في الذكري الـ75 على إنشاء حلف شمال الأطلسي، أعلن حلف الناتو في 18 يناير 2024 عن استعداده تنفيذ أكبر مناورة عسكرية في تاريخه تحت مُسمى “Steadfast Defender “المدافع الصامد”، في فبراير 2024 وستمتد ليونيو القادم، بمشاركة نحو 90 ألف جندي من كافة الدول الأعضاء الـ31، وكذلك الدولة المرشحة السويد، في محاكاة لهجوم روسي على أراضي الحلفاء، واتجاه الحلف لتفعيل البند الخامس(الدفاع الجماعي) من معاهدة الناتو وتحريك قواته من أميكا الشمالية لأوروبا، في حال تصاعد الصراع لمواجهة بين طرفين يمكن أن يقتربا من أن يكونا ندين، وذلك في ظل سياق أوروبي مضطرب على وقع الحرب الأوكرانية، وتسجيل الساحة الميدانية حالة من التجاذب بين طرفي الحرب، لم ينجح أياً منهما حتى الآن على حسم الحرب لصالحه، وهو ما يدفع للتساؤل حول: دلالات إعلان حلف الناتو تنفيذ أكبر مناورة عسكرية في تاريخه، انطلاقاً مما تتسم به مناورة المدافع الصامد من عناصر تفرد؟ ، وهو ما سيتم مناقشته على النحو التالي:
أولاً: عناصر تفرد المدافع الصامد وما تحمله من دلالات
إن حرص حلف الناتو على تنفيذ أكبر مناورة عسكرية في تاريخ الحلف يحمل عدد من سمات التفرد التي تبث في مضمونها بعدة رسائل، ناهيك عما تكشفه من دلالات، أبرزها التالي:
1- النطاق المكاني والمدى الزمني غير المسبوقين:
إن أحد عناصر التفرد في المناورة العسكرية المرتقبة تتمثل في عدد القوات المشاركة فيها والتي تبلغ نحو 90,000 فرد من كافة الدول الأعضاء في الحلف الـ 31، بالإضافة إلى مشاركة الدولة المرشحة للانضمام إلى الحلف (السويد) ؛ حيث أن أكبر تدريبات عسكرية للحلف تم تنفيذها كانت في العام 2018 تُسمى ” ترايدنت جنكشتر” بمشاركة 51 ألف جندي فقط، بالإضافة إلى مشاركة نحو50 سفينة بحرية و80 طائرة وأكثر من 1000 مدرعة في المدافع الصامد. ولقد أعلنت المملكة المتحدة إلتزامهابإرسال 20,000 جندي مدعومين بطائرات مقاتلة متقدمة وطائرات مراقبة وسفن حربية وغواصات، على أن يتم نشر العديد منهم في أوروبا الشرقية خلال الفترة (فبراير- يونيو)، وهو ما يعكس حجم التضامن بين دول الحلف، ووزنه العسكري والسياسي المترامي في أوروبا وعبر الأطلسي.
علاوة على ذلك، تُغطي المناورة منطقة جغرافية واسعة تمتد من أقصى الشمال إلى وسط وشرق أوروبا، خاصة أنه عقب انضمام فلندا تضاعفت الحدود المشتركة بين روسيا والناتو لتصل إلى 2600 كيلومتر، بما يكشف عن قدرة الناتو على إجراء عمليات معقدة متعددة الأبعاد على فترة زمنية طويلة (فبراير- يونيو) وعبر آلاف الكيلومترات،على أن تشمل مواقع التدريب دول البلطيق وبولندا وألمانيا.
ومن اللافت أن مناورة المدافع الصامد تُعد جزءًا من استراتيجية تدريب جديدة ستشهد قيام الحلف كل عام بمناورتين كبيرتين، بدلاً من تدريب واحد، وأن التدريب يتضمن التصدي لأي هجوم من خصوم مماثلين وكذلك تهديدات إرهابية خارج حدوده المباشرة؛ حيث تأتي تدريبات المدافع الصامد كمحاولة لتخطي التحدي المتمثل في نقل الجنود والمعدات على هذا النطاق الجغرافي الواسع، بعدما كشفت الحرب الأوكرانية عن بطء استجابة الحلف في الرد على أي هجوم، وهو ما يُمكن أن يؤدي إلى احتلال جزء من أراضي دوله، وهو ما انعكس في تصريح القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الجنرال الأمريكي كريستوفر كافولي، بقوله “أن المناورة ستُظهر القدرة على تعزيز منطقة أوروبا والأطلنطي عبر تحريك القوات من أمريكا الشمالية عبر المحيط الأطلنطي”.
