد أصبحت القضية الفلسطينية مائة مرة أكثر تعقيدا مما كانت عليه، وليس لنا أن نتوقع حلا سريعا لها. حل القضية الفلسطينية ليس مستحيلا لكنه شديد الصعوبة، وسوف يكون علينا أن نواصل إدارة هذا الصراع لفترة طويلة قادمة، حتى يتم إنضاج الظروف المواتية للحل، وتنفتح نافذة جديدة للتسوية. أتمنى ألا تكون هذه الرؤية الواقعية قد لامست حد التشاؤم.