مع دخول الحرب السودانية المندلعة بين رئيس المجلس الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حميدتي (دقلو) شهرها العاشر، سجلت ساحة القتال تطورات جوهرية، لا سيما خلال الأشهر الأخيرة من العام 2023، تمثلت في تمدد الحرب إلى مناطق سودانية كانت تنعم بالاستقرار، كما تعرضت قوات الجيش السوداني لسلسة هزائم متتالية، بل وغالبًا ما انسحبت من قواعدها وتركت مدنًا بلا دفاع في مواجهة تقدم قوات الدعم السريع مثلما هو الحال في ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة. ومن ثم، يُمكن القول إن قوات الدعم السريع تمكنت من قلب ميزان الحرب لصالحها خلال ما يُمكن وصفه بالمرحلة الأولى من الحرب التي انتهت بسيطرة قوات حميدتي على ود مدني، لتكون بداية مرحلة جديدة من الحرب. لكن على الرغم من ذلك، لا يزال يتمسك الجيش السوداني بسلاحه ويتصدى لتقدم قوات الدعم السريع في عدة مناطق متفرقة في السودان، ويسعى جاهدًا لاستعادة سيطرته على المناطق المسيطر عليها من قبل قوات الدعم السريع.
انطلاقًا مما سبق، تهدف المقالة لتناول التطورات الميدانية للحرب عبر رصد مناطق نفوذ وسيطرة كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ومناطق الاشتباك البارزة، بالإضافة إلى تناول التداعيات السياسية والأمنية /العسكرية الناجمة عن تفوق قوات الدعم السريع في المعارك خلال المرحلة الأولى من الحرب.
أولًا- التطورات الميدانية للحرب السودانية:
مع مرور الوقت، اتسعت دائرة الحرب ومناطق العمليات بين قوات الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع لتشمل نحو أكثر من 60% من مدن وولايات السودان، في صراع لتعزيز مناطق النفوذ والسيطرة من قبل طرفي الحرب، بشكل يُعزز من ثقلهم السياسي والعسكري، في حين لم تثن أي دعوات إقليمية ودولية للوساطة والتهدئة من قبل السعودية ومصر والولايات المتحدة وآخرهم الإيغاد، طرفي الحرب لوقف القتال ولو بشكل مؤقت؛ لاعتبارات إنسانية لتأتي خريطة مناطق السيطرة والنفوذ لكل من قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى مناطق الاشتباكات، على النحو التالي:
1- مناطق خاضعة لسيطرة الجيش السوداني:
تراجعت بشكل كبير مناطق نفوذ وسيطرة قوات الجيش السوداني داخل العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث (الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري) في الفترة الأخيرة، مقارنة بالأشهر الأول من الحرب التي تمركزت خلالها الاشتباكات في ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان، مما دفع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان لنقل مقر إدارة البلاد إلى بورتسودان، حيث يُسيطر الجيش على شرق البلاد وشمالها.
فأما بالنسبة لمناطق نفوذ وسيطرة الجيش السوداني، فلا يزال يحتفظ الجيش ببعض تمركزاته العسكرية في العاصمة؛ إذ يسيطر على منطقة الشجرة العسكرية، التي يوجدا فيها مقرا سلاحي “الذخيرة والمدرعات”. وفي حين أن الجيش فقد جزئيًا مقر المدرعات، إلا أنه لا يزال يسيطر سيطرة كاملة على مقر “سلاح الذخيرة”، وتظل هذه المنطقة تمثل بؤرة صراع مشتعل وهجوم متواصل من قبل قوات الدعم السريع.