2- دلالة التوقيت الاستراتيجي للمدافع الصامت
تأتي مناورة “المدافع الصامت” في خضم توقيت استراتيجي بالغ الأهمية يرتبط بتطورات الحرب الأوكرانية، وما أفرزته من مهددات لأمن أوروبا عموماً، ولأمن دول الجناح الشرقي للحلف على وجه الخصوص، ومن ثم، يحمل إعلان الحلف تنفيذ المناورة في هذا التوقيت عدة دلالات، هي كالتالي:
أ- تراجع الدعم العسكري لكييف وتسجيل موسكو تقدم محدود في الحرب الأوكرانية:
عقب مرور نحو 700 يوم من اندلاع الحرب الأوكرانية واقتراب الذكري الثانية للحرب التي دخلت مرحلة استنزاف، بعدما عجز طرفيها عن تحقيق مكاسب إقليمية كبيرة، سجل الدعم العسكري الغربي لكييف تراجع كبير خلال الأشهر الماضية، لاسيما عقب نشوب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما دفع الرئيس الأوكراني زيلنيسكي في نوفمبر 2023 للتصريح قائلاً: ” في الوقت الحالي، أركز على الحصول على المساعدة من الغرب. لقد تحول انتباههم وانتقل لمنطقة ثانية بسبب الوضع في الشرق الأوسط ولأسباب أخرى. وبدون دعمهم، سنقوم بالتراجع“.
ولا تزال أوكرانيا تحث شركاءها في الغرب على الاستمرار في تزويدها بالأسلحة والذخائر والصواريخ المضادة للطائرات وغيرها من معدات، لكن يبدو أن كييف قد فاض بها الكيل من انقسام الموقف الغربي بشأن استمرار الدعم العسكري لكييف، وهو ما انعكس في تصريح وزير الخارجية الأوكراني “دميترو كوليبا”، قائلًا: “على الرغم من أن الأمر قد يبدو مثيرًا للسخرية، إلا أنه يبدو أن كوريا الشمالية شريك أكثر كفاءة بالنسبة لروسيا من الأصدقاء الذين يزودون كييف بذخيرة المدفعية بالنسبة لنا“.
ونتيجة لتراجع الدعم العسكري لكييف، سجلت القوات الأوكرانية تراجع في الفترة الأخيرة في الجبهة القتالية، لصالح موسكو التي حققت تقدمًا بالقرب من مدينة كريمينا في مقاطعة لوهانسك وأفديفكا في مدينة دونيتسك وفي مدينة باخموت وسط استمرار الاشتباكات وفقاً لمعهد دراسة الحرب، مع تكثيف روسيا ضرباتها الجوية، واطلاقها مئات الصواريخ والطائرات غير المأهولة على مدن أوكرانية بعيدة عن خط المواجهة، وهو ما يُثير قلق عدد من الدول الأوروبية، لاسيما دول شرق أوروبا، التي تري أن استمرار الدعم العسكري لكييف هو الضمان الوحيد لأمن دولها القومي، لاسيما الدول غير العضو في حلف الناتو مثل مالدوفيا التي حذر وزير خارجيتها “نيكيو بوبيسكو من نتائج كارثية على دول المنطقة بأسرها في حالف توقف الدعم العسكري لكييف.
ولكون ألمانيا أكثر الدول الأوروبية الداعمة لكييف بتقديمها مساعدات بلغت نحو 6 مليارات يورو منذ نشوب الحرب الأوكرانية، اثار تراجع الدعم العسكري لكييف غضب المستشار الألماني أولاف شولتس الذي يحث حلفاءه في الحلف على عقد صفقات تسليح لكييف، حتى تتمكن القوات الأوكرانية من صد الهجوم الروسي باعتبار أن كييف هي حائط الصد المنيع لأمن أوروبا من جانب، ولتخفيف العبء المالي الأوكراني عن برلين من جانب آخر، لاسيما عقب إعاقة الكونجرس الأمريكي حزمة من المساعدات العسكرية لكييف بقيمة 61 مليار دولار ، ناهيك عن منع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تمرير حزمة من المساعدات المالية الأوروبية لأوكرانيا بقيمة 55 مليار دولار، وهو الموقف الذي وصفه أحد السياسيين الألمان بالقول “إن الأمر يشبه جلوس بوتين نفسه على الطاولة”. كل ذلك، في خضم معاناة الجيش الأوكراني من نقص في عدد قواتها، وحاجتها لتعبئة نحو نصف مليون مقاتل أوكراني لتتمكن من الاستمرار في الحرب. لذا، تأتي المناورة كرسالة تطمين لكييف، وشركاء الحلف الأوروبيين وكذلك لأعضاءه، لاسيما دول الجناح الشرقي، بأن الناتو ملتزم بحماية وأمن دوله، وتقديم الدعم لشركاءه.
ب- ردع موسكو عن تنفيذ هجوم محتمل على حلف الناتو :
كشف تقرير ألماني سري صادر عن وزارة الدفاع الألمانية واضطلعت عليه صحيفة بيلد الألمانية في يناير 2024، عن سيناريو محتمل لهجوم روسي على حلف الناتو من المرجح اندلاعه في صيف العام 2024، وسيبدأ التحضير له في فبراير القادم الذي ستبدأ فيه موسكو تعبئة عسكرية مكثفة لتجنيد نحو 200 ألف جندي، وهو ما يُفسر في جانب منه دلالة تحديد الحلف فبراير موعد لبدء تنفيذ تدريبات المدافع الصامد.
ولقد اضاف التقرير أن الهجوم الروسي المحتمل على الحلف يأتي عقب تحقيق موسكو انتصارات كبرى في أوكرانيا، مما يخلق لدى موسكو حافزاً قوياً لتنفيذ هجوم سري، يليه هجوم مفتوح على دول البلطيق في يوليو من نفس العام، عقب اندلاع مواجهات إثنية في دول البلطيق يشعلها السكان المحليين الناطقين بالروسية، والتي ستتخذها موسكو ذريعة لإعادة تمركز نحو 50 ألف جندي في غرب روسيا وبيلاروسيا ونقل صواريخ متوسطة المدى إلى كالينينغراد، لضرب ممر سووالكي – أرض ضيقة بطول 60 كيلومترا على الحدود البولندية الليتوانية التي تحدها بيلاروسيا من جهة وجيب كالينينغراد الروسي من جهة أخرى- وذلك في سبتمبر 2024. وفي مايو 2025، سيُقرر حلف الناتو الرد على هذا السيناريو الروسي المرجح وفقاً للتقرير الألماني، وسينقل 300 ألف عسكري إلى الجبهة الشرقية، من بينهم 30 ألف جندي ألماني.
يُضاف إلى ذلك، ما نقلته صحيفة تايمز في ديسمبر 2023، بأن وكالة الأمن القومي البولندية حذرت الدول الواقعة على الجانب الشرقي للناتو، من احتمال هجوم روسي، وقالت إن أمامها نحو 3 سنوات للاستعداد له، في خضم ما تعانيه كييف من سلسلة انتكاسات على الجبهات القتالية تضمن تفوق موسكو في الحرب، وبالتالي توجيه أنظار الأخيرة نحو الناتو، وهو التحذير الذي يتفق في مضمونه مع التحذيرات الأمريكية من “نفاد المال والوقت” لمد كييف بمزيد من الأسلحة .
ومن ثم تأتي مناورة المدافع الصامد كأحد الأدوات المتخذة لردع أي هجوم روسي محتمل على الحلف، مع اختبار استراتيجيات الدفاع المحدثة للناتو، وذلك استكمالاً لسلسلة من الخطوات التي اتخذها الحلف لتعزيز منظومته الدفاعية وتعزيز إمكانات دوله العسكرية، والتي يأتي من بينها نشر قوات جديدة في دول الجناح الشرقي للحلف، بما في ذلك نشر قوة الرد الدفاعي الجماعي المكونة من 40 ألف جندي لأول مرة عقب اندلاع الحرب الأوكرانية.