كما يسيطر الجيش على مقر “القيادة العامة” وسط الخرطوم، ثم المنطقة الشمالية منها، والمحاذية لسلاح الإشارة التي تضم جسر “الحديد”، الرابط بين مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري، وكذلك يُسيطر على معسكر سلاح المدرعات ومعسكر سلاح المهندسين. كما كانت تحتفظ قوات الجيش- حتى وقت قريب- بـ”منطقة جبل أولياء”، عند مدخل مدينة الخرطوم من الناحية الجنوبية قبل أن يفقدها، في أواخر نوفمبر2023، بعد معارك طاحنة مع قوات الدعم السريع التي بسطت سيطرتها على المنطقة مؤخرًا، واتجهت نحو ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة. وسيطرت عليها، مع انسحاب قوات الجيش إلى ولاية سنار، وهو ما مثل (السيطرة على ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة) نقطة تحول مهمة في ميزان الحرب، فتحت الباب لقوات الدعم السريع للتوجه نحو ولايات الشرق كالقضارف وكسلا، وكذلك التوجه نحو الجنوب كسنار وكوستي.
ورجوعًا لتطورات الحرب في “الخرطوم بحري”، إحدى مدن العاصمة السودانية الثلاث، يحتفظ الجيش بمقراته الرئيسة، وهي “سلاح الإشارة” على ضفة النيل الأزرق الفاصل بينه وبين مقر “القيادة العامة” في الخرطوم، كما يحتفظ بمقر “سلاح الأسلحة والذخيرة” بمنطقة “الكدرو العسكرية”، التي تقع في شمال مدينة بحري، ومعسكر “حطاب” شمال شرق المدينة، ومعسكر “العيلفون” في الجنوب الشرقي لمدينة بحري، وهي مواقع تظل محل استهداف من قبل قوات الدعم السريع في الآونة الأخيرة.
خريطة: مناطق سيطرة قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ومناطق الاشتباك حتى 9 يناير2024
أما في مدينة “أم درمان”، فتتسع مساحة سيطرة الجيش السوداني خارج مقاره العسكرية لتشمل أحياء سكنية يقيم فيها ارتكازات للتفتيش والتحقيق من هوية المارة، حيث تخضع كامل “منطقة الثورات” شمال المدينة لسيطرته. أما بالنسبة لمناطق التمركز العسكرية في شمال المدينة، فتتمثل في منطقة “كرري العسكرية” –أكبر المقار العسكرية في المدينة- التي تضم قاعدة “وادي سيدنا” الجوية، وغيرها من المواقع المتخصصة، التي تقع محل استهداف متواصل من قبل قوات الدعم السريع.
وعلى عكس استراتيجيته في مدينتي “الخرطوم والخرطوم بحري” القائمة على الدفاع، يتبع الجيش في مدينة أم درمان أسلوب الهجوم البري على مواقع قوات الدعم السريع، التي تتمركز قريبة منه جنوبًا وغربًا. ولا يزال تشن قوات الجيش السودان هجمات متتالية على تمركزات الدعم السريع في أحياء أم درمان القديمة، والسوق الشعبي، في محاولة لفكّ الحصار والعزلة عن مقر “سلاح المهندسين” الواقع وسط أم درمان، والذي ملا يزال يحتفظ به، رغم عزل قوات الدعم السريع له عن منطقة كرري العسكرية منذ بداية الحرب.
وفي 31 يناير، أفاد شهود عيان عن تقدم قوات الجيش السوداني في عدد من المحاور بأم درمان، بدءًا بشارع الوادي، والثورة بالنص، والشنقيطي، والامتداد، وصولًا إلى سوق أم درمان القديمة، فضلًا عن محور السوق الشعبية، وسوق ليبيا، وأمبدة.
أما بالنسبة لمناطق سيطرة الجيش السوداني خارج العاصمة، فيسيطر الجيش السوداني سيطرة كاملة على 9 ولايات، هي: “الشمالية، نهر النيل، الجزيرة، النيل الأبيض، النيل الأزرق، سنار، القضارف، كسلا، البحر الأحمر”، إلى جانب احتفاظه بمقاره العسكرية في “الأبيض” شمال كردفان، و”كادوقلي والدلنج” جنوب كردفان، و”بابنوسة” غرب كردفان، و”الفاشر” شمال دارفور.
2- مناطق سيطرة قوات الدعم السريع:
على النقيض من حجم مناطق ونفوذ قوات الجيش السوداني في العاصمة الخرطوم، تُسيطر قوات الدعم السريع على المساحة الأكبر من العاصمة بمدنها الثلاث؛ فباستثناء المواقع المشار إليها سابقًا الخاضعة لسيطرة قوات الجيش، تحكم قوات الدعم السريع قبضتها على بقية الأجزاء الأخرى، وتنشر “ارتكازاتها” في الطرقات، والمداخل، وتطوق مواقع الجيش العسكرية.
ومن أهم المواقع العسكرية التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع بعد معارك عنيفة مع الجيش، هي: “القصر الجمهوري، قيادة منطقة الخرطوم العسكرية، المنطقة الاستراتيجية، مجمع اليرموك لصناعة الأسلحة، القيادة الجوية، قيادة قوات شرطة الاحتياطي المركزي، منطقة جبل أولياء العسكرية”. كذلك تُسيطر قوات الدعم السريع على جسور “المنشية، سوبا، جبل أولياء” سيطرة كاملة، بينما تتقاسم السيطرة مع الجيش السوداني، على 4 جسور، في حين فقدت جسر شمبات الرابط بين أم درمان وبحري، عقب تدميره، في 11 نوفمبر 2023، بعد أن كانت تسيطر عليه كليًا منذ بداية الحرب.
أما بالنسبة لمناطق سيطرة قوات الدعم السريع خارج العاصمة، فتسيطر قوات الدعم السريع سيطرة كاملة على 4 ولايات بإقليم دارفور، هي “شرق وغرب ووسط وجنوب دارفور”، بينما تظل مدينة “الفاشر” عاصمة شمال دارفور، محل نزاع مع الجيش السوداني والحركات المسلحة المتحالفة معه. وفي إقليم كردفان، تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء من ولايات “غرب وجنوب وشمال كردفان”، بينما الأجزاء الكبرى في هذا الإقليم هي تحت سلطة الإدارات الأهلية المستقلة عن طرفي الصراع العسكري في السودان.
3- مناطق الاشتباك بين الجيش وقوات الدعم السريع:
تتعدد مناطق الاشتباك بين قوات الدعم السريع والجيش في مختلف ولايات السودان، لا سيما في المناطق الوسطى والجنوبية والشرقية، التي تُمثل منافذ رئيسية لتمدد قوات الدعم السريع لمناطق جديدة خاضعة لسيطرة الجيش السوداني، يُمكن تناول أبرزها كالتالي:
أ- شمال مدينة الخرطوم بحري: اندلع يوم 27 يناير اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، شمال مدينة الخرطوم بحري، بمناطق الكدرو، والحلفايا، والدروشاب، في أوسع اشتباكات تشهدها العاصمة الخرطوم خلال الفترة الأخيرة؛ حيث سُمع دوي انفجارات عنيفة قرب جسر الحلفايا من الجهة الشرقية، إضافة إلى “سلاح الأسلحة” بمنطقة الكدرو العسكرية الواقعة تحت سيطرة الجيش، بينما تُسيطر قوات الدعم السريع على مدخل جسر الحلفايا من جهة الشرق حيث مدينة الخرطوم، في حين يُسيطر الجيش من الجهة الأخرى بمدينة أم درمان، كما يحتفظ بمعسكراته في شمال مدينة الخرطوم بحري، وهي شادول وحطاب و”سلاح الأسلحة”، حيث تجري مواجهات بالقرب منها.
ولقد أوضحت مصادر أن الجيش تمكن من السيطرة على مقر رئيسي لقوات الدعم السريع في ضاحية الكدرو، علاوة على جسر “الجوفة” الواقع شمال شرق المنطقة والرابط بين منطقة الكدرو ومصفاة الجيلي، بالإضافة إلى رصد انتشار كبير للجيش من سلاح الإشارة حتى شارع الصناعات بحري، علاوة على وجوده الكبير في أحياء نبتة والدروشاب والسامراب، وهي مواقع بعضها كانت تشهد وجودًا كثيفًا لقوات الدعم السريع، كما أشارت إلى عمليات إنزال جوي لقوات سلاح المظلات.
على الجانب الآخر، نفت قوات الدعم السريع يوم 31 يناير، ما تردد خلال اليومين الماضيين عن فرض قوات الجيش السوداني حصارًا على مصفاة الجيلي في الخرطوم، مؤكدة أن قواتها موجودة في جبال البكاش الذي يزعم الجيش السوداني أنه وصل إليها بالقرب من مصفاة الجيلي بالخرطوم بحري.
ب- ولاية غرب كردفان: وتشتد المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في ولاية غرب كردفان منذ 24 يناير ولا تزال مستمرة لليوم الرابع على التوالي للسيطرة على مقر قيادة الفرقة الـ22 التابعة لقوات الجيش بمدينة بابنوسة، عقب حصار قوات الدعم السريع للمنطقة منذ أكثر من أسبوع. وتقع مدينة “بابنوسة” في ولاية غرب كردفان المحاذية لإقليم دارفور من الجهة الشرقية، كما تقع جنوبها دولة جنوب السودان، وتمتد شرقًا حتى منطقة جبال النوبة، حيث تسيطر الحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو، على مساحات واسعة هناك.
وكانت الإدارة الأهلية لقبيلة المسيرية، التي تقطن ولاية غرب كردفان، طالبت قوات “الدعم السريع” بعدم مهاجمة مقر “الفرقة الـ22” مشاة في مدينة بابنوسة، واستثنائها أسوة بالفرقة السادسة في مدينة الفاشر. ويتقاسم الجيش والدعم السريع السيطرة على إقليم كردفان الذي يقدر تعداد سكانه بأكثر من 8 ملايين نسمة ويعتبر المركز الرئيسي للثروة الحيوانية والبترولية في البلاد. ومنذ اندلاع القتال، تشهد عدة مناطق في الإقليم معارك مستمرة خصوصًا حول مدينة الأبيض أكبر مدن الإقليم.
جـ- ولاية سنار: تقترب قوات الدعم السريع أيضًا من ولاية سنار، ومن المرجح أن تستعد لهجوم جديد على ولاية النيل الأبيض المجاورة، حيث سجلت منطقة جبل موية التي تربط بين مدينة سنار ومدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض هجمات من قبل قوات الدعم السريع.
د- ولاية القضارف: نشرت قوات الدعم السريع في 1 فبراير2024، مقطع فيديو لقائدها الميداني “أبوعاقلة كيكل”، الذي اجتاح ولاية الجزيرة، يؤكد فيه وصول قواته إلى جبال حريرة والمقرح على مشارف منطقة الفاو داخل حدود ولاية القضارف .ويأتي ذلك في الوقت الذي أكد فيه الجيش تغطيته الأمنية الواسعة لحدود ولاية القضارف شرق البلاد، بعد دحر رتل استطلاعي لقوات الدعم السريع في منطقة ميجر 5 و6 على تخوم الولاية.
ثانيًا- مخاطر عدة.. تداعيات التفوق الميداني لقوات الدعم السريع:
إن تمكن قوات الدعم السريع من قلب ميزان المعركة لصالحه خلال الشهور الأخيرة من العام 2023، يكشف عن تداعيات خطرة على المستويين السياسي والأمني/ العسكري، بما يُهدد مستقبل ووحدة الدولة السودانية، وهو ما يُمكن مناقشته على النحو التالي:
1- محاولة حميدتي لاكتساب الشرعية السياسية بعد سيطرته على ود مدني:
اتخذ حميدتي عددًا من الخطوات التي كشفت عن سعيه لتوظيف التفوق الميداني لقواته في ساحة المعركة حتى الآن، لا سيما عقب سيطرته على ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة لحصد مكاسب سياسية مهمة؛ أولها: التشكيك في شرعية البرهان السياسية، انطلاقًا من عدم قدرة الفريق الأول البرهان على القيام بمسئوليته كرئيس لمجلس السيادة الانتقالي في الحفاظ على الدولة السودانية والالتزام بالمسار الانتقالي للسودان أولًا، وتحالفه مع نظام الإخوان ثانيًا، ناهيك عن التسبب في تراجع قدرات الجيش، على ضوء النتائج الأولية للمعارك حتى الآن. بالإضافة إلى أن قوات الجيش تُحاصر باتهامات بشأن قصفها المناطق السكنية والتسبب في سقوط عدد من المدنيين.
أما بالنسبة لثاني التداعيات السياسية، فتتمثل في توظيف تفوقه في المعارك القتالية وتعظيم مناطق نفوذه، في فرض شروطه ورؤيته للمسار الانتقالي للبلاد في أي مسار تفاوضي بوساطة أفريقية أو عربية أو دولية، وهو ما يعني الانتقاص من شرعية الفريق الأول البرهان، وبالتالي تعقيد التوصل لأي تسوية سياسية للحرب، وهو ما يفسر في جانب منه رفض البرهان لقاء حميدتي عقب إعلان قمة الإيغاد المنعقدة في جيبوتي في 11 ديسمبر2023 على موافقة الطرفين على عقد لقاء ثنائي بينهما.
بل قد يذهب حميدتي لشرعنة انتصاراته الميدانية سياسيًا، إلى إنشاء حزب سياسي بزعامته للانخراط في المباحثات السياسية المحددة للمسار الانتقالي في مرحلة ما بعد الحرب، مع الاحتفاظ بجناحه العسكري.
يُضاف إلى ذلك، يسعى قائد قوات الدعم السريع حميدتي للحصول على شرعية سياسية من الخارج؛ حيث سافر حميدتي عقب وقت قصير من سيطرة قواته على ود مدني، إلى أوغندا وإثيوبيا وجيبوتي وكينيا وجنوب أفريقيا ورواندا لإجراء مناقشات ثنائية مع الحكومات الإقليمية، في مناورة سياسية تهدف إلى تعزيز علاقاته الخارجية واكتسابه الشرعية السياسية الخارجية لانتصاراته الميدانية، أكثر من كونها جهدًا صادقًا لإنهاء الحرب، كما هو معلن.
2- بدء مرحلة جديدة من الحرب.. التداعيات الأمنية /العسكرية للتفوق الميداني للدعم السريع:
وفقًا لما تم رصده من تطورات ميدانية للحرب، يُمكن القول إن المرحلة الأولى من الحرب السودانية انتهت عقب سيطرة قوات الدعم السريع على ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، التي شكلت نقطة تحول مهمة في الحرب تكشف عن بدء مرحلة جديدة منها ذات تداعيات أمنية وعسكرية خطرة، انطلاقًا من نقاط عدة؛ أولها: أن سقوط ود مدني فتح الباب لقوات الدعم السريع للتمدد لمناطق جديدة، لا سيما في المناطق الوسطى مثل ولاية سنار، والشرق مثل القضارف وكسلا وبورسودان.
أما بالنسبة لثاني التداعيات المهمة والخطيرة: فتتمثل في ترك انطباع في أذهان المواطنين، وكذلك الحركات المسلحة بتراجع قدرة الجيش على صد هجمات قوات الدعم السريع، وأن هناك حاجة لتعبئة قواتها للدفاع عن نفسها، وهو ما انعكس في عدد من المؤشرات الدالة، أبرزها؛ تصاعد الأصوات المطالبة بتفعيل المقاومة الشعبية في معظم المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني في ولايات الشمالية، ونهر النيل، والقضارف، وسنار، وكسلا وغيرها من المناطق، لمواجهة قوات الدعم السريع المتهمة بارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين، وهي الدعوات التي لاقت استجابة واسعة في أوساط الشباب.
ولقد قدمت الحكومات المحلية في عدد من المناطق والولايات الدعم لهذه الدعوات سواء بتوفير السلاح وتدريب المواطنين أو تنسيق وتنظيم هذا الحراك الذي لاقى تأييدًا لافتًا من أنصار النظام السابق وتشجيع من زعماء قبائل وإدارات أهلية، وهو ما يُستدل عليه بمقطع فيديو لوالي ولاية نهر النيل محمد البدوي الذي أعلن فيه أن ولايته أصحبت جاهزة لصد أي هجوم محتمل.
أما بالنسبة لثالث التداعيات الخطرة: فتتمثل في أن دعوات التعبئة والحشد لاقت استجابة من قبل الميلشيات العرقية، التي وجدت نفسها أمام حتمية تعبئة قواتها لصد هجمات قوات الدعم المحتملة؛ ففي أعقاب سيطرة قوات حميدتي على 4 ولايات في دارفور في نوفمبر 2023، أدّت المخاوف بشأن زحف قوات الدعم إلى شمال دارفور الخاضعة لسيطرة الجيش إلى تعبئة الحركات المسلحة في دارفور قواتها للدفاع عن المدينة؛ مثل فصائل مناوي، وعبد الواحد النور، وتمبور، وجبريل إبراهيم، وميليشيات عرقية مختلفة، بما في ذلك الزغاوة. كما اتحد فصيل حركة تحرير السودان التابع لمناوي وفصيل حركة العدل والمساواة التابع لجبريل إبراهيم تحت راية قوات دارفور المشتركة.
ومع تصاعد التوتر في المدينة وسعيًا من قوات الدعم السريع لتجنب المواجهات، سحبت الأخيرة نحو 620 مركبة قتالية من الفاشر والمناطق المحيطة بها إلى كردفان يوم 28 نوفمبر، بدعوى أنها كانت خطوة منسقة تم الاتفاق عليها مع القوات المشتركة لدارفور، وهو ادعاء نفته القوات المشتركة لدارفور لاحقًا. تبعه قيام القوات المسلحة السودانية بتحصين المواقع حول مقر فرقة المشاة الـ6، لكن هذا لم يمنع من اندلاع اشتباكات بين قوات الدعم السريع وبعض الحركات المسلحة كالتي وقعت يومي 23 و24 ديسمبر بين حركة جيش تحرير السودان فصيل عبد الواحد النور وقوات الدعم السريع بعد أن هاجمت الأخيرة المدنيين.
بل دفعت التطورات الميدانية ثلاث حركات مسلحة للتخلي عن حيادها والوقوف بجانب قوات الجيش، الأولى تتبع جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي، والثانية تتبع مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، بينما تتبع ثالث المجموعات مصطفى طمبور رئيس حركة تحرير السودان. على الجانب الآخر، أعلنت ثلاث حركات مسلحة في نوفمبر 2023 تمسكهم بالحياد؛ هم حركة تحرير السودان ورئيسها الهادي إدريس، والطاهر حجر رئيس تجمع قوى تحرير السودان، وحافظ إبراهيم عبد النبي نائب رئيس التحالف السوداني، مع تصاعد الأصوات المحذرة من جرّ البلاد إلى حرب أهلية لن يُحمد عقباها، ولن يُحقق فيها أي طرف انتصار كامل، بل انتصارات جزئية زائفة، مع اتجاه السودان لمسار التقسيم، ودخول البلاد في حرب استنزافية طويلة الأمد.
بينما تتمثل رابع التداعيات الخطرة للتصعيد العسكري: في أنه أتاح المجال لأبرز حركتين في البلاد وهما حركتا عبد العزيز الحلو التي تتركز في جنوب كردفان وعبد الواحد محمد نور المتمركزة في منطقة جبل مرة بدارفور في غرب البلاد، لتعزيز سيطرتهما على الأرض. فعلى سبيل المثال، سيطرت حركة نور في ديسمبر 2023 على أكبر معسكر لقوات الدعم السريع في منطقة دربات رئاسة محلية شرق جبل مرة بولاية جنوب دارفور عقب انسحاب قوات الدعم السريع وبشكل مفاجئ إلى مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، وهو الانتصار الميداني للحركة الذي يأتي استكمالًا لسيطرتها على مواقع جديدة في ولايات جنوب ووسط وشمال دارفور مستغلة الفراغ الأمني الذي خلفه القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع.