بالإضافة إلى إعلان الحلف عن إبقاء 300 ألف جندي وثماني مجموعات قتالية متمركزة بالقرب من الحدود الروسية في حالة استعداد دائم، ناهيك عن إعلان الحلف في 13 يناير أنه سينقل عددا من طائرات الإنذار المبكر والتحكم “أواكس” (AWACS) المتمركزة في ألمانيا إلى العاصمة الرومانية بوخارست خلال الأيام القليلة القادمة، لتعزيز وجود الناتو ومراقبة الأنشطة العسكرية الروسية”، بالإضافة إلى تحديث فنلندا –أحدث أعضاء الناتو- خطوط السكك الحديدية حول مدينة تورنيو لتسهيل إرسال تعزيزات ومعدات عبر المحيط الأطلسي إلى مدينة كيميجارفي الفلندية الواقعة على الحدود الروسية .
جـ- منع موسكو من تكرار سيناريو الحرب الأوكرانية :
منذ اللحظة الأولى من إعلان موسكو تنفيذ عملية عسكرية شاملة في كييف، ودب القلق في نفوس قادة الدول المجاورة لموسكو وكييف، سواء الأعضاء في الحلف أو أحد شركاءه مثل مالدوفيا، من أن تكون بلادها هي الهدف التالي لموسكو عقب انتصارها في أوكرانيا، وهو ما دفع البعض لتقديم طلب الانضمام للحلف (فلندا والسويد) لضمان وقوعها ضمن مظلة وحماية الحلف، بينما يتخوف البعض من اتخاذ هذه الخطوة، مثلما هو الحال في مالدوفيا التي تخوض حكومتها حرب باردة على مختلف الأصعدة مع موسكو الداعم الرئيسي لجمهورية ترانسنيستريا الانفصالية الواقعة على الحدود الشرقية للبلاد.
يُفسر ما سبق ما اطلقه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في يناير 2024 من تحذيرات بأن انتصار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على بلاده، يعني أن ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا ومولدوفا هي الأهداف التالية. ومن ثم، تأتي المناورة كرسالة دعم وطمأنة لأعضاء الحلف بقدرته على التصدي لأي هجوم بتفعيل المادة الخامسة مع معاهدة الناتو، كما تبث رسالة طمأنه لشركاء الحلف وأعضاءه المحتملين في المستقبل مثل مالدوفيا، بأن المنظومة الأمنية للناتو لاتزال تتسم بالفعالة والسرعة اللازمتين لحماية أمن دولها، وبالتالي احتفاظ الحلف بقدرته على جذب أعضاء جُدد للانضمام إلى عضويته، ومحو أية فكرة ضمنية محتملة لدى لأي من اعضاءه بالانسحاب من الحلف في حال إن تأكد ضعفه وعدم فعاليته.
د- استعادة الناتو لمكانته وصورته في أذهان اعضاءه والمجتمع الدولي؛
حيث كان اندلاع الحرب الأوكرانية بمثابة اختبار للمنظومة الدفاعية ومتي قدرتها على الرد على هجوم شامل مثل الهجوم الروسي الذي كشف لدول الحلف عن حاجتها لتحديث ترسانة أسلحتها ومنظومة دفاعها. ومن ثم، لجأ الحلف لمناقشة تطوير منظومته الدفاعية، والعمل على رفع مستوى التنسيق بين دوله ووحداته وتكثيف نشر قواته العسكرية في الجناح الشرقي للحلف، لضمان تعزيز آلية ردع الناتو؛ وهو ما انعكس بشكل واضح في البيان الصادر عن قمة الناتو المنعقدة في يوليو 2023 في العاصمة الليتوانية. وبالتالي، تأتي تدريبات المدافع الصامد كأحد أدوات الحلف لاستعادة صورته ومكانته في نطاقه الجغرافي، وفي ذهن المجتمع الدولي، لاسيما لدى خصومه .
نهاية القول، مثلت الحرب الأوكرانية نقطة تحول فارقة في تاريخ حلف الناتو واختبار فعلي لاستراتيجيته الدفاعية ومنظومة تسليحه، ومدى التنسيق بين اعضاءه ووحداته العسكرية المنتشرة في ربوع أوروبا، وهو ما كشف للحلف عن حتمية تطوير ترسانة تسليحه وتحديث استراتيجيته الدفاعية، بما يتسق مع قدرات خصومه ومهددات أمن دوله، فكانت مناورة المدافع الصامد أحد آليات ونتائج هذا التحول البارز في هيكل ومنظومه تسليح الناتو واستراتيجيته الدفاعية .