أما بالنسبة لخامس المخاطر المحتملة لتراجع الجيش في المعارك: فتتمثل في صدى وانعكاسات ذلك على تماسك الجيش السوداني، واحتمالية حدوث انشقاقات داخل صفوفه، إما نتيجة لوجود تيار معارض لخط سير العمليات والقرارات التي يتخذها الفريق الأول البرهان، أو نتيجة لاختراق الجيش من قبل عناصر داعمة لقوات الدعم السريع، والتي قد تكون لها اليد العليا في تقهقر الجيش وانسحابه من مواقع ومدن عدة دون خوض معارك لصدّ تقدم قوات الدعم السريع، مثلما حدث في مصنع اليرموك، ومعسكر جبل أولياء ومعظم حاميات دارفور، وآخرهم ود مدني، بطريقة أقرب إلى عمليات التسليم والتسلم، وهو ما يُستدل عليه بالبيان الصادر عن القوات المسلحة السودانية حول انسحاب الفرقة الأولى مشاة من ود مدني والذي تحدث لأول مرة، عن تحقيقات جارية لمعرفة “الأسباب والملابسات التي أدّت لانسحاب القوات من مواقعها من ود مدني شأن بقية المناطق العسكرية”، وهو ما يُشير في مضمونه إلى أن انسحابات قوات الجيش من عدة مناطق ومواقع عسكرية كانت غير مبررة.
ويبدو أن الفريق الأول البرهان يدرك مخاطر تراجع المكاسب الميدانية لقوات الجيش أمام تقدم قوات الدعم السريع في ساحة المعارك، ويسعى جاهدًا لتوفير آليات دعم ممكنة تُمكنه في أقرب التقديرات من صد هجمات الدعم السريع، وتأمين المناطق الخاضعة لسيطرته، كان من بينها؛ عقد البرهان لقاءً مفاجئًا مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في نوفمبر 2023، على هامش القمة العربية الإسلامية التي استضافتها السعودية، وذلك بعد قطيعة استمرت عدة سنوات بين الخرطوم وطهران، يبدو أنها جاءت للتباحث بشأن دعم طهران لقوات الجيش السوداني بطائرات غير مأهولة إيرانية من طراز “مهاجر”، التقطت الأقمار الصناعية فيما بعد صورًا لها في قاعدة “وادي سيدنا” العسكرية، التي يسيطر عليها الجيش في أم درمان.
وهو الدعم الإيراني الذي من المرجح أن يأتي نظير توفير البرهان لطهران منفذًا على ساحل البحر الأحمر، في الوقت الذي تتصاعد فيه الأحداث في هذا الممر الدولي البحري الحيوي.
خلاصة القول، على مدار ما يقرب من عام منذ اندلاع الاقتتال العسكري بين الجيش السوداني برئاسة الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، سجلت الحرب عدة معارك وحالة من الشد والجذب بين طرفي الحرب، اتسع خلالها نطاق الحرب ليشمل نحو 60% من الأقاليم السودانية، بعدما كان الاقتتال منحصرًا خلال الأشهر الأول من الحرب في ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان.
كما تمكنت قوات الدعم السريع من حصد عدة مكاسب ميدانية خلال المرحلة الأولى من الحرب، وهو ما يُنذر بتداعيات خطرة على مستقبل الدولة السودانية المتجه نحو سيناريو التقسيم على غرار السيناريو الليبي، والذي سيلقي بظلاله على أمن دول الجوار السوداني، لا سيما مصر، وكذلك على حدة التوترات في الممر الدولي البحر الأحمر، وهو ما يفرض على قائد قوات الجيش السوداني الفريق الأول البرهان إعادة النظر في استراتيجيته القتالية، والبحث عن مصادر دعم عسكري جديدة حتى يتمكن من صدّ تقدم قوات الدعم السريع، وإعادة فرض سيطرته على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات حميدتي